مقالات مختارة

هكذا اخترق سي. آي. إيه عالم الفنون والآداب الجزء الثاني



هكذا اخترق سي. آي. إيه عالم الفنون والآداب
الجزء الثاني




 تلاعب السي آي إيه بالثقافة

في مقال بعنوان، كيف لعب السي. آي. إيه حيلًا قذرة باستخدام الثقافة، يتحدث لورانس زوكيرمان عن واقعة تحويل رواية مزرعة الحيوانات للكاتب الشهير جورج أورويل إلى فيلم سينمائي وكيف تلاعب السي آي إيه بنهاية الرواية واستخدمها لإثبات توجهاته المغالية في العداء للشيوعية.

الإعلان الدعائي لفيلم مزرعة الحيوانات 

على الرغم من أنّ جزءًا كبيرًا من قوة رواية مزرعة الحيوانات يكمن في مشهد النهاية الذي صور فيه جورج أورويل بإبداعٍ شديد كيف وقفت حيوانات المزرعة فاغرة فاها وهي تنظر إلى الخنازير المستبدين – الذين يمثلون الشيوعية -، وأصحاب المزرعة الاستغلاليين – الذين يمثلون الرأسمالية – ولكنها لم تستطع أبدًا التفريق بينهما فقد أصبحا يشبهان بعضهما البعض تمام الشبه، إلا أن الفيلم لم يتضمن هذه النهاية إذ خلا المشهد الختامي من أصحاب المزرعة وتضمن الخنازير فقط وهم يحتفلون وكيف ثارت بقية الحيوانات ضدهم. 
ويبدو أن السي. آي. إيه قد خشي أن يتأثّر المشاهدون برسالة أورويل التي تؤكد على أنه لا فرق بين الرأسمالية والشيوعية فالاستبداد وإساءة استخدام السلطة واحد وإن تعدَّدت أشكاله ومذاهبه؛ فاشترى حقوق الفيلم من أرملته حتى يكون له مطلق الحرية في إحداث التغييرات التي تجعل رسالة الرواية واضحة تمام الوضوح في معاداة الشيوعية. 

أيضًا، ضرب السي. آي. إيه بتوصيات أورويل بخصوص عدم إحداث تغيير في أحداث روايته الشهيرة 1984 عرض الحائط حين قام بتحويلها إلى فيلمٍ سينمائيّ. ففي نهاية الرواية نجد أن الكاتب قد قال إن البطل، وينستون سميث، الذي كان قد هُزم تمامًا من النظام الشيوعي، قد أحب الأخ الأكبر. أما في الفيلم؛ فيتمّ إطلاق النيران على وينستون وحبيبته جوليا بعدما يهتف وينستون بحماس «فليسقط الأخ الأكبر!».

وقد يبدو التفسير الأكثر معقولية لقيام السي. آي. إيه بمثل هذا التعدي على الثقافة هو أنه كان يسعى دومًا لدحض الفكرة الشائعة عند معظم الأوروبيين في ذلك الوقت بأن المعسكرين الغربي والشرقي قد ارتكبا أخطاء عدة. ولكن بدلًا من أن يبذل جهدًا في شرح الفروق بين المعسكرين المتنافسين، كان دائمًا ما يشير السي. آي. إيه إلى التكتيكات غير الأخلاقية التي اتبعها السوفييت.

على الجانب الآخر، تشير الكاتبة والصحفية البريطانية فرانسيس سوندرز إلى أن هذا التلاعب لم يكن الأوحد الذي قامت به السينما الأمريكية؛ فتشير إلى أن أحد المخرجين الموهوبين – وكان عميلًا لجهاز المخابرات الأمريكي – قد عمل على ضمّ الممثلين من الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية إلى أفلامه ليس لما يدعيه من تبني أفكار مناهضة للعنصرية ولكن لكي يبطل المزاعم السوفيتية – على حد قوله – عن وجود عنصرية شديدة ضد ذوي البشرة السوداء في أمريكا.

فنٌّ حقيقي أم مجرد «شخبطة»؟ 



لوحة Hot Stuff لجاكسون بولوك


في أواخر الأربعينيات ظهرت جماعة من الفنانين كانوا يعرفون بالتعبيريين التجريديين «Abstract Expressionists» كان أبرزهم جاكسون بولوك، والحقّ أنهم لم يكونوا جماعةً بالمرة إذ كان لكلٍّ واحدٍ منهم ميولٌ مختلفة عن الآخر وكان يجمعهم شيءٌ واحد فقط ألا وهو الميل إلى المغامرة الفنية وعدم التقيُّد بأطر  ومعايير معينة.

وقد كان بهذه الزمرة من الرسامين شيءٌ جذَّاب حقًا يبحث عنه السي. آي. إيه في أيّ فنان، لقد كانوا شيوعيين تائبين! رأت صفوة أمريكا الثقافية أن هذا الاتجاه الجديد يمثِّل أيديولوجية مضادة للشيوعية، إذ إنَّه اتجاهٌ يحمل روح الفنّ المغامر الذي لا يصوِّرُ أشخاصًا ولا أشكالًا ولا يحمل بصمة سياسية. ووجدوا في التعبيرية التجريدية نقيضًا للواقعية الاشتراكية، لقد كانت التعبيرية التجريدية اتجاهًا ممتازًا لأنه ببساطة ذلك النوع من الفن الذي يكرهه السوفييت.

لقد عانت الولايات المتحدة طويلًا من كونها لا تمتلك فنًا خاصًا بها، فنًا يحمل الروح الأمريكية، إذ ظل فنّها فترةً طويلةً عبارة عن مجرد مزج بين المدارس الأجنبية ومستودعًا للمؤثرات الأوروبية، ولكن ها هم التعبيريون التجريديون يمنحون الولايات المتحدة فرصة لاقتحام المشهد الحداثي في الفن.

كان جاكسون بولوك ممثلًا لذلك الكشف القومي الجديد فلقد كانت فيه جميع العوامل التي تؤهله ليكون رائدًا لمدرسةٍ فنيّة تمثل الولايات المتحدة. فأولًا كان بولوك أمريكيًا حقيقيًا وُلد في مزرعة للأغنام في كودي، وكان خشنًا، عنيفًا، قليل الكلام، والأهم أنه لم يخرج من عباءة بيكاسو، بل كان تأثره الأكبر بالمكسيكيين والهنود الأمريكيين.

وجاء بولوك بأسلوبٍ جديد يُعرف بـ(رسم الحركة – Action Painting) حيث كان يقوم بوضع قطعة كبيرة من الكنفاس على الأرض ثم يمطرها بالألوان والأصباغ فتتشابك الخطوط وتمتزج الألوان وتسري في جنبات الكنفاس. وحينها قال بعض النقاد إن بولوك قد أعاد اكتشاف أمريكا من جديد بلوحاته التي مثلت انتصارًا للفن الأمريكي الذي يعبر عن أمريكا الطليقة القوية المليئة بالحيوية.

وهكذا أتاحت التعبيرية التجريدية لأمريكا الظهور بمظهر القوة العظمى إذ كان دائمًا ما ينقصها أن يكون لها فنٌ ملائم، وبالتالي أصبحت التعبيرية التجريدية حاملة للعبء الإمبريالي. وعلى الرغم من ذلك قام أعضاءٌ كثرٌ في الكونجرس بالاعتراض على هذا الفنّ كسلاح في الدعاية إذ رأوه مجرد خزعبلات تظهر الشعب الأمريكي في صورة شعب محطّم وبشع لدرجة أن أحدهم قال: «أنا واحد من الأمريكيين المغفلين الذين يدفعون الضرائب من أجل هذه القمامة، وإذا كان أحد في هذا المجلس يرى أن هذا النوع من التفاهة يمكن أن يحقق فهمًا أفضل عن الحياة الأمريكية فلا بد من إرساله إلى نفس المصحة العقلية التي جاء منها من قاموا برسم تلك الأشياء».


إلا أن دونالد جيمسون – رجل المخابرات – قد حسم الجدل الشديد حول ما إذا كانت التعبيرية التجريدية فنًا حقيقيًا أم مجرد هراء حينما قال إن السي. آي. إيه قد اخترع هذا الاتجاه الفنيّ برمته لأنه أدرك أن فنًا كهذا لا يمتُّ بصلةٍ لا من قريب ولا من بعيد بالواقعية الاشتراكية مما سيظهرها في صورة الفن الذي تحدُّه معايير صارمة وقوية بينما يبدو الفن الأمريكيّ فنًا يدعم الحرية والخروج على الأطر الجامدة. وبذلك قدم دعمًا كبيرًا ودعايةً لكلٍّ من جاكسون بولوك، وروبرت ماذرويل وويليام دي كوننغ، ومارك روثكو لا لفنهم ولكن لكونهم سلاحًا فعالًا في مجابهة الفن الشيوعي أثناء فترة الحرب الباردة.


لوحة البنفسجي والأحمر والأخضر للرسام الأمريكي مارك روثكو


في الواقع، سواء كانت الفنون الجديدة المتمثلة في الخروج عن المألوف وعدم التقيد بالأطر المتعارف عليها والتي دعت لها الولايات المتحدة فنونًا حقيقية تحمل رسالة ورؤية وهدف حقيقيين أم لا، تبقى الحقيقة واضحة للعيان وهي أن هذه الدولة قد استطاعت فرض ثقافتها وفنها، ليس فقط على دول أوروبا بل على العالم بأسره لأنها آمنت وأدركت باكرًا أن للثقافة والكلمة مفعولًا وتأثيرًا يفوق تأثير جيش مدجج بالأسلحة.


أضيف بتاريخ: 16/05/2017