المقالات

الحرب الناعمة وإستراتيجية المواجهة د. بولس عاصي

الحرب الناعمة وإستراتيجية المواجهة
 
 
تمهيد
منذ انهيار الخلافة العثمانية وقيام الكيانات العربية ومن ثم قيام الكيان الصهيوني عام 1948سادت في عالمنا العربي والإسلامي معادلة قامت على ثنائية متناقضة بين تفوق وهيمنته المشروع الغربي والصهيوني وبين الإخفاق وعدم القدرة على قيام مشروع مواجهة يستند إلى مقومات ثقافية وذاتية لشعوب المنطقة. هذه الثنائية ،كانت محكومة ببعدها الغربي والصهيوني،إلى أحد المرتكزات التي ساعدت على ضمان استمرار هذا الخلل . هذا المرتكز هو الحرب الناعمة التي تجلت بإبعاد شتى منها البعد السياسي القائم في امتداداته على التفتيت والتجزئة ، والآخر يرتكز على البعدين الاقتصادي والثقافي بعد انهيار منظومة العالم الاشتراكي وسيادة العولمة.
سنحاول في هذا البحث مقاربة هذه الإبعاد كأساليب للحرب الناعمة وتبيان ملامحها على أن يجري بعدها طرح مجموعة من الأفكار التي تعدّ بنظرنا اقتراحات تصب في خانة إستراتيجية المواجهة.
أولاً: الحرب الناعمة في بعدها السياسي:
يتجلى هذا البعد بأساليب التجزئة ومنع قيام كيان عربي أو إسلامي موحد عن طريق المؤامرات وتأكيد ضمان تفوق الكيان الصهيوني بمعزل عن الحروب. في حين أن خيارات الحروب أصبحت ماثلة فلا بد من استنادها إلى اساليب نفسية ناعمة وتسويغات تترافق معها للاستفادة منها في مشاريع التجزئة وتأكيد الهيمنة على المنطقة. فمنذ معاهدة سايكس بيكو سنة 1916 التي أنهت عملياً مشروع الدولة العربية الكبرى وقيام الكيان- الدويلة والذي تقاسم النفوذ في كل واحد منها كل من بريطانياً وفرنسا، هذا الواقع أنهى مشروع النظام العربي الواحد القادر إقليميا والفاعل دولياً . وإذا كان التأثير في الحرب العالمية الأولى أوروبيا وتحديداً للقوتين المذكورتين ، والذي استمر حتى الحرب العالمية الثانية ، التي دمّرت البنى التحتية والقدرات السياسية لهاتين القوتين. فقد أجبرتا على أخلاء الساحة تباعاً للولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي اللذين لعباً دوراً حاسماً في تقاسم النفوذ في مختلف مناطق العالم وذلك حتى نهاية الثمانيات. بعد غياب الاتحاد السوفياتي عن المسرح العالمي واحتكار الولايات المتحدة الأحادية في قيادة العالم وتفسّخ واضح للموقف العربي مما عزّز الطروحات الإسرائيلية وارجحيتها على حساب الحق العربي،علماً أن اتفاقية"كامب دافيد"بين مصر وإسرائيل سنة 1979 قد زادت من الشرخ العربي وأخرجت عملياً من الصراع العربي الإسرائيلي اكبر قوة كان يراهن عليها منذ وصول الثورة الناصرية سنة 1952 إلى السلطة في مصر.
كما أن دول الصمود والتصدّي التي شكّلت في أعقاب هذه المعاهدة لم توفّق في وقف اندفاع النظام المصري نحو التطبيع مع إسرائيل. غير أن الرفض الشعبي لهذه المعاهدة والعمليات العدائية ضدّ البعثات والوفود الإسرائيلية في مصر هو الذي جمّد عملية التطبيع وفق نصوص معاهدة " كامب دافيد".
وبدأت إعادة العلاقات المصرية العربية تباعاً، منذ قمة عمان 1987،دون أن تقطع العلاقات الرسمية المصرية – الإسرائيلية. واتت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران لتستنزف القدرات العربية ولتحيّد عملياً الصراع المركزي إلى خلافات جانبية بدأت بين العراق وإيران وانتهت بحرب مدمّرة بعد احتلال العراق للكويت ولم تنته ذيولها حتى عام 2003 عندما قامت أميركا بتوجيه ضربة عسكرية جديدة للعراق بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وعدم انصياعه للمقررات الدولية . فهل كانت أميركا تقدر على توجيه مثل هذه الضربات لو كانت البلدان العربية متماسكة ومتفقتة على برنامج متكامل لمجابهة المشكلات الدولية بوحدة حقيقية وإقامة العلاقات وفق المصلحة العربية العليا؟
إن القوى الاستعمارية في المنطقة العربية أرست كيانات يسهل اختراقها فأقامت الحدود بين كيان وآخر مع التركيز على سياسة دفاعية خاصة لكل  كيان بحيث أن الدول العربية الحديثة النشأة أعطت الأولوية لتركيز دعائم حكمها الجديد وأهملت القضايا القومية بحيث أن مشاركتها في مثل هذه القضايا لم يبلور قناعة وفكراً بقدر ما كان مشاركة شكلية لرفع العتب أكثر منه برنامجاً قومياً يعطى كل الفرص من أجل نجاحه. لهذا يمكن القول أن البلدان العربية تعاني من مشاكل متنوعة سياسية- ثقافية واقتصادية تمنعها من لعب دورها كاملاً في المنطقة والعالم. 
أولاً:في المشاكل السياسية:
في ظل غياب الدولة العربية الواحدة توحدت الكيانات العربية في مؤسسة الجامعة العربية التي كان مؤهلة أن تلعب دوراً تخطيطياً وتنفيذياً ما بين الدول الأعضاء من جهة وبينها وبين مختلف الدول والمنظمات الدولية من جهة ثانية.ولكن عدم قدرة الجامعة على حلّ المشكلات العربية- العربية لأن إسهاماتها كانت شكلية لعدم توفّر مسببات الإقناع السياسي والإيديولوجي والعسكري. فكيف تستطيع هذه الجامعة أن ترأب الصدع بين أعضاء يختلفون في الانتماء الفكري والسياسي، فهذا يدين بالرأسمالية  المحافظة وآخر يدين بالاشتراكية المؤمنة وكل واحد يعمل للتربّص بالآخر حتى شلّ عمل الجامعة وأصبح إمكان انعقادها متعذراً.
ولكن المرحلة الحالية للوهن العربي يجب إلا ينسينا المحاولات الجادة في بلورة مشروع وحدوي سنة 1958 وتمثل بالوحدة بين مصر وسوريا. إضافة إلى القمم العربية التي انعقدت بعد هزيمة 1967 وأطلقت الشعارات المعروفة- لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض. وكانت البلدان العربية متوحدة في معالجة قضية العرب الأولى، قضية فلسطين، وقد تمثلت هذه الوحدة لتخصيص المقاومة والبلدان المجاورة لإسرائيل بكل أنواع الدعم المادي والمعنوي وقد تكوكبت الجماهير العربية حول هذه الطروحات وانتظرت كل الخير من عناصر الوحدة التي أظهرتها القمم العربية المذكورة. ولكن الطرح النظري يبقى بعيداً عن التنفيذ إذا ما دخلت عوامل خارجية حالت وتحول لغاية اليوم من تمكين العرب بكافة مواقعهم من بلورة مشروع سياسي وعسكري يهدف إلى تحرير الأراضي المحتلة والحدّ من التدخلات الخارجية في الشؤون العربية.
فمنذ نهاية حرب 1973 على الجبهتين المصرية والسورية والجامعة العربية تعاني من الانشقاق والتباعد بين قطر وآخر حتى أمسى عقد اجتماع قمّة من المهام الصعبة علماً إن الموضوعات الساخنة من احتلال العراق للكويت والاعتداء السافر على العراق من الولايات المتحدة وحلفائها سنة 2003 ومصير المفاوضات العربية – الإسرائيلية والعلاقات الثنائية تستأهل أكثر من قمة في الظرف الراهن.
أما المؤسسات الرديفة التي نشأت إلى جانب الجامعة العربية والتي أعطيت أبعاداً إقليمية كاتحاد دول المغرب العربي- وبلدان مجلس التعاون الخليجي كانت في فكرة إنشائها تهدف إلى الحد من دور الجامعة من جهة وإلى الابتعاد عن مقولة النظام العربي والوحدة العربية ، فأصبحنا نعايش ظاهرة القطرية والمناطقية على حساب القومية والعروبة. حتى انّ الجدران الأمنية ارتفعت بين قطر وآخر أكثر بكثير مما خصصّ للصراع العربي- الإسرائيلي ويستمر بعض المفكرين بطرح فكرة النظام العربي الواحد الذي يستفيد من خيرات الأمة ليوظفها في برامجها الدفاعية والتنموية بينما الواقع يعكس الفرقة والتباعد حتى بين البلدان العربية ذات التوجيه السياسي والاقتصادي الواحد. هذا التباعد جراء السياسية الاستثمارية في عهد الانتدابات والاستثمار المباشر فالخلافات لا زالت قائمة على الحدود بين السعودية واليمن وقطر والإمارات وكلها مآزق لتأزيم العلاقة بين قطر وآخر . فالنظام العربي كاد ينجح لو تسنّت له المؤسسات السياسية المتناغمة ذات التوجيه المشترك والجيش الواحد والاستغلال العقلاني والموضوعي للموارد الطبيعية لا سيما البترول والمياه.
إن العوامل الخارجية الغربية حالت وتحول دون تحقيق هذه الأهداف التي كانت ستمكن الدول العربية من لعب دور حاسم في الصراع الإقليمي وفي القضايا العالمية. وبدل أن تعتمد بعض الدول العربية على المعونة الخارجية ، العسكرية والتقنية، لتأمين استقرار نظامها السياسي وما يقابل ذلك من كلفة من مواردها الطبيعية وارتهانها لقوى خارجية، كان النظام العربي الموعود الحلّ الأمثل لكلّ المشكلات التي تعترض العالم العربي في الوقت الحاضر.
ويحلّ مؤتمر مدريد في عام 1991 مع وعود كثيرة ناعمة في سلام عادل وشامل وشرق أوسط جديد حسب ما قدّمه رئيس وزراء إسرائيل السابق شمعون بيريز والذي يركز على إقامة علاقات تعاونية وتطبيعية بين العرب والإسرائيليين وتشريع احتلال فلسطين .
إن مشاريعها للسلام ليست مستعجلة في ظلّ انقسام عربي واضح وغياب برنامج للمواجهة متكامل ومنسّق مع كافة الدول العربية لا سيّما سوريا ولبنان. وقد بدا واضحاُ انّ الممارسة الإسرائيلية خلال المفاوضات مع سوريا ولبنان سادتها المماطلة وعدم استعداد للانسحاب من الجولان وجنوب لبنان إلا بعد أن تحرز المفاوضات المتعددة الإطراف تقدماً في خصوص المياه وحصة إسرائيل فيها. وقد حسمت المقاومة الصراع سنة 2000 بإجبار العدو الإسرائيلي على الانسحاب من الأراضي  التي احتلتها في جنوب لبنان باستثناء مزارع شبعاً وتلال كفر شوبا مما يبقى المقاومة على سلاحها حتى التحرير الكامل للأراضي المحتلة.
أميركا ترضخ للمقولة الإسرائيلية 
إن الترتيب السياسي الذي يحضر لمنطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من مقولة التوازن الإقليمي بين المشروع الأميركي والمشروع القومي يبقى الرهان على وعي قومي عربي يحرّك الجماهير ويضغط على الأنظمة من اجل إعادة إحياء برنامج سياسي متكامل تلتزم به كافة الدول العربية يكون شعاره الأول والأخير الحفاظ على الحقوق العربية السياسية والاقتصادية علماً أنّ العامل الديني يسهل مدّ هذا الفكر إلى كل من تركيا وإيران ويستحيل عندها إنجاح المشروع الإسرائيلي الذي يطرح التطبيع قبل انجاز السلام الشامل والعادل مع كافة الدول المعنية وفي طليعتها سوريا ولبنان . كما إن معاودة الحديث الذي تردّد عقب أحداث لبنان في عام 1975 عن مشروع لإقامة دويلات طائفية في الشرق انطلاقاً من هذا البلد نرى أن نفس مشروع يتردد انطلاقاً من  العراق بعد تعرضه للاحتلال الأميركي وتفتيت مؤسساته سنة 2003 لنستنتج أن المستفيد الوحيد من ترويج هذه الأفكار هو إسرائيل التي تعمل  على إنشاء دويلات أثنية تبرر استمرار وجودها العنصري في منطقة الشرق الأوسط. وعلى كافة الدول المعنية العمل الدؤوب لإفشال مثل هذه المخططات التي تحفظ إسرائيل كقوّة نوويّة وحيدة تتملّك ما بين 200 إلى 400رأس نووي ضمن مجموعة دول أثنية تتصارع على حماية وجودها. ولنا في ثورة الياسمين في تونس التي أودت بنظام زين العابدين بن علي وثورة 25 كانون الثاني في مصر التي أطاحت بحكم حسني مبارك الذي استمر لأكثر من ثلاثين سنة دون أن يتمكن من الإجابة على تطلعات الأجيال الشابة والقوى المعارضة في قيام حياة ديموقراطية حقيقية تمكن الشعب من اختيار ممثليه حسب الأهلية والكفاءة ويبدو إن السبحة ستكر على الكثير من الأنظمة التي تجاهلت حتى اليوم الرأي الشعبي والشبابي. هل الهيمنة الأميركية على العالم بعد تفتيت الاتحاد السوفياتي إلى اثنيات متناقضة تكفي لفرض مشاريع وصاية جديدة على مختلف مناطق العالم دون موافقة شعوبها وفي كثير من الأحيان دون موافقة أنظمتها المحمية من الولايات المتحدة الأميركية؟ إن الإحساس العربي الموضوعي بالانحياز الأميركي الفاضح إلى جانب إسرائيل كفيل بأن يحيي الوعي الجماهيري ويجبر الأنظمة المتحالفة مع أميركا إلى اعتماد خيارات جديدة يكون عنوانها الأبرز تكامل الجماهير مع الأنظمة في رفض مقولة الاستتباع السائدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية والبحث عن مشروع سياسي جديد يرفض الاستغلال والتبعية والوصاية.
ثانياً : الحرب الناعمة في بعدها الاقتصادي
إنّ الوجه المقابل للانهيار السياسي والتفتت العربي يستتبعه وضع اليد على الموارد الطبيعية وتنظيم اقتصاد المنطقة وفق المنظور السياسي المهيمن وهي تمثل بعداً آخر من الحرب الناعمة الذي يتيح لإسرائيل تأكيد هيمنتها على العالم العربي والإسلامي دون الحاجة للمزيد من الحروب .
ويأتي كتاب شمعون بيريز"شرق أوسط جديد" ليكمل الفكر التسلطي من خلال أهمية التطبيع باعتباره أحد الأساليب الناعمة وفتح الحدود بين إسرائيل والعرب مع تأكيد مسبق على أهمية المواصفات للسلع المتبادلة وضرورة الأخذ بعين الاعتبار كلفة الإنتاج في الدول المعنية مع تهميش واضح للسلع الزراعية على حساب السلع الصناعية حيث التكنولوجيا  الإسرائيلية متفوقة وعروض الشراء ستتوالى من كافة دول المنطقة.علماً أن المشروع الاقتصادي الإسرائيلي للشرق الأوسط ينطلق من عدّة حلقات بالتوجه السياسي لكل حلقة. مثلاً إن مبدأ التعامل الاقتصادي بين إسرائيل والفلسطينيين والأردنيين كحلقة أولية ضرورية لتكبر بعدها الحلقات بقدر ما تتطور عملية الانفتاح السياسي والتطبيع الشعبي . ولكن النظرة الاقتصادية السريعة إلى هذه النواة الأولية تظهر تفوّق إسرائيلي واضح صناعي وتجاري وحتى زراعي عن كلّ من الأردن وفلسطين علماً إن متوسط دخل الفرد في إسرائيل هو في حدود الستّة عشر الف دولار بينما في الأردن يقع في حدود الأربعة آلاف دولار وفي الضفّة والقطاع لا يتجاوز الألفي دولار . إن الفرو قات الكبيرة في معدلات الدخل ستزيد الخلل في التبادل السلعي بين البلدان الثلاثة وستبقى الأرجحية للسلع "الإسرائيلية" وسيلعب الاقتصاد الفلسطيني ومن ثم الأردني دور الوسيط في تصريف الإنتاج الإسرائيلي على باقي الدول العربية.
وتستكمل فكرة السوق بتوسيع شبكة الطرق التي تربط إسرائيل بجيرانها العرب وتركيا من خلال خط ساحلي يمرّ "بإسرائيل" – فلسطين- مصر وخط ثان من إسرائيل- لبنان- سوريا فتركيا وثالث يربط إسرائيل بالأردن فالعراق.
هذه الأولوية للطرق التي تنطلق من إسرائيل تعطى الأفضلية على باقي الطرق التي لا تمر حكماً بإسرائيل. وهذا يظهر بشكل جدّي الأفضلية المعطاة للطرق السريعة التي ستمرّ "بإسرائيل" بينما غيرها يهمل أو يؤجل ولنا مثال واضح على لبنان البلد المنهك من سنوات الحرب الطويلة التي عرفها. إذ نرى أن حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى سارعت فور تشكيلها إلى مواكبة عمليات المفاوضات برسم خطط لتوسيع الطريق الساحلي من الناقورة في الجنوب حتى الحدود مع سوريا بينما أهملت لغاية اليوم الاوتستراد العربي الذي يربط بيروت دمشق بباقي الدول العربية. 
إن توسيع البنى التحتية في الشرق الأوسط وربطها مباشرة "بإسرائيل" يمكن هذه الدولة من الوصول بالسرعة المطلوبة إلى الأسواق الخليجية فتؤمن بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية إشرافا كلياً على المنابع النفطية وتصبح شريكاً فعلياً في رسم البرامج الاقتصادية الإستراتيجية لدول المنطقة كما تمكنها تقنيتها المتطورة والمتفوقة إضافة  إلى قدراتها العسكرية من تلبية طلبات إي فريق يطلب خدماتها الاقتصادية أو الدفاعية ولا ننسى لما لهذه الخدمات من تكلفة على المستوى السيادي والاقتصادي وعند تطبيق هذه المقولة يصبح التطبيع واقعاّ لا هروب منه بين العرب والإسرائيليين شجعت فريقاً كبيراً من العرب بالانفراد في مباشرة عمليات التطبيع قبل انتهاء مفاوضات السلام وكل ذلك من أجل حفظ موقع في البرامج المستقبلية المطروحة على صعيد السوق الشرق أوسطية. وعندما نعلم أن الأجزاء التي ستشكل هذه السوق تتألف من عناصر عربية وإسرائيلية  إضافة إلى التركية . يتضح جلياً أن هذا التناقض في العناصر يؤثر على هيمنة الأقوى تكنولوجياً وتخطيطاً  بينما العناصر الباقية ستتلقى تأثيرات العنصر الفاعل الذي هو "إسرائيل" وتركيا بينما نرى أن العنصر العربي فشل حتى الآن في تأسيس السوق العربية الواحدة بين قوى متشابهة في المصالح والتكنولوجياً والعقلية فكيف سيتمكن من اخذ دور فاعل في سوق سيتلقى تأثيراتها دون أن يفعل أو يوثر في مجرياتها؟
ومنظمة التجارة العالمية التي تسعى إلى الإشراف الفعلي على الاقتصاد العالمي لن تفسح المجال لاقتصاديات الدول العربية أن تلعب دوراً فاعلاً في هذه المنظمة طالماً هي عاجزة على تأمين المواصفات التقنية والاقتصادية والمالية للانتساب إليها بينما السوق الشرق أوسطية المقترحة تبقى الحل الأمثل لبعض الدول العربية للدخول من خلالها إلى الاقتصاد العالمي .
وهنا تطرح القدرة على المنافسة ضمن مواصفات الجودة والنوعية وأي من الدول العربية يستطيع تأمين مثل هذه الشروط؟ 
وما المؤتمرات الدولية التي عقدت في نهاية القرن العشرين ومطلع هذه الألفية الثالثة إلا الترويج لفتح الحدود والأسواق أمام السلع الوافدة من الدول ذات القدرة التنافسية لتبقى الدول العربية تلعب دور الرافعة للاقتصاد العالمي إما من حيث تأمين الموارد الأولية لا سيما النفط أو تأمين أسواق التصريف لسلع فائضة لدى الدول المصنعة وعندما يعم الأمن والاستقرار دول المنطقة ويأتي هذا الفيض من المشاريع التي تدعو إلى التعاون الإقليمي لا سيما بين العرب والإسرائيليين بعد أن اقتنع الافرقاء بعدم قدرة الواحد على إلغاء الآخر بالحرب. فتأتي الطروحات الاقتصادية الجديدة مشروعاً للهيمنة على المقدرات العربية الإستراتيجية وإداراتها من قبل قوى السوق الفاعلة وعلى رأسها الشركات الأميركية والإسرائيلية فالتعاون الاقتصادي بين دول المنطقة يعطي لإسرائيل مواقع لم تستطع تحقيقها في حروبها مع العرب إذ أنها تعتبر أن التعاون الاقتصادي يعزز إمكانية السلام مع جيرانها وقد أسهب بيريز في كتابه بشرح أهمية المشاركة في إدارة الموارد الطبيعية والتكنولوجية والبشرية وفي الأخص عملية جذب الاستثمارات من الدول النفطية والأجنبية وتشجيع الدول الصناعية على الاستثمار في التنمية الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط. ونلاحظ أن التركيز من الجانب الإسرائيلي على العناصر التي يفتقدها اقتصاده وأمنه المستقبلي فنرى إن"إسرائيل" تركز خلال المحادثات المتعددة الأطراف على المياه ومشكلة النقص التي تعاني منها كباقي دول المنطقة.مع العلم إنّ الثروات المائية العربية في كل من سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية وغزّة تعرّضت وتتعرّض للسرقة من جانب إسرائيل وهي تمدّ طموحاتها المائية إلى النيل والفرات مع عروض تكنولوجية متطورة إلى دول الخليج العربي لتحلية مياه البحر.
في مقابل الرؤية التطبيعية الناعمة لشمعون بيريز المستندة إلى البعد التفاوضي يقف على الضفة الأخرى بنيامين نتنياهو متسلحاً بقدرة إسرائيل العسكرية كأهم الرهانات لتأكيد تفوقها على أن أفكاره الناعمة تتجه نحو المخاطب الغربي الذي يستريح إلى المقولات التي سبق لليهود إثارتها حول تأكيد الحقوق في إقامة كيانهم وفي استمرار هذا الكيان كأحد واجهات  الديمواقراطية في العالم  العربي الذي تسوده الدكتاتورية والتسلط  .
إنّ بنيامين نتنياهو في كتابه " مكان بين الأمم " بالانكليزية والذي نقل إلى العبرية تحت اسم " مكان تحت الشمس" يظهر بوضوح فكره السياسي وإبرازه الإرادة الصلبة لليهود في تحدّى الأزمات "والأفران" وهنا عودة إلى تذكير العالم بما سببته النازية من مآسي لليهود . ومن ثم يسترسل بتفسير التوراة وبحق اليهود الكامل بأرض فلسطين التي هي في عرفه أرض إسرائيل. كما يركز على المفهوم الديمقراطي الغربي الذي تعيشه إسرائيل باستثناء كافة دول المنطقة ويبرر الأطماع التوسعية الإسرائيلية تنفيذاً لما جاء في التوراة والتلمود ومن ثم بالحاجات الأمنية لإسرائيل ويتابع اجتهاداته بمناهضة اتفاق أوسلو الذي سيؤدي بنظره "إلى تطويق إسرائيل بحزام من قواعد الإرهاب الإسلامي هدفه الوحيد القضاء على دولة إسرائيل".
ويدعو نتنياهو إلى التخلي عن سياسة التنازلات أي انه يرفض إعادة الأراضي إلى أصحابها الحقيقيين وفق ما نص عليه القانون الدولي . كما يدعو إلى الاستفادة من الواقع الدولي الحالي بعد تفتت الاتحاد السوفياتي وتفرد الولايات المتحدة الأميركية بإعادة تنظيم العالم وفق مقولة النظام العالمي الجديد وذلك من أجل الاستفادة من هذا الظرف الدولي " لإحياء الثقافية اليهودية وقوة دفاعها من أجل ضمان مستقبل الشعب اليهودي كلّه".
إن الأفكار السياسية الجديدة التي واكبت وصول نتنياهو إلى السلطة رفضت كل ما قام به إسلافه من مفاوضات مع العرب وبالتالي نقض الاتفاق مع الفلسطينيين وعدم قبوله بالانسحاب من الأراضي المحتلة. على الرغم من ذلك تستمر الرهانات من بعض القوى العربية على تحقيق سلم متوازن بين العرب والإسرائيليين بدعم من الأميركيين بينما في الواقع نرى أن اليمين المتطرف في إسرائيل يعمل على زيادة الهجرة اليهودية لكي يحقق القدرة السكانية التي تساعد على فرض السلام الإسرائيلي على العرب.  
إن الحديث عن قيام سوق شرق أوسطية تحتل فيه إسرائيل موقع القلب والعقل لن يكون ذا اختلاف عن طبيعة موازين القوى العسكرية والسياسية الراجحة إلى أمد غير منظور لصالح إسرائيل في ظل التفتت والتشرذم العربي على كافة الصعيد ،لا سيما الاقتصادية فلا يتوهمن احد إن السوق الشرق أوسطية ستكون ذات منفعة لكافة الأطراف المشاركة فيها فالطرف الأقوى( وهو إسرائيل) سيجّير إمكانات المنطقة لصالحه وبذلك تتحقق إسرائيل العظمى اقتصاديا"بدلا" من إسرائيل الكبرى جغرافيا من خلال بعض المشاريع وأهمها:
1. توسيع شبكات نقل البترول إلى المتوسط من شبه الجزيرة العربية لتصب في موانئ حيفا واشدود مما يعطل المشاريع القائمة في مكل من بانياس في سوريا وفي طرابلس والزهراني في لبنان.
2. إقامة مناطق تجارية وصناعية حرة لتسويق المنتجات والتعريف بأهمية التعاون الإقليمي للوصول إلى إنتاج مكثف وتحاشي الإمراض والأوبئة وقيام مؤسسات البحث والتعاون لتبادل المعلومات في مختلف الميادين لما فيه قيام التوازن الاجتماعي والاقتصادي بين مختلف بلدان ومناطق الشرق الأوسط.
3. إن الانفتاح الاقتصادي بين دول المنطقة يستوجب قيام بنى تحتية تلبي حاجات المرحلة المقبلة.
     وما يرتسم من خلالها من مشاريع ستعدل من وظيفة كل بلد وتدفعه إلى التخصص في مجالات محددة تمكنه من المنافسة على السوق، أن قدرة الحسم في هذه السوق ستكون للشركات المتعددة الجنسيات التي ستتمكن من تقديم سلع تنافسية بأشكالها المختلفة وفق شروط العرض والطلب ومن يستطيع الصمود حتى آخر الزمان يحقق الغايات الاقتصادية والسياسية والثقافية لكل منطقة الشرق الأوسط. فتفوق الاقتصاد الإسرائيلي الواضح يعني انه لن يستأثر فقط بمصطلح المزايا التي سوف توفرها قيام السوق بل تؤدي إلى تقسيم إقليمي ودولي جديد للعمل يجعل الدول العربية تتخصص بالصناعات الاستخراجية والصناعات الخفيفة،كثيفة العمالة وتصدير المواد الأولية بينما تحتكر إسرائيل الصناعات الثقيلة والتكنولوجية المتطورة مما يعيق مفعول النمو غير المتكافئ بين الاقتصاد الإسرائيلي وبقية الاقتصاديات العربية، ويبقى السؤال ، هل يمكن إسرائيل أن تقييم سلاماً مع العرب وهي المتفوقة استراتيجياً من دون أن تحقق من خلاله مكاسب اقتصادية؟
إن الجواب المؤكد هو النفي، فمما لا شك فيه أن التطبيع الاقتصادي هو صلب التطبيع السياسي الذي تريده إسرائيل .
فمن الثابت إن العرب سوف يواجهون تحديات اقتصادية جمة إقليمية ودولية لن يستطيعوا الصمود في وجهها والتغلب عليها منفردين كل دولة على حدة، فما هي سبل ضمان نجاح قيام سوق عربية مشتركة اليوم؟ إن القرار السياسي شرط ضروري لقيام أي تكتل اقتصاد يأخذ  بعين الاعتبار التفاوت بين اقتصادات الدول العربية أو بمعنى آخر تفاوت الآداء الاقتصادي بين هذه الدول ويحاول أن يجعل الهياكل الاقتصادية متكاملة وليست متنافسة كما غلبه العمل للحد من الضغوط التي تمارس من قبل القوى الفاعلة والمهيمنة لعرقلة انطلاقة هذا السوق واستمراره.
الشرق أوسطية اعتبرت المنطقة وحدة أمنية –سياسية- اقتصادية متكاملة بحيث أن أي حدث يحصل على ضفاف الخليج ينعكس سلباً أو إيجابا على شواطئ المتوسط وأي طارئ يحصل في البوابة الجنوبية للبحر الأحمر يلقى صداه الفوري على البوابة الشمالية للبوسفور أو الدردنيل، لذلك يقتضي ضبط هذه المنطقة كلها بإشراف أميركي مركزي وان كانت أدواته التنفيذية مباشرة أو فرعية.
ثالثاً: في الهوية والثقافة وإستراتيجية مواجهة الحرب الناعمة
  في ظل المواقف الإسرائيلية المتشدّدة أصبح من الضروري إعادة النظر في مجمل المواقف العربية من الصراع العربي الإسرائيلي والتفتيش عن بدائل للمواجهة تؤدي إلى اعتماد سياسة جديدة مشفوعة بقراءة جديدة لتأكيد الهوية العربية والثقافة العربية الواحدة لمجمل شعوب ودول المنطقة العربية.
  فالثقافة العربية أخذت جذورها التاريخية من القرآن الكريم وعملت على تأسيس سلم من القيم يتحدر من هذه الثقافة، لذلك كان مشروع الأمّة الإسلامية مرادفاً لهذه الثقافة ولما صاحبها من قيم العدل والخير والمساواة. أما السلطة التي تنظم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين فكانت تأخذ غزارتها من الشرع الإسلامي قبل إدخال تأثيرات الحضارة الغربية إلى المناطق العربية وامتزجت مفاهيم الحكم والسلطة ببعض المفاهيم الغربية واختلط استعمال الديموقراطية "أي حكم الشعب من الشعب" ببعض النظريات التوتاليتارية والمزاجية حتى عايش المجتمع العربي تنوع في السلطات وفي اعتماد أنظمة الحكم المختلفة بعد أن تمّ توزيع المنطقة العربية وفق الخيارات الاستعمارية الغربية. فبدل الثقافة الواحدة عايشنا ثقافات وبدل نظام الحكم الواحد عرفنا أنظمة سياسية مختلفة وتبدل نظام القيم حتى عايشنا الفرقة والتباعد بين مختلف الكيانات التي أنشأتها القوى الخارجية وليس الإرادات الشعبية المحلية.
فإذا كان الهدف من نظام الحكم الديمقراطي تحقيق العدالة والمساواة للأفراد الذين يخضعون لهذا الحكم فقد تنوعت الأنظمة العربية والهدف المشترك الواحد هو غياب الديمواقراطية الحقّة. فإذا بالشعب يعيش غربة عن حاكمة وإذا بالقضايا القومية تعالج بموقف فوقي من الأنظمة دون حشد القوى الجماهيري المؤهلة للتغيير.وقد عايشنا منذ نكبة فلسطين وحتى اليوم التباعد الحقيقي بين الخيارات الشعبية وأساليب الأنظمة المتأثرة في غالب الأحيان بالقوى الخارجية أكثر منها بالآراء الشعبية الوطنية.
وفي ظل الهجمة الشرسة على الحقوق العربية من جانب إسرائيل والولايات المتحدة يجب العودة إلى المفهوم القومي بتأكيد الخصوصية العربية على ما هو خارجي يهودي أو تركي والعمل على تحصيل الجبهة العربية بتأليب كافة القوى الشعبية وبتوافق تام مع مختلف الأنظمة العربية لدعم الحق العربي عن طريق التوحد والدعم للقضايا التالية:
1. بعد خفوت عملية الاستسلام وظهور  المشروع الإسرائيلي- التوسعي من جديد – يجب إعادة إحياء ثورة الحجارة في فلسطين وإعطاؤها الدعم المادي والمعنوي من كافة القوى العربية في الداخل والخارج لإجبار إسرائيل على التراجع عن خياراتها التوسعية والعدوانية والاستفادة من المساعدات التي تقدمها الجمهورية الإسلامية في إيران منذ عام 1979.
2. دعم المقاومة الإسلامية في الجنوب وتحويلها إلى مقاومة لإشعار إسرائيل والقوى المتحالفة معها أن الشعب العربي انخرط من جديد في برنامج شامل للمقاومة من أجل استعادة الحقوق العربية السلبية.
3. تحرير الموارد الطبيعية العربية من القوى الخارجية وبدل إشراك الدول الغربية في إدارة هذه الموارد فيجب تشكيل الهيئة العربية العليا لإدارة واستغلال هذه الموارد وتحريرها من الارتهانات الخارجية والتي زادتها حدّة حربي الخليج الأولى والثانية.
4. إن الحضارة العربية التي مدّت تأثيراتها إلى أوروبا في القرن العاشر الميلادي مطالبة اليوم بإعادة إحياء هذه الحضارة التي طمسها الغرب من خلال ثوراته الصناعية والثقافية والاقتصادية بينما العرب عاشوا تأثيرات هذا الغرب لغاية اليوم لكنه لم يسمح لهم بإدخال تعديلات جزرية على حضارتهم نتيجة الارتهان والممانعة الغربية. فهم مطالبون بإعادة إحياء هذه الحضارة والاستفادة من المردود المالي النفطي ودور القوى العلمية والديمقراطية العربية في إطلاق مشاريع البحث ووضع الخطط التنظيمية للاستفادة من القدرات المالية والبحثية والموارد الطبيعية العربية دون مشاركة من القوى الدولية المؤثرة حتى الآن في كل كيان عربي لمنع تحقيق هذه الغاية.
5. إن تأثيرات الحضارة الغربية على الغرب كان وما يزال سطحياً إذ طاول سوق الاستهلاك وانتاجات الثورة الصناعية بينما نظام القيم العربي ما يزال متماسكاً وأثر الدين ما يزال ماثلاً على الأنظمة وشعوبها.
   وإذا ما انطلق العرب من مفهوم التوحيد الديني كحافز للوحدة إضافة إلى استغلال القدرات الطبيعية والديمقراطية والعملية للأشراف على أساليب التحديث والتقدم فيمكن للعرب عندها المباشرة بمناقشة علمية لوسائل الغد وطرائقه وان كان اعتباره منطقة للتعاون والتبادل العالمي وليس كما هو سائد باعتباره المنطقة كمنطقة للاستغلال والاستفادة والهيمنة.
6. إن العرب عندما يأخذون بشروط الاستقلال التام عن الغرب والقدرة على الإشراف التام والفعلي على الموارد الطبيعية  وإطلاق مراكز البحث العلمي والايدولوجي للوصول إلى وحدة حقيقية غير مصطنعة يمكنهم أن يطرحوا مفهوم الحداثة من منظاره الواقعي وليس التقليدي لأساليب الغرب وعندها يمكن أن يبرز أنتاجهم الفكري والعلمي  والاقتصادي والذي يظهر توازناً ولو غير متكافئ مع الانفتاح الغربي. عندها يمكننا أن نتكلم عن حداثة نتيجة التقدم الحضاري وليس عن حداثة مقلّدة أو وافدة من الغرب ولكن ما يفعله الغرب حتى الآن هو عدم السماح  بقيام مثل هذه القوى لإبقاء المناطق العربية تابعة له بشعوبها ومواردها.
وما يحدث في العراق يظهر التوجه الحقيقي للإرادة الغربية في تدمير  القدورات العربية بينما نراها نقض الطرق وتساهم في القدرات القومية الإسرائيلية.
7. إن انفتاح الحدود أمام السلع مقدمة للعولمة تعني تقديم السلع التنافسية على باقي السلع المنتجة وما يستتبع ذلك من تأثيرات قوى السوق في مجال المال والاتصال ومن ثم العلاقات السياسية والفكرية. فعندها يسمح النظام الجديد بحرية تنقل البضائع والسلع هذا معناه انتهاء الحدود وبالتالي انتهاء الفكر السياسي لدول العالم الثالث وإدخالها في النظام الاقتصادي العالمي حيث الأرجحية فيه للدول الصناعية. وهنا نتساءل عن مصير اقتصاديات العالم العربي وسياساته في ظل مفهوم العولمة هذا؟
    إن قبول فكرة العولمة وفق المفهوم الأميركي الرأسمالي يعني تسليم الموارد العربية وارتهانها للقوى الرأسمالية الخارجية وهذا الارتهان الاقتصادي يؤدي كما هو معروف إلى ارتهان سياسي جديد يطبق على المنطقة لقرون جديدة.
ليس المطلوب من العرب أن يقفوا ضدّ الابتكارات الجديدة بل ما يتوخاه الجيل  الجديد هو أن يكون للعرب استقلالهم المالي والعلمي لكي يكون لهم ابتكاراتهم وبالتالي مواقفهم السياسية المتحررة من التأثيرات الخارجية لكي يحققوا في ظل الديمقراطية وقدرات سكانية وموارد إستراتيجية ما عجزوا عن تحقيقه في القرون السابقة.
تبقى قضية الديمقراطية من أهم القضايا التي تشغل شعوب الدول العربية إلى أي نظام سياسي انتموا. فمنذ انهيار حائط برلين في ظلّ نظام سياسي متشدّد شجّع مواطني الدول العربية إلى التمثّل بهذا السلوك فكانت تجربة الانتخابات الشعبية في السودان ما لبث الجيش أن أجهضها وكذلك الحال في الجزائر حيث أوصلت الانتخابات قوى جديدة لم يعترف الجيش بشرعيتها فانقلب على الانتخابات ونتائجها وما زالت الجزائر تعيش هذه الأزمة حتى اليوم. وتجربة الانتخابات المزوّرة في مصر في نهاية العام 2010 من أجل استمرارية نظام حكم حسني مبارك أدّت إلى إطاحته بواسطة الجماهير الشعبية والشبابية في الحادي عشر من شهر شباط 2011 والتي أعلنت بالفمّ الملآن أن الشعب يريد إسقاط النظام ويريد مؤسسات ديمقراطية مُنتجة من الشعب تكريساً للمبدأ الديمقراطي الذي يقول بحرية التعبير والمعتقد والرضوخ إلى حقّ الشعوب بالاستفادة من الابتكارات الحديثة وما قدّمته الفضائيات والانترنيت "والفايس بوك" من أدوات أساسية في إرساء الديمقراطية.وإذا ما أسفرت التحوّلات المصرية على بعض القتلى والجرحى فقد تمّت ثورة الياسمين في تونس دون إراقة نقطة دمّ واحدة ودفعت برئيس الدولة زين العابدين بن علي على مغادرة البلاد إلى فرنسا التي رفضت استقباله خوفاً من ردود الفعل الشعبية لا سيّما من الجالية التونسية المقيمة فيها وكانت نهاية رحلته في السعودية. وإذا ما انسحبت التحوّلات التي عايشناها في تونس ومصر على باقي الأنظمة العربية يُمكننا أن نستنتج أن مجتمعاتنا مُقبلة على التغيير إمّا من خلال سلطة متنوّرة تسبق الجماهير الشعبية والشبابية وتباشر بتقديمات اجتماعية واقتصادية مصحوبة بحريات سياسية تقبل على أساسها الأنظمة بالانتخاب الحرّ غير الموجّه وتقبل سلفاً بنتائجه أو بالثورة الجامحة كالتي حدثت في مصر.
فهل ستلقى الديمقراطية الشعبية الوافدة إلى عالمنا العربي ما عايشه مفهوم الوحدة والقومية ومشروع الدولة الاستبدادية؟ يبقى الرهان على القوى الديمقراطية ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي تجهد في مختلف الأقطار العربية للخروج من مفهوم الطاعة الفقهي والسياسي ومقاومة الهيمنة الوافدة إليها من خارج الحدود وصولاً إلى أنظمة حكم ديمقراطية تأخذ بعين الاعتبار المصالح الشعبية والوطنية.
يبقى أخيراً أن نُشير إلى أحد أساليب الحرب الناعمة ما يتعرض له وطننا العربي من محاولات غربية جادة لإشعال فتنة مذهبية سنّية- شيعية في منطقة الشرق الأوسط بدأت  إشاراتها في العراق والبحرين ولبنان وقد تمتدّ إلى الشرق الأوسط بأكمله إذا لم يُسارع الفاعلون والمتنوّرون في مجتمعاتنا إلى مواجهة هذه المحاولات والسعي الدؤوب إلى إخمادها منطلقين من مبدأ الوحدة الإسلامية وصولاً إلى وحدة شعوب بلداننا العربية لكي لا يشعر أي مذهب أنه يعيش على هامش  الحياة السياسية في مجتمعنا. فهل من مُستجيب لاستدراك الأسوأ؟
المراجع
• الحركة العربية: 1908- 1924، سليمان موسى،دار النهار للنشر.
• التحديات الشرق أوسطية : مجموعة من الباحثين، مركز دراسات الوحدة العربية.
• الشرق الأوسط الجديد: شمعون بيريز ، الأهلية للنشر والتوزيع.
• الشرق الأوسط الجديد:سيناريو الهيمنة الإسرائيلية، علاء عبد الوهاب، سينا للنشر.
• مكان بين الأمم: بنيامين نتنياهو، الأهلية للنشر والتوزيع.
• قضايا في الفكر المعاصر: محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية.
• المجتمع والدولة في المجتمع العربي: غسان سلامة، مركز دراسات الوحدة العربية.
• العرب والفرات: بين تركيا وإسرائيل: عايده سري الدين،دار الآفاق الجديدة، بيروت.
• المحنة العربية .الدولة ضد الأمة، برهان غليون،بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.
• المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، سعد الدين إبراهيم، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائي.
• في الديمقراطية والمجتمع المدني_ عبد الإله بلقسسز – إفريقيا الشرق، بيروت.
• تجارب ديمقراطية في البلدان العربية، فرد ريش ابيرت، بيروت.
• النفط والوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية.، بيروت.
• إسرائيل وحرب المياه القادمة_ ظافر بن خضرا ، دار كنعان.
• المياه وسلام الشرق الأوسط، نبيل السمان، دمشق.
 
د بولس عاصي
أستاذ في الجامعة اللبنانية
 
لتحميل المقال اضغط  PDF

أضيف بتاريخ: 01/07/2015