المقالات

الإمام الخامنئي (دام ظِلُّه) وقضيَّة التطبيع

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام الخامنئي (دام ظِلُّه) وقضيَّة التطبيع

د. علي الحاج حسن

تنطلق مواقف الإمام الخامنئي (دام ظِلُّه) من القضيَّة الفلسطينيَّة بكافَّة تشعّباتها بالأخصّ مسألة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، من مواقف مبدئيَّة يمليها الإسلام ومنطلقات الثورة الإسلاميَّة في إيران بالإضافة إلى المنطلقات الأخلاقيَّة والإنسانيَّة التي شكّلت ركائز أساسيَّة للقيادة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة وقوانينها. لذلك فالإمام الخامنئي(دام ظِلُّه) واحد من أكثر القيادات حديثًا عن القضيَّة الفلسطينيَّة وشرح أبعادها واتّخاذ مواقف استراتيجيَّة داعمة للشعب الفلسطينيّ ومندِّدة بالكيان وبالطبع رافضة للتطبيع مع العدو بكافَّة أشكاله بالأخصّ الثقافيّ منه.

ومن هنا يمكن الإشارة في السياق إلى نقطتين هامَّتين:

- أنَّ الإمام الخامنئيّ(دام ظِلُّه) يرى مسألة فلسطين أهمّ مسائل العالم الإسلامي نسبةً إلى رمزيَّتها وما تشكِّله من ثِقل دينيّ وإنسانيّ للعالم الإسلاميّ. يقول الإمام الخامنئي: "إنّ قضيَّة فلسطين أهمّ قضايا العالم الإسلاميّ، وما من قضيَّة دوليَّة في العالم الإسلاميّ تفوقها أهميَّة؛ لأنَّ احتلال مغتصبي التراب الفلسطينيّ ومدينة القدس هذا الجزء من جسد الأُمَّة الإسلاميَّة يمثّل مصدرًا للكثير من حالات الضعف والمشاكل في العالم الإسلاميّ"[1].

- إنَّ العلاقة التي تربط بين الجمهوريَّة الإسلاميَّة وقياداتها وشعبها من جهة والقضيَّة الفلسطينيَّة من جهة أخرى ليست مجرد قضيَّة سياسيَّة أو آنيَّة تحكمها مصالح معيَّنة، بل هي بالدرجة الأولى قضيَّة اعتقاديَّة تدخل في التركيب الفكريّ والدينيّ للمسلمين وقد بيّن الإمام(دام ظِلُّه) هذه المسألة فعبَّر قائلًا: "القضيَّة الفلسطينيَّة بالنسبة إلينا في الجمهوريَّة الإسلاميَّة ليست قضيَّة تكتيك ولا هي حتّى استراتيجيَّة سياسيَّة، إنّما هي قضيَّة عقيدة قلبيَّة ومسألة إيمان وعلاقة قلبيَّة. لذلك لا توجد بيننا وبين شعبنا في هذا الخصوص أيّ فوارق واختلافات..."[2].

أهداف الكيان الصهيونيّ
وإذا كانت القضيَّة بهذه الأهميَّة فقد قدَّم الإمام الخامنئي(دام ظِلُّه) وفي الكثير من خطاباته، صورة واضحة للكيان الصهيونيّ وأهدافه وحذَّر منها الشعوب والدول المحيطة. وقد تعمّق في فهم وتوضيح أهداف العدوّ فأشار إلى الاستراتيجيَّة منها والتي تُشكّل خطرًا ليس على الإسلام والمسلمين فحسب بل على الدول العربيَّة أيضًا، يقول: "إنَّ تحرّر الكيان الإسرائيليّ، ربيب أمريكا، من هاجس معارضة الدول العربيَّة يسمح له بالقيام بالأمور الآتية:
-  القيام بوظيفته الأساسيَّة، أي مواجهة الحركات الإسلاميَّة في هذه المنطقة، التي تشكِّل الخطر الأكبر والجدّي على أمريكا.
- تكريس النفوذ الأمريكيّ على دول هذه المنطقة الحيويَّة، لتصبح المنطقة بعد ذلك دارًا آمنة للأمريكيّين، ويكون الشيطان الأكبر هو صاحب القرار المطلق، وبلا منازع، في منطقة الشرق الأوسط.
- فتح حصن مهمّ آخر لتحقيق سياساتها التوسّعيَّة باحتلال أراضٍ إضافيَّة، وبالتالي تحقيق أمنيتها التي هي من النيل إلى الفرات"[3].

التطبيع مع العدو
حذّر الإمام الخامنئيّ(دام ظِلُّه)  من التطبيع مع العدو الصهيونيّ إذ سمح المطبّعون بعودة الكيان الصهيونيّ ليكون طبيعيًّا في المنطقة حيث حطّموا كافّة الحواجز النفسيَّة والفعليَّة التي تمنع العلاقة معه، ووجّهوا ضربة قاسية لقضيَّة الشعب الفلسطينيّ. وهنا يمكن إيجاز أفكار الإمام الخامنئي بالتالي:

أ‌-     إنَّ المبادرة إلى التطبيع كما فعل البعض، يفتح الباب أمام الآخرين ويزيل قبح التعامل مع الصهاينة ويؤدّي بالتالي إلى ضياع الحقوق. يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظِلُّه): "كانت الدول العربيَّة ذات يوم ترى أنّ الحوار مع إسرائيل؛ بل حتّى مجرّد ذكر إسمها، من أقبح الأمور؛ ولكن هؤلاء عملوا من خلال طرح قضيَّة التفاوض، وإثارة تلك القضيَّة، وإخراجها واحدة واحدة من صفوف الأمّة العربيّة، وتحميلها المسؤوليّة عن إزالة قبح هذه القضيَّة تدريجيًّا؛ فأصبحت حتّى الدول العربيَّة التي لا حدود لها مع إسرائيل، ولا ضرر ولا تهديد عليها منها، تتحدّث في مجامعها عن التفاوض مع إسرائيل"[4].

ب‌- إنَّ التطبيع يؤدّي إلى إنهاء المقاطعة للكيان الصهيونيّ وهذا بحدّ ذاته خيانة للقضيَّة إذ يترتّب عليه نسيانها ونسيان أحقيَّتها. يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظِلُّه): "إنّ دول الخليج الفارسي قد ارتكبت اليوم أعظم خيانة في تاريخها وتاريخ الدول العربيَّة، بأن دعمت ودافعت عن (إسرائيل) الغاصبة، في اغتصابها وظلمها لدولة إسلاميَّة وشعب عربي، وهذا هو معنى الاعتراف بـ (إسرائيل). لقد ألغوا المقاطعة (مع إسرائيل)، فما معنى هذا العمل؟ إنّه خيانة بحقّ الشعوب المسلمة، خيانة بحقّ الشعوب العربيّة، وأعظم خيانة بحقّ الشعب الفلسطينيّ"[5].

ت‌- لا يمكن الوثوق بالصهاينة وهم المحتاجون إلى تطبيع الدول العربيَّة معهم ليتابعوا مخطَّطاتهم الاستراتيجيَّة، فالتطبيع مع الكيان ينطوي على خداع يلحق الضرر بالمسلمين وقضيَّتهم. يقول الإمام الخامنئي(دام ظِلُّه): " لقد قلنا منذ اليوم الأوّل: إنّ مفاوضات الصهاينة مع العرب قائمة على الخداع؛ فهم لا يريدون حلّ مشكلتهم مع العرب، إنّما يهدفون إلى إزالة الخطر عن أنفسهم -كما يتوهّمون -ليواصلوا عدوانهم مرّة أخرى؛ فالعدوان الصهيونيّ لم ينته بعد؛ بل ستكون لهم اعتداءات أخرى"[6].
ويرمي الصهاينة من وراء تنفيذ مخطَّطاتهم إلى بسط هيمنتهم والاستيلاء على المنطقة وإزاحة الأخطار التي تهدّد وجودهم غير الشرعي، لذلك يقول الإمام الخامنئي: " فبعد أن يتسنّى للصهاينة توطيد وجودهم جغرافيًّا، يصل الدور إلى الهيمنة على الثروات الحيويَّة والاقتصاديَّة للبلدان العربيَّة، وهل سيُتيحون للدول العربية تنفّس الصعداء؟ لا؛ بل سيشنون عليها عدوانًا جديدًا، بمجرَّد أن تتوفّر لهم أسباب القوّة"[7].

طريق الحل
أ‌-     يبدأ طريق الحل من وجهة نظر الإمام الخامنئي(دام ظِلُّه) بقطع العلاقات والمحادثات مع الكيان الصهيونيّ وهذا واجب المسلمين ودولهم. يقول: "نتوقع أيضًا من الدول الإسلاميَّة -لا سيما الدول العربيَّة -أن تقطع علاقاتها مع الصهيونيّة الغاصبة والظالمة والوقحة. لقد كشفت تلك الصهيونيّة عن وجهها الحقيقي مرَّة أخرى، وأظهرت مجدّدًا أنَّ الحاكم على تصرّفاتها ليس سوى لغة القوَّة، ومنطق القوَّة، والفكر المتكبّر والمتسلّط"[8].

ويقول أيضًا: "على الدول الإسلاميَّة أن لا تطبّع العلاقات مع الكيان الصهيونيّ الغاصب والغادر والظالم -الذي يشكّل خطرًا على جميع الشعوب والحكومات- ولا ينبغي مقابلة هذا الكيان بوجه بشوش إرضاءً لأمريكا"[9]. وأمَّا المحادثات فلم تحمل للقضيَّة الفلسطينيَّة أيّ فائدة بل على العكس من ذلك ساهمت في بسط سيطرة الصهاينة، لذلك عدّد الإمام الخامنئي(دام ظِلُّه) في كلماته الآثار المترتّبة عليها[10].

ب‌-  من جملة الخطوات أيضًا، المبادرة إلى مساعدة ومساندة الشعب الفلسطينيّ بكافَّة أنواع المساندة وهذا واجب على الجميع. يقول الإمام الخامنئي(دام ظِلُّه): " وثمَّة واجب على الجميع يتمثَّل بمساعدة الشعب الفلسطينيّ المظلوم.. وإنّ مسؤوليّة النخب السياسيَّة والدينيَّة والثقافيَّة والشخصيَّات الوطنيَّة والشباب والطلّاب الجامعيّين تفوق مسؤوليّة الآخرين. ويجب أن تشكّل موضوعات الوحدة والتعاطف بين أتباع المذاهب الإسلاميَّة والابتعاد عن الخلافات الطائفيَّة والقوميَّة، الشعارات الأبرز لهذه النخب. وينبغي أن يحتلّ النشاط العلميّ والنشاط السياسي والجهد الثقافيّ وتعبئة جميع القوى في هذه الصفوف الأساسيَّة، مكان الصدارة في دعوتها"[11].

ت‌-  كما يشدد الإمام الخامنئي على أهميَّة المقاومة ودورها، لأنَّ إنقاذ فلسطين يتطلَّب وجود مصدر قوَّة لانتزاع الحقوق بالأخصّ وإنّ الكيان الصهيونيّ يتطلّع إلى أهداف تخدم مصالحه. يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظِلُّه): "ولم يتحقّق، حتّى ذلك القدر الضئيل من الإنجاز، إلّا بفضل جهاد المجاهدين ومقاومة الغيارى من الرجال والنساء الرافضين للاستسلام؛ فلولا موجات الانتفاضات، لما أعطى الصهاينة للقادة الفلسطينيّين التقليديّين، حتى ذلك الشيء الضئيل على الرغم من التنازلات المتواصلة، التي قدّمها هؤلاء إلى الجانب الصهيونيّ. إنّ إنقاذ فلسطين لن يتحقّق عبر الاستجداء من الأمم المتّحدة، أو القوى المهيمنة على العالم، ولا من الكيان الغاصب البتّة؛ إنّما السبيل إلى الإنقاذ هو الصمود والمقاومة"[12].

أخيرًا
يظهر من خلال الإطلالة على أفكار الإمام الخامنئيّ(دام ظِلُّه)، مدى الأهميَّة التي يوليها لمسألة القضيَّة الفلسطينيَّة ورفض كلّ أشكال التطبيع مع الكيان الصهيونيّ ويتبيَّن الدور الذي تحدَّث عنه بالتفصيل وفي العديد من الكلمات، التي يجب أن يطّلع عليها المعنيون سواء أكانوا أفرادًا أو جماعاتٍ أو دول، وما ذكرناه هو غيض من فيض أفكاره وكلماته التي تحتاج إلى مجلَّدات لايفاءها ما تستحق. 

بناءً على ما تقدَّم فإن مسألة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ تدفعنا للتأكيد على مجموعة من النقاط الهامة:

- لا يمكن الحديث عن التطبيع مع العدو الصهيونيّ بمعزل عن الهويَّة الإسلاميَّة الحقيقيَّة التي تنظر إلى الصهيونيّ على أنَّه محتلّ ومعتدٍّ وغاصب... وأنَّه يعمل بكلّ جهوده لتدمير الهويَّة الإسلاميَّة لشعب مسلم. والتعرّض لهويَّة المسلمين في فلسطين لا يتوقف على حدودها بل يترجم في خضوع وخنوع وإذعان المسلمين على امتداد الكرة الأرضيَّة، ويدفع البعض من منطلق الشعور بالدونيَّة والعمالة إلى التخلّي عن هذه الهويَّة. ولعلَّ ما نشاهده هذا الأيام من تهافت بعض الأنظمة العربيَّة على التطبيع هو خير مثال لما آلت إليه أحوال الهويَّة الإسلاميَّة، فكيف الحال بمستقبلها!.

- من منطلق تهديد الهويَّة عبر التطبيع، تبرز عمليَّة المواجهة وضرورتها كخيار وحيد للإبقاء على الهويَّة والدفاع عن المظلوم وبالتالي محاربة الظالم (التي تنطلق من اعماق الاعتقاد الإسلامي). وتتَّخذ عمليَّة الدفاع أشكالًا متعدِّدة، فقد تكون عند البعض على سبيل المواجهة المباشرة وعند البعض غير المباشرة حيث تبرز قضيَّة التوجيه والتوضيح وإظهار الحقائق كعنصر هامّ في الدفاع عن الحقوق. لذلك عندما يجاهر القادة المسلمون وعلى رأسهم الإمام الخامنئي برفض التطبيع وضرورة مواجهته بكافَّة الأساليب، فهو يرجع إلى الروح الإسلاميَّة التي تقتضي ذلك. ومن جملة الأمور التي يجب الالتفات إليها، ما يمارسه العدوّ من حرب ناعمة لإقناع الرأي العام الإسلاميّ بوجوده. وهذا يتطلَّب عملًا تأسيسيًّا يصوِّب على المصادر الناعمة التي يلجأ إليها العدوّ. ومن جملة [الأعمال الناعمة التي يستخدمها العدو] يمكن الإشارة إلى الأعمال الفنيَّة من مسلسلات وأفلام ورسوم و.. وكذلك الكتابات والترجمات والروايات، عدا عن محاولات التعرّض للمناهج التربويَّة والتعليميَّة عبر تحريفها وحذف كل ما يشير إلى الصهيونيّ على أنَّه عدوّ والإبقاء على صورة ناصعة له..، كل ذلك بهدف تقديم صورة إيجابيَّة عنه تساهم عبر مرور الزمن في تحوُّل الرأي العامّ نحو قبوله.

- تُظهِر مراجعة أدبيَّات القادة المسلمين، بالأخص الإمام الخامنئي، مدى الحاجة لوجود تصوّر إسلامي مُنسجم وموحَّد، يدافع عن الحقوق ويضع البرامج التي تحول دون تهديد الهويَّة. وإذا كان بعض القادة السياسيّون لا يتورَّعون عن التقارب مع العدو وجعل وجوده طبيعيًّا، فإنَّ على المثقَّفين والنخب اتّخاذ المواقف الرصينة التي تؤسِّس لمشروع منع التطبيع عبر التأصيل الثقافيّ والإسلاميّ للفكرة، ومن ثمّ بلورتها ولو على مستوى الوعي الجماهيري.


[1] خطاب الإمام الخامنئي في جمع زوار مرقد الإمام الخميني (قده) ، 23 ربيع الأول 1423هـ.ق.
[2] من كلام الإمام الخامنئي بتاريخ ، 13 ربيع الأول 1431هـ.ق.
[3] رسالة إلى الشعوب المسلمة... لمواجهة المؤامرات الأمريكية والإسرائيلية الخبيثة في مؤتمر مدريد ، 8 ربيع الثاني 1412هـ.ق.
[4]ـ خطبة الجمعة ، 17 رمضان 1418هـ.ق.
[5] ـ حفل تخرّج دفعة من ضباط القوة البرية ، 29 ربيع الثاني 1415هـ.ق.
[6] خطبة الجمعة ، 8 رمضان 1417هـ.ق.
[7] ـ م.ن.
[8]ـ خطابه في مراسم تخريج طاقم من قوّات الشرطة 18/7/1379هـ.ش.
[9]ـ خطبة الجمعة ، 17 رمضان 1426هـ.ق.
[10]- راجع كلام الإمام الخامنئي  في مؤتمر الدفاع عن فلسطين 4-3-2009م.
[11]ـ رسالة إلى حجاج بيت الله الحرام 19/10/1384هـ.ش.
[12]ـ مؤتمر الدفاع عن فلسطين 4-3-2009م.

أضيف بتاريخ: 24/09/2020