مقالات مختارة

القوة الناعمة-مشروع أمريكي معاصر

 

 القوة الناعمة-مشروع أمريكي معاصر


هناك أهداف يسعى الإنسان للوصول إليها، فيتَّبع أساليبًا وطرقًا لتحقيقها، وذلك إمَّا بأن يسلك الطرق المادية المباشرة والواضحة، وهي ما نسميه "القوَّة الصَّلبة"، وإما أن يتَّبع الأساليب الخفية والملتبسة والنَّاعمة التي لا تظهر للآخرين ولكنها تحقِّق الأهداف المرجوة، وهذه الأساليب هي ما نسميه "القوَّة النَّاعمة".


 تتضحُ الصورة أكثر من خلال هذا المثال: أراد الاستكبار في مراحل سابقة أن يستثمر العالم الثالث، ماديًا واقتصاديًا وثقافيًا وتنمويًا، عن طريق الإحتلال, ما يتيح له بأن يعمِّم فِكرَه وقناعاته، وأن يستحوذ على ثرواته وخيراته، فاختار الغزو العسكري المباشر، وجاء بجحافله محتلًا لبلداننا ومستعمرًا لها, ثم قسَّمها وجزَّءها ليسهُل عليه السيطرة عليها، هذه الحرب هي حربٌ صلبة, لأنَّه استخدم الآلة العسكرية والقوَّة البشرية والأساليب المباشرة الواضحة للعيان, وأقامَ الاحتلال المشخَّص والموجود على الأرض قرب بيتي وبيتك.


 رأى المحتلُّون بأنَّ ممانعة الشعوب بدأت تكبُر، ولم يعودوا قادرين على الاستقرار في بلداننا، ولكنَّهم أرادوا المحافظة على هيمنتهم وسيطرتهم. إذًا لا بدَّ من التفتيش عن أساليب أخرى تُساعدهم على تحقيق أهدافهم, ولا يمكن أن تكون هذه الأساليب صلبةً أو ماديةً مباشِرة، فلجؤوا إلى الأساليب النَّاعمة، وقالوا للنَّاس: نحن لا نريد منكم شيئًا، ولكن انظروا إلى نموذجنا في الثقافة والإقتصاد والتطوُّر ... أليس نموذجًا جميلًا وناجحًا؟ فيه الحريَّة والعلم والتطوُّر والتقدُّم والتقنية! الجواب: نعم، فهذا النموذج جيد, ويصلح بأن يكون قدوة. ولكن لكي تصلوا إلى هذا النموذج, لا بدَّ من نقل الخبرة إليكم, وفتح المعاهد والمراكز للتأهيل والتدريب والتعليم، مراكز تعُلِّم مبادىء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وتربِّي على محاورة الآخر والقبول به، وتشرح حقيقة الإنسان الماديَّة ومتطلباته في هذه الحياة, وتُعطيه أسس ومبادىء إدارة وقيادة المجتمعات واقتصاداتها ونهضتها ... كل ذلك وفق المنظومة الغربية. 


 الأمرُ يبدو سهلًا ويسيرًا ومقبولًا، ولكن من خلال هذا التعليم, نتشرَّب أفكار الغرب وقناعاته, ونتخلَّى تدريجيًا عن قناعاتنا، فنلتزم بما أملاه علينا, ثم ندافع عنه بقوة, فقد أصبحنا نسخةً طبق الأصل عنه في طريقة ومنهجية تفكيرنا!. وعندما يأتي أحدٌ ليقول لنا: ماذا فعلتم؟ أنتم تقلدون، وأنتم أتباع؟! ينبري من يبري ويقول: لا لسنا أتبَاع أحد، هذه قناعاتنا، نروِّج لها ونعلِّمها لأجيالنا!. هذه هي نتيجة استخدام القوَّة النَّاعمة، التي انطلت على بعض مثقفينا, فحقَّقَ للغرب نصرًا في هذه "الحرب النَّاعمة" التي تسرَّبت من خلال "القوَّة النَّاعمة", ووصل إلى أهدافه.


 من هنا الفرق بين القوَّة الصَّلبة والقوَّة النَّاعمة: "القوَّة الصَّلبة" هي ماديةٌ واضحةٌ ومشخَّصةٌ يراها الجميع، أمَّا "القوَّة النَّاعمة" فهي مخفية وملتبسة ويختلف عليها الناس، بل في كثير من الأحيان لا يرونها، وهي تنساب إلى العقول والقلوب بشكلٍ هادئ.


 لم يكن مصطلحُ الحرب النَّاعمة سائدًا في أدبياتنا، فهو مصطلحٌ جديدٌ في الأدبيات العالمية، وهو مشابه في المضمون لمصطلحات أخرى كانت تستخدم للتعبير عنها بأشكال مختلفة: كحرب المعنويات، وغسل العقول، والغزو الثقافي، والحرب السياسية.... عرَّفها جوزيف ناي(1) بقوله: "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام"(2). فالحرب النَّاعمة هي التي تستخدم "القوَّة النَّاعمة"، وإنَّما انطلقنا من تعريفه لأنَّه أبرز الشخصيات الأمريكية الذين كتبوا عن هذا الموضوع حديثاً، وأصدر كتاباً بعنوان "القوَّة النَّاعمة"، وبالتالي فإنَّ كل ما نراه من تحركات أمريكية في مواجهة شعوب منطقتنا وفي كل لحظة من اللحظات التي تمر، إنما هي جزءٌ من الحرب النَّاعمة التي تستخدم أمريكا فيها القوَّة النَّاعمة. وقال ناي أيضاً: "إنَّ القوَّة النَّاعمة تعني التلاعب وكسب النقاط على حساب جدول أعمال الآخرين، من دون أن تظهر بصمات هذا التلاعب، وفي نفس الوقت منع الآخرين من التعبير عن جدول أعمالهم وتفضيلاتهم وتصوراتهم الخاصة، وهي علاقات جذب وطرد وكراهية وحسد وإعجاب"(3). 


 أهدافُ الحرب النَّاعمة


 عندما يؤسس "ناي" للقِيَم والأسباب والمواهب التي تستخدم لخدمة القوَّة النَّاعمة في الحرب النَّاعمة، يخلص إلى أنَّ موارد القوَّة النَّاعمة تدور حول محاور ثلاثة: 

 الأول: "تعزيز القِيَم والمؤسسات الأميركية، وإضعاف موارد منافسيها وأعدائها". (القِيَم الأمريكية هي القِيَم الرأسمالية، يعني قِيَم الإيديولوجية الرأسمالية التي تُبنى على الحريات، والملكية الفردية المطلقة من دون حدود ولا ضوابط، ودور رأس المال في الإقتصاد، وهكذا... والمقصود هو أن تكون الرأسمالية فكرًا بديلًا عن الإسلام، وفكرًا بديلًا عن الشيوعية، وعن أي فكر آخر، أي أن يسود الفكر الرأسمالي بكل أبعاده وقِيَمِه الثقافية والاقتصادية والاجتماعية...).


 الثاني: "توسيع مساحة وجاذبية الرموز الثقافية والتجارية والإعلامية والعلمية الأميركية وتقليص نفوذ منافسيها وأعدائها". (بحيث يكون النموذجُ الأمريكي هو الأول والمقياس, فما يشابهه يُعتبر ناجحًا، وما يخالفه يُعتبر فاشلًا، وذلك في كل الأمور: السياسية، والثقافية, والاحتفالات، وطريقة الأداء،... وكل شيء يخطر على بالكم: ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وتجاريًا، فالقصصي الأمريكي هو الأول في العالم, وأساليبه هي الأولى في العالم، وطريقة حياة الأمريكي هي الأولى، ونمط تربيته هي الأولى... فهو يريد من الناس على امتداد المعمورة أن يتعلقوا بالرموز والقدوة الأمريكية).


 الثالث: "بسط وتحسين وتلميع جاذبية أميركا وصورتها وتثبيت شرعية سياساتها الخارجية، وصدقية تعاملاتها وسلوكياتها الدولية، وضرب سياسات أعدائها"(4). (يعني ما تقوله امريكا في السياسة هو الصحيح، وما ترفضه هو الخطأ، تقول أمريكا: إسرائيل لها حقٌ في الوجود، إذًا وجودها شرعي! والمقاومة إرهاب، فهي ممنوعة ومُدانة!. تقول امريكا: يجب تقسيم العالم بالطريقة الفلانية، يعني هذا هو الموقف الصحيح، وأي معارض لهذا الموقف يصبح عدوًا للبشرية! طبعًا هم لا يقولون بأنَّ أمريكا ترفض أو تعترض، بل يستخدمون مصطلحات مفتاحية كجزء من الحرب النَّاعمة, فيقولون: المجتمع الدولي يرفض، والرأي العام لا يوافق، ومجلس الأمن الذي يمثل الدول الكبرى اتَّخذ قرارًا، والسلم العالمي يستلزم مواجهة بعض الجهات وأفكارها...، كما تحرص أمريكا إذا ما أرادت أي عمل أن تمرره عبر مجلس الأمن، أو الاتحاد الأوروبي، أو اجتماعات الدول 5+1، أو 6 + 2، الخ...لتقول بأنَّ العالم لا يرضى, وليست أمريكا فقط, في الوقت الذي يكون التحريك والتحريض أمريكيًا وجزءًا من مشروعهم. 


 إذًا الأهداف الثلاثة من خلال الحرب النَّاعمة التي يستخدمون فيها القوَّة النَّاعمة هي: سيادة المبدأ الرأسمالي، وأن تكون أعمالهم هي القدوة والنموذج، وأن يلتحق العالم بموقفهم السياسي كأتباع لهم.


 عندما نتحدث عن قوة ناعمة تريد أن تقتحم بلداننا وأفرادنا، إنَّما نتحدَّثُ عن مشروعٍ أمريكيٍ معاصر، اختار القوَّة النَّاعمة المقابلة للقوَّة الصلبة (الماديَّة والعسكرية)، لعجزه عن الوصول إلى أهدافه عن طريق القوَّة الصلبة، أو لتخفيف التكلفة الباهظة المترتبة عليها. وقد لجأ إلى القوَّة النَّاعمة ليخرِّب من داخلنا، وليُسقطنا من داخلنا، بأيدينا وأدواتنا، من دون أن نلتفت في كثير من الأحيان إلى ما يحصل، بل نعيش أحياناً حالة الغبطة بما يحصل، يترافق ذلك مع تعديل القِيَم التي يريدون تأسيسنا عليها لتسود قِيَمُهم، ثم نندفعُ بشكلٍ طبيعيٍ وعادي لتصديقها وتنفيذها، فيتعدِّل سلوكنا تبعاً لها، فنتحوَّل أَتْباعاً بدل أن نكون مستقلين وأصحاب قرار.


 ومن أجل تحقيق تثبيت هذه القِيَم وتحقيق أهدافها، تستفيد القوَّة النَّاعمة من كل المؤثرات والرموز البصرية والإعلامية والثقافية والأكاديمية والبحثية والتجارية والعلاقات العامة والدبلوماسية، فلا تترك جانباً من جوانب التأثير إلاَّ وتدخل من خلاله، لتحقيق الموارد الثلاثة التي ذكرناها أعلاه، وإخضاع الخصم للمنظومة الغربية، كما تستفيد هذه القوَّة النَّاعمة من منظومة العولمة بأدواتها ووسائلها, التي تتحكم بإدارتها أمريكا كقطب مركزي آحادي في العالم اليوم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.


 بعد سقوط الدولة العثمانية, وبروز الإتجاه الأمريكي-الغربي, وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية, كنا نسمع الكثيرين من المثقفين في العالم العربي والإسلامي يدافعون عن الرؤية الرأسمالية، وينظِّرون لها، ويناقشون في مضمونها، ويُنشؤون مراكز ثقافية دفاعًا عنها، ويواجهون التقاليد والأعراف الإسلامية أو المتأثرة بها في منطقتنا، هذا العمل هو جزء من الحرب النَّاعمة التي ما زالت قائمة حتى اليوم, ولكن بأساليب أكثر تطورًا. وقد ضَعُفَ تأثير هذه المراكز, وازدادت الكراهية للنموذج الأمريكي بعد أحداث 11 أيلول 2001, عندما شنَّت الولايات المتحدة الأمريكية حملةً ضد المسلمين بالهوية كأعداء محتملين, وبرزت أخطاء وأخطار هذا النموذج لعامة الناس. 

 يتبع..


مقتطفات من كلمة الشيخ نعيم قاسم المحاضرة التي ألقاها في لقاء مع مدراء المدارس نظمته التعبئة التربوية في حزب الله في 25/12/2013

الهوامش:

1- نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق، ومدير مجلس المخابرات الوطني الأمريكي، وعميد كلية الدراسات الحكومية في جامعة هارفرد، وهو من أهم المخططين الاستراتيجيين الأمريكيين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. 

2- جوزيف ناي، القوة الناعمة، مكتبة العبيكان، ص: 12.

3- المصدر السابق، ص: 34 وص: 70.

4- مركز قيم، كتاب رؤية الإمام الخامنئي في مواجهة الحرب الناعمة، ص: 46.

 


أضيف بتاريخ: 04/05/2017