تحديات

الهويّة في ظل غزو عقول البشرية

باسمه تعالى

الهويّة في ظل غزو عقول البشرية

الدكتور احمد علي الشامي

ليس من العقلانيّة الدعوة إلى الانغلاق، بحجّة حماية الهويّة من التشتت والضياع، لأن هذا يعني، أنّ الهويّة هي على درجة من الضعف والهوان، أو أنّ الجهات والمؤسسات المعنيّة بحفظ الهويّة وجعلها أكثر مواكبة لحركة التطوّر في الحياة قد بلغت مرحلة متقدّمة من الترهّل والعجز، أو الاثنان معًا. فالانغلاق وإن كان يقدّم بوصفه وسيلة لحماية الهويّة من التهديدات الوافدة، سيمّا في ظل عدم التكافؤ في الفرص والإمكانيات، إلّا أنّ ذلك يصحّ على المدى القريب، فالانكشاف حتمي وسيكون أكثر إيلامًا للبنى المجتمعيّة التي لم تعتد التحدي وإتقان فنّ التعامل مع الآخر المختلف.

من خلال العودة إلى الماضي القريب، يجدر التوقف أمام معطى تاريخي لافت بدلالاته، حيث راحت جهات غربيّة تسعى - وبكل كدّ ومثابرة - لإنشاء جامعات ومراكز علميّة في البلاد التي كانت تقع ضمن دائرة الامبراطوريّة العثمانيّة، على الرغم من آلاف الأميال التي تفصلها عنها، متحمّلة في ذلك أعباء باهظة، إلى جانب إرسالها نخب من أساتذتها وبعثاتها العلميّة للإقامة بعيداً عن موطنها الأصلي.

في التوقيت، ليس من باب الصدفة، أن يترافق تقهقر نفوذ الامبراطوريّة العثمانيّة وتفكك بناها الداخليّة مع تنامي الاندفاعة الغربيّة تلك. فقد قدّر تقرير غير رسمي أنُجز عشيّة الحرب العالميّة الأولى عام 1915، أنّ عدد المدارس الفرنسيّة في الامبراطوريّة العثمانيّة بـلغ 500 مدرسة، والمدارس الأمريكيّة بـ 675 مدرسة، والبريطانيّة بـ 178 مدرسة، والتحق بالمدارس الفرنسيّة 59,414 طالب، والتحق بالمدارس الأمريكيّة 34،317 طالب، وبالمدارس البريطانيّة 12،800 طالب، ناهيك عن أعداد من الملتحقين بالمدارس الألمانيّة والإيطاليّة والنمساويّة والمجريّة والروسيّة([1]).

وفي التوقيت أيضًا، إنّ أول كليّة تأسّست في الامبراطوريّة العثمانيّة، كانت غربيّة الهويّة والانتماء، تحت مسمى الكليّة السوريّة البروتستانتيّة (الإسم الأسبق للجامعة الأمريكيّة في بيروت) وذلك في العام 1866([2]). وبينما بدأت جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت عام 1878، بإنشاء مدارس خاصة بوصفها بديلاً إسلامياً عربياً حديثاً للمدارس الأجنبيّة، كان على رعايا الدولة العليّة الانتظار حتى العام 1883، كي تجهّز لهم مدارس تعتمد بالإضافة إلى المناهج الدراسيّة الدينيّة مقدمات في علم الفلك والعلوم الطبيعيّة، وكان عليهم الانتظار حتى العام 1895، حتى يفتتح لهم أول كليّة عثمانيّة([3]).

أمّا في المضمون، ومن خلال قراءة الغزو الغربي للمنطقة بهذا العدد الوافر من المؤسسات التعليميّة، يلاحظ أنّ المسار الذي سلكه، قد اتخذ في البداية من التبشير الديني شعارًا له. ولاحقًا، أحدث الغربي تحولًا جذريًا في غاياته، حين انتقل بتلك المؤسسات التعليميّة من أدوات للتبشير الديني إلى رافعة للواء نشر قيم العلمانيّة والليبراليّة. ويستوقف المتابع لهذا المسار، حجم الدور الفاعل والأساس الذي لعبه كل من الاستشراق والاستغراب في تحقق تطلعات الغرب نحو الشرق.

فمن جهة التبشير بالقيم المسيحيّة، التي كانت أولى غايات مؤسسات الغرب التعليميّة، نستحضر هنا بعض المعطيات الدالة، ففي العام 1866، جرى تأسيس أول أكاديميّة للتعليم العالي في المنطقة، بإسم "الكليّة السوريّة البروتستانتيّة"([4]). وأعلن المؤسس الأول، دانييال بليس([5])، عن أهداف الكليّة وغاياتها، في قوله: نريد دمج تعليم أحدث مجالات الآداب والعلوم مع التزام مبادئ ومعتقدات المذهب البروتستانتي([6]).

واللافت في هذا المجال، إنّ أولى الخطوات التي مورست لتنفيذ هذه الاستراتيجيّة راحت تستهدف المرأة الشرقيّة بشكل أساسي، وقد أشار المبشّر "زويمر"، إلى أهميّة العنصر النسائي في المجتمعات الشرقيّة، وهذا ما يستدعي العمل مع النساء، فمن شأنه أن يسرّع في تنصير بلاد المسلمين[7].

أمّا لجهة التحول نحو نشر قيم العلمانيّة، تطرح التساؤلات الآتية: إذا كان شعار فصل الدين عن الدولة قد اجتاح أوروبا لمبررات ترتبط بظروف سادت مجتمعاتها في حينها، فلماذا اتخذ الغرب من العلمانيّة هدفًا استراتيجيًا يعمل على نشرها في بلادنا؟ وما حقيقة علاقة ذلك بحماسة المنتصرين في الحرب العالميّة الأولى، لاستقطاب نخب قياديّة من بلاد التركة العثمانيّة، يتم إشباعهم بالقيم والأفكار العلمانيّة والليبراليّة، ليكونوا دعاتها في مجتمعاتهم؟

إنّ أولى الخطوات التي مورست في هذا المجال، كان من خلال المؤسسات التعليميّة الغربيّة المنتشرة والفاعلة في بلادنا، منها على سبيل المثال، حين جرى استبدال اسم الكليّة السوريّة البروتستانتيّة، في العام 1920، باسم الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وبعد أن كانت الهداية إلى المذهب البروتستانتي عنواناً مرافقاً لغاياتها الأكاديميّة، صارت تقدم نفسها، كونها جامعة علمانيّة تبشر بقيم الليبراليّة[8]. وجرى ذلك، بموجب اتفاق بين إدارة الجامعة وكوادرها التعليميّة، وبين نخب في وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، إلى جانب مشاركة لافتة لوكالة المخابرات الأمريكيّة(CIA)([9]).

لقد تموضعت الاستراتيجيّة الأمريكيّة خلال بدايات القرن الماضي لجهة فاعليّة الدور والتحكم، في منزلة ابتعدت عن العلمانيّة الفرنسيّة المقاتلة للدين بشكل عام، وتمايزت عن العلمانيّة البريطانيّة ببصماتها المبشّرة بقيم المسيحيّة البروتستانتيّة. فقدمت الغزو الناعم بوصفه أكثر جدوائيّة من خوض الحروب العسكريّة للسيطرة وبسط الهيمنة.

إذ تدعو هذه الاستراتيجيّة، إلى تغلغل قيم الليبراليّة وأفكارها في المجتمعات المستهدفة، والعمل على غرسها في عقول وقلوب الشباب بصورة خاصّة، من خلال نشر تلك القيم عبر أدوات يجري إعدادها بإتقان، وفق مناهج تعليميّة مؤثرة.

ويروي أحد خريجي جامعات الغرب في بلادنا([10])، أن أكثر ما أزعجه في جامعته، إعداد الطالب كي يتأقلم، لا مع محيطه، بل مع المحيط الغربي البعيد، فهي مكان لإعداد النخب من أجل النفاذ إلى مواقع التأثير وصناعة القرار. ويكمل المتخرّج الجامعي، أنه كان عليه بذل الجهد الكبير كي يتحرر مما زرعت به من مناهج وأفكار. ويروي متخرّج آخر، أنّ جامعته التي تعلّم فيها صارت بنظره، المكان الذي يرسم فيه، ولو بشيء من المبالغة، عقل الأمة، وتحاك فيه أحلامه في التغيير([11]).

تعزيزاً لنشر المنهاج  الليبرالي في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعمل العديد من المؤسسات التعليميّة الغربيّة في بلادنا على توفير الدعم المالي لدارسي مجالات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، فهذه العلوم بحسب تصريح لرئيس إحدى هذه المؤسسات([12]) ، من شأنها أن تغيّر وتطور البشريّة، إذ تحمل الكثير من سمات الفكر الليبرالي أكثر مما تحمله العلوم التطبيقيّة والعلوم البحتة بالمعنى المصطلح.

مكمن المشكلة كما يراها طلاب من هذه المؤسسات التعليميّة، أنها ليست في الأطروحات الفكريّة التي يجدر التعرّف عليها، وإنّما في منهجيّة تقديمها، ما يدفع الطالب نحو تبنّي الرؤية الليبراليّة العلمانيّة كحلّ لأزمات مجتمعه. ففيما يركز هذا المنهج على عقليّة الفرد وحقّه في التفكير باستقلاليّة وحريّة، بعيداً عن مرجعيّاته السابقة، سواء الدينيّة، أو العرفيّة، أو الأسريّة، يعمل على طرح كمّ من الأفكار المتضاربة دون وضع حلول واضحة، بحيث يبلغ الطالب حد تعذر إمكانيّة وجود عقائد تمثل الحقيقة، بل القول بنسبيّة تلك العقائد، ليصبح الدين بنظره مجرّد مؤسّسة اجتماعيّة وجزء من الإرث التاريخيّ الذي يشكّل هويّته وهويّة مجتمعه([13]).

حول ذلك، يقول رئيس إحدى المؤسسات التعليميّة الغربيّة في بلادنا، بأن رؤيته هي في جعل الشرقيين يتفهمون الحداثة الغربيّة القادمة إليهم. وجرى لاحقًا تحويل هذه الرؤية إلى منهاج تعليمي، في كتاب دراسي حول التربية المدنيّة، يدعو الطلاب، إلى التعامل مع التغييرات القادمة من الغرب، ولكن، مع ضرورة الإدراك بعدم التعامل مع تلك الإصلاحات بشكل سريع خشية زعزعة استقرار المجتمع.   

كما تؤكد المناهج الوافدة، على ضرورة حيازة الطالب للمعرفة باللغة الأجنبيّة، بحجة عجز اللغة العربيّة عن مسايرة التطور المتسارع في مجال العلوم، فقد حرص منظّري الفكر التعليمي الأمريكي على ضرورة حيازة الطالب للمعرفة الأدبيّة الشاملة باللاتينيّة واليونانيّة، إيماناً منهم بأنه فقط ومن خلال دراسة هاتين اللغتين بإمكان الطالب أن يكتسب تهذيب العقل من أجل إدراك الحقيقة. وقد عبّر عن ذلك "دنيال بلس"، عضو هيئة التدريس في أقدم جامعات الغرب في بلادنا، بقوله: أنه من خلال اللغة الإنكليزيّة يمكن الوصول إلى أفكار أفضل الرجال وأحكمهم. وتعقيبًا على ذلك، يقول أستاذ الفلسفة السابق في هذه الجامعة "محمود شريح"، إنه من خلال التخلي عن التدريس بالعربيّة، أصبح الطالب مستغربًا في حضارته العربيّة([14]).

وأمام هذه الحقائق، بدى واضحاً دور كل من الاستشراق والاستغراب في صناعتها، ويذكر هنا على سبيل المثال، ما قاله أحد ضباط الاستعمار الفرنسيّ في العام 1846: إنّ الأمر الأساس الذي يمكن أن نفعله هو أن نجعل من الشعوب المستعمرة قابلة للسيطرة، بالقبض على عقولهم بعدما أحكمنا قبضتنا على أجسادهم، وقد تمّ ذلك بنجاح، عن طريق استقدام التعليم الأوروبيّ، فأهل الشرق الذين أُخِذوا بسطوة الغرب – الاقتصاديّة والعسكريّة - سيجلسون إلى الغربيّ ويتعلّمون منه الأفكار التي صاغها الاستشراقيّون.

لذلك ليس من المبالغة القول، بأن أكثر الجهات التي أسهمت في صياغة الأفكار والمناهج في بلادنا، هي "الاستشراق" الذي برع في إقناع الأوروبيّين على أنّهم يتربّعون فوق قمّة الحضارة، وفي إقناع الشرقيين على أنهم أصيلين في دونيّتهم، فهم بذلك، يحتاجون إلى الغربيّ حتى يمنحهم الحضارة.

فغدت أطروحات الاستشراق حدودًا وقيودًا للفكر، سواءً لدى الغربيّين أو الشرقيّين. وبالتحديد، حين صيغت الأفكار الاستشراقيّة على شكل مناهج ومواد تعليميّة، تنهل منها شعوب الغرب فتزداد شعورًا بالتفوق والتميّز والعظمة، كما تنهل منها شعوب الشرق فيزداد شعورها بالدونيّة والتخلّف. لقد بات النموذج الغربيّ هو الأمثل الذي لا مجال أمام الشعوب التوّاقة إلى التقدّم سوى سلوكه بكلّ دقّة ومطواعيّة.

كما أنّ من العقلانيّة القول، بأن واحدة من أكثر التفسيرات لتردي أحوال مجتمعاتنا، أن النخب الحاكمة والمؤثرة قد تعرّفت على نفسها من خلال عدسات الاستشراق، فراحت تجاهر بموافقتها العمياء على التشخيص الأوروبيّ لمشكلات الشرق المتردّي، وقبولها ما يقدّمه من علاج. وهنا، نستعير تعليقًا للكاتب المغربيّ "رشيد بوطيّب" يقول فيه: إنّ ما نشهده من قراءات مغلوطة قد ساهم في خلقها آراء لشخصيات تغرّبت عن ثقافتها وهويّتها العربيّة والإسلاميّة، ومكّنتها الميديا والنخب الغربيّة من أن تسجل لها حضورًا إعلاميًّا قويًّا[15]. وقد سبق أن قال فيهم" اللورد كرومر" المندوب السامي البريطانيّ على مصر: إنّ هؤلاء هم حلفاء الأوروبيّ المصلحون[16].


[1] Roderic H.Devison,Westernized Education in Ottoman Turkey Middle East Journal, vol.15,no3(summer 1961),291.
[2] كان اسم الجامعة الأمريكيّة في بيروت " الكليّة السوريّة البروتستانتيّة " قبل استبداله في العام 1920.
[3] بيتي أندرسون، "الجامعة الأمريكيّة في بيروت القوميّة العربيّة والتعليم الليبرالي"، دار الأهليّة للنشر والتوزيع، عمان الاردن، 2014، ترجمة عزمي طبة ، ص 12.
[4] تقرير حول فيلم وثائقي، بثته قناة الجزيرة ضمن برنامج تحت المجهر، تحت عنوان " القوة الناعمة.. الجامعة الأمريكيّة في بيروت " نشر بتاريخ 4/2/2016 موقع قناة الجزيرة .
[5] دانييال بليس، رئيس الجامعة ومؤسسها من عام 1866 – 1902، وقد اطلق اسمه على الشارع الملاصق لسور الجامعة، وكذلك على إحدى قاعات الجامعة.
[6] بيتي أندرسون، الجامعة الأمريكيّة، م.س. ص 3.
[7] كاثرين بولوك، نظرة الغرب إلى الحجاب، ترجمة شكري مجاهد، دار العبيكان, الرياض 2011، ص77.
[8] للتوسع انظر: دراسة الجامعة الأمريكيّة في بيروت  (AUB)والحرب الناعمة، إعداد مركز الحرب الناعمة للدراسات، بيروت،2017.
[9] بيتي أندرسون، "الجامعة الأمريكيّة في بيروت، م.س.، ص 32.
[10] أسعد أبو خليل، مقالة تحت عنوان " الجامعة الأمريكيّة، التأميم هو الحل"، نشرته جريدة الأخبار، بتاريخ 30/6/2012.
[11]  منح الصلح، مقالة عن الجامعة الأمريكيّة ودورها، جريدة السفير، 30-6-2003.
[12] موقع ليبانون فايلز، مقابلة مع مدير الجامعة الأميركيّة في بيروت، الدكتور فضلو خوري، نشرت في تقرير تحت عنوان " الجامعة الأمريكيّة في بيروت تقدم منحا في التعليم الليبرالي " بتاريخ 15/1/2016:
http://www.lebanonfiles.com/news/986523
[13] من مقابلة مع طلاب  في الجامعة الأمريكيّة.
[14]  قناة الجزيرة، فيلم وثائقي تحت عنوان " القوى الناعمة.. الجامعة الأمريكيّة في بيروت " نشر بتاريخ 4/2/2016
[15] موقع قنطرة الألماني، رشيد بوطيب، الجدل حول الحجاب في أوروبا - حقد على الحجاب أم تاريخ منسيّ للمرأة الغربيّة؟، عام 2011.
[16] موقع ساسة بوست، أحمد عامر، اللورد كرومر، مؤسّس مصر الحديثة، 2/3/2016.

أضيف بتاريخ: 15/10/2020