المقالات

نمط الحياة والتحصين الناعم

نمط الحياة والتحصين الناعم

د. علي الحاج حسن

مقدمة:
يشكل نمط الحياة في كل مجتمع الركيزة الأساس التي يمكن من خلالها رسم ملامح الشخصية، لا بل والمجتمع باعتبار أنه يحاكي وإلى اقصى الحدود الخلفيات الايديولوجية والمثل الأخلاقية، ومن خلاله يمكن تحديد ملامح الانتماء والهوية. تتجلى الصورة الظاهرية لنمط الحياة في السلوكيات الفردية التي اعتاد الفرد العمل بها والافصاح عنها في مختلف شؤون حياته إلا أنه وكما أسلفنا يحكي عن تلك المعتقدات والخلفيات وهذا يعني أننا لن نجد شخصاً غير مقيد بنمط حياة معين ومحدد.

 وإذا كان العرف في الغالب هو الذي يضبط نمط الحياة والسلوك في المجتمع، فهو في الكثير من الأحيان ينطلق من أفكار واعتقادات ورؤى لدى الشخص. وبمقدار ما يعبّر نمط الحياة عن الفرد وخلفياته فإنه في الواقع يعبّر عن ما يختلج في المجتمع كمجموع من تلك الإيديولوجيات والأفكار.   

بناءً على ما تقدم فإن من أهم مكونات نمط الحياة، القيم والافكار والاعتقادات التي يحملها الفرد. وبالتالي فإن تغيير نمط الحياة يجب ان يتم انطلاقاً من قيم و... جديدة وتغييره يحمل معه إشكالية تغيير الهوية وفقدان الانتماء. وعلى هذا الأساس يمكن القول وبوضوح ان نمط الحياة والحرب عليه واحد من أساليب الحرب الناعمة التي تتسلل الى الفرد والمجتمع عبر تغيير القيم المعمول بها، وإحلال قيم اخرى بديلة تتنافى إلى أقصى الحدود مع الهوية. ومن هذا النقطة بالضبط تبرز أهمية تحديد نمط الحياة، ودوره في تحصين المجتمع من تداعيات الحرب الناعمة.

وإذا كان وجود نمط الحياة ضرورياً فقد تشترك مجموعات عديدة في بعض تفاصيل أنماط الحياة وتختلف في البعض الآخر انطلاقاً من الاختلاف الإيديولوجي بينها.

ما هو نمط الحياة:
يعتقد البعض أن نمط الحياة هو ظاهرة جمعية، وهو يتعلّق بالوضع الطبقي حيث لا ماهية مستقلّة له، بل يدل على وجود طبقات في المجتمع.[1] وبما أن المجتمع يقسم إلى طبقات لذلك فان السلوكيات والتصرفات والأفكار ... ذات العلاقة بالأفراد والمجموع تتحدد من خلال نوع الطبقة الاجتماعية. وتعود هذه القراءة إلى بعض الايديولوجيات التي حكمت البشر والتي يجري على أساسها وضع معتقدات تنص على الطبقية الاجتماعية والاختلاف الإنساني.

يتحدد مفهوم نمط الحياة في الأنظمة البرجوازية على أساس المصرف عند الإنسان ، وبعبارة أدق الوصول إلى القيم الأساسية التي تركز على البعد الفردي والقدرة على إبراز هذه الفردية في العلاقات مع الآخرين[2].

يعتقد ماكس ويبر أن نمط الحياة يشير إلى أنماط السلوك ، اللباس، التحدّث، التفكير والاتجاهات التي تبين الاختلاف في منزلة الأشخاص[3] ، ويبين أن المقصود من نمط الحياة هو القيم والعادات والآداب المشتركة التي تضفي على المجموعة الإحساس بالهوية الجمعية.

يشير كيدنز إلى ان نمط الحياة عبارة عن مجموعة شبه جامعة من الأعمال التي يمارسها الشخص. تؤمّن هذه الاعمال الاحتياجات الموجودة وتحكي عن هوية الشخص في مقابل الآخرين. إن نمط الحياة في اعتقاده هو مجموعة منسجمة من كافة الاعمال والنشاطات التي يقوم بها شخص محدد في مجريات حياته اليومية.[4]

يعتبر صاحب كتاب "الدين ونمط الحياة" أن نمط الحياة عبارة عن مجموعة منظمة من السلوكيات الداخلية والخارجية، وكذلك الوضعيات الاجتماعية والاشياء التي يختارها الشخص او المجموعة على أساس مجموعة من الميول والترجيحات وأثناء التعامل مع الظروف المحيطة.وبعبارة مختصرة نمط الحياة عبارة عن النموذج أو المجموعة المنظمة من الأفعال المرجحة.[5]

تحدث الامام الخامنئي حول نمط الحياة موضحاً المقصود منه. يقول: " إن السلوك الاجتماعي ونمط الحياة ، تابع فهمنا للحياة : ما هو الهدف من الحياة؟ إنّ أيّ هدف نحدده للحياة ، وكل هدف نرسمه لنا ، ويكون مناسبا لنا بالطبع ، فهو يقدّم لنا نمط حياة معيّن. هناك نقطة أساسية وهي الإيمان. يجب أن نحدد هدفاً – هدفاً للحياة – ونؤمن به، لا يمكن التقدم في هذه الأقسام من دون إيمان، ولا يحصل عمل صحيح، ويتم اختيار نمط الحياة على أساس هذا الإيمان".[6]
يرتبط نمط الحياة بالهدف منها ، فعندما نفهم الهدف من الحياة عند ذلك يجب أن نختار نمط الحياة الذي يقرّبنا من ذاك الهدف أو الأهداف وهذا يتوقف على الإيمان بالهدف، فالإيمان بالهدف هو الذي يجعل الشخص مقتنعا بضرورة الوصول اليه وهذا لا يتم إلا من خلال اختيار أسلوب معين للحياة. وهنا يجب الحديث بشكل مفصّل حول كيفية الحصول على الأهداف وكيف يتأتّي نمط الحياة.
 
العناصر المؤلفة لنمط الحياة:
يُقصد من مؤلفات نمط الحياة، الأمور التي تعتبر مصداقا عينياً له. تحدّث الغربيون عن مجموعة من المؤلفات من أبرزها : أسلوب الغذاء، الشكل الظاهري (اللباس والملائمة مع الموضة)، نوع المسكن ، وسيلة النقل، كيفية قضاء أوقات الفراغ، السلوكيات التي تحكي عن النجابة والكرم والتدخين وعدد الخدم ، ويبدو من خلال هذه الأمور أن الغربيين ينظرون إلى نمط الحياة على أنه يشمل كافة السلوكيات والأفكار والعواطف الفردية وحركة الإنسان نحو الهدف[7] .

وقد تحدث البعض عن نمط الحياة في إطار القدرة على الشراء واتجه آخرون نحو معالجة الموضوع على أساس نموذج المصرف في المجتمع حيث يتضمن هذا الأمر الترجيحات عند الفرد، المزاج والقيمة التي تحملها البضاعة وبالتالي يتم تحديد نمط الحياة الجماعي على أساس نوعية وأولوية ومزاج الأشخاص.

لعل من أبرز الأمور التي تشغل بال الإنسان، القضايا ذات العلاقة بالمعاش أي الحياة اليومية من إنتاج ومصرف وتعاطي مع الأمور المادية. من جهة أخرى فإن الفهم الخاطيء للمفاهيم الأخلاقية يؤدي إلى فساد المعاش. من هنا ينبغي التأكيد على بعض المؤلفات والعناصر الأخلاقية التي تدور حول المصرف في الحياة والمعيشة وهي على النحو التالي:

أ – الاقتصاد والاعتدال.يعتبر الاقتصاد والاعتدال في الحياة من جملة الأصول الأساسية للحياة السليمة وهذا ما أكّدت عليه الروايات.
  ورد عن الامام أمير المؤمنين (ع): "وعليك بالقصد فانه أعون شيء على حسن العيش"[8]. ويحمل الاقتصاد والاعتدال في طياته مصلحة الدنيا والآخرة معاً. وجاء عن  الامام الصادق (ع): "من علامات المؤمن ثلاث ، حُسن التقدير في المعيشة و... قال: ما خير في رجل لا يقتصد في معيشته ما يصلح لا لدنياه ولا لآخرته"[9] .

ب- القناعة. من جملة أصول إصلاح المعاش ، القناعة وتعويد النفس على القلّة والإلتزام بذلك بما يساهم في عزة الإنسان والمجتمع. يقول الامام امير المؤمنين (ع): "بالقناعة يكون العزّ"[10].
لا يمكن أن يفهم من القناعة في الإسلام أن يعيش المسلم ضيقا في المعاش أو كسلا في العمل وبذل المجهود ، بل القناعة بين المؤمنين وسيلة مناسبة لرفع الاضطراب الناشئ من الحرص ومن ثم الارتقاء من حضيض الغرائز الحيوانية إلى أعلى درجات القوى الروحانية والمعنوية . أما الذي يشعر بعدم الحاجة لغير الله فهو ممن حافظ على الهدوء والاطمئنان النفسي وأخلص في عمله وجهده في تحصيل المعاش وإعمار الدنيا وهو الذي يعمل وبشكل دؤوب لأجل كمال وسعادة الإنسان والمجتمع لذلك فهو يسعى أكثر من أي شخص آخر في عمران الدنيا وإصلاح المعاش.

ج – الزهد. يعتبر الزهد والطريقة الزاهدة بالحياة واحداً من المميزات الأساسية للحياة الصالحة. والمقصود من الزهد هو عدم الرغبة باللذائذ الدنيوية، وعدم الرغبة هنا يعني عدم التعلّق بها بحيث يكون لها تأثيراً كبيرا على مستوى الحياة وعلى حساب الأبعاد الأخرى للحياة الإنسانية أي الأبعاد الأخلاقية والمعنوية والروحية.
تحدّثت النصوص الدينية عن الزهد بشكل كبير وهناك الكثير من الروايات التي أشارت إليه، ويُفهم منها إن الزهد عبارة عن إفراغ القلب لأجل الآخرة وخلوص النية للحق تعالى واستغراق الهمّة في الذات الأحدية وان الزاهد لا يأنس بغير لقاء الله تعالى[11].
  
نمط الحياة والحرب الناعمة
يتبين من خلال دراسة نمط الحياة ومكوناته أنه يتشكل عادة من مجموعة من العناصر التي تحكي عن الهوية الخاصة، والتي على أساس فهمها تتحدد باقي الهويات. وإذا كان لكل عنصر دوره المحدد في رسم ملامح الهوية، فإن الفرد المؤمن تتحدد هويته طبق العناصر الآتية:

- العنصر العبادي: وهو الذي يحدد وبشكل دقيق العلاقة التي تربط الفرد والمجموع بالله تعالى. وكيف يجب أن يكون سلوك الانسان اتجاه ربه؟ وما هي واجباتنا اتجاه خالقنا؟ طبعاً السلوك الشخصي هنا ليس بمعزل عن السلوك العبادي المطلوب من المجموع.

- العنصر الاجتماعي: وهو الذي يحدد السلوكيات وأنماط الحياة التي تربط الفرد بالآخرين. هنا يمكن الحديث عن المعاملات وضوابط التعامل بين الأفراد أيّ القيم التي تحكم المعاملات وكذلك الامور ذات العلاقة بالقيم الأخلاقية الإنسانية التي تسهل العلاقة بين الافراد.

- العنصر الاعتقادي: وهو الذي يحدد المفاهيم المعرفية التي يجب أن يحملها الفرد المنتسب إلى عقيدة وايديولوجية معينة. ومن جملة ما يندرج في هذا الإطار معرفة الله والوجود والانسان، وتساهم هذه المعرفة في امتلاك الشخص رؤية واضحة لحقيقة نفسه وما يحيط ويتعلق به مما يترك اثراً على قيمه الخاصة.

- العنصر الأخلاقي: وهو الذي يحدد الصفات الداخلية للشخص المتدين والتي على أساسها يتعامل مع الآخرين انطلاقا من الفضائل. ويفترق هذا العنصر عن الاجتماعي في أن الاجتماعي يُعنى بعلاقة الفرد بالاجتماع البشري وهذا أعم منه إذ يتضمن الصفات والفضائل التي يجب أن يمارسها الشخص في علاقته مع الله تعالى والموجودات الأخرى غير البشرية....

بناءً على ما تقدم، يبرز نمط الحياة كأسلوب تتحدد على أساسه ملامح الشخصية المسلمة، فيشكل الخط الفاصل بين الهويات على اختلافها، وكلما كان الشخص أكثر قرباً من هويته، كان بمقدوره أن يحدد المسافة التي تفصله عن الهويات الاخرى.
وانطلاقاً من كون الحرب الناعمة استراتيجية تساهم في تغيير الهويات والاولويات وتعمل على التحول في الوعي والمعرفة، فهذا يعني أن الحرب الناعمة واحدة من أسباب تغيير الهويات. لذلك كان نمط الحياة، تأكيد على الهوية ومكوناتها، وتأكيد على الشخصية وأبعادها، وكلما تماهى الشخص مع هويته، فهذا يعني انه يتماهى مع قيمه وايديولوجياته واعتقاداته، وبالتالي سيكون أكثر قدرة على مواجهة أنماط تحويل الهوية. لذلك كان الاقتناع بنمط الحياة والعمل طبق مقتضياته بمثابة محاولة ناعمة لتحصين المجتمع من تداعيات الحرب الناعمة.


[1] راجع: فصلية "دراسات نمط الحياة" ، اصدار مركز ابحاث مؤسسة الاذاعة والتلفزيون في الجمهورية الاسلامية، العدد3، 1392هـش. (2013)، ص14.
[2] م.ن.، ص13
[3] م.ن.،ص 143
[4] التجدد والتشخص، آنطوني كيدنز، ص120.
[5] الدين ونمط الحياة، سعيد مهدوي كني، طباعة جامعة الامام الصادق(ع)، طهران، ص78
[6] من كلام السيد القائد بتاريخ  23/7/1391ه.ش
[7] راجع:دين وسبك زندكى (الدين ونمط الحياة)، سعيد مهدوي كني، اصدار جامعة الامام الصادق(ع)، طهران،1386 (2007)، ص211
[8] موسوعة احاديث اهل البيت (ع)، الشيخ هادي النجفي، ج9،ص154
[9] وسائل الشيعة، الحر العاملي،ج17،ص66.
[10] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد ،1404،ج3، ص55
[11] جامع السعادات ، النراقي1417 ، ص 53

أضيف بتاريخ: 29/04/2021