أسرة ومجتمع

تمكين المرأة بين الاستنهاض وتحدّي الهويّة

تمكين المرأة
بين الاستنهاض وتحدّي الهويّة

د. احمد علي الشامي

يجدر الاعتراف بأن الغربَ عامّةً، والأمريكي على وجه التحديد، قد برعا في تعاملهما مع مسألة المرأة، حين اتخذا منها محورًا أساسيًا في سياساتهم نحو المزيد من التوسع وإدامة التأثير والهيمنة، فالتأثير على معتقداتها ومنظومتها القيميّة، سوف ينعكس بالضرورة على الأبناء والآباء، والمجتمع عامة، سيّما المجتمعات التي تعدّ الأسرة ركيزتها الأولى. وهذا ما يجعل من الأدوات الصلبة في الغزو والسيطرة، أقل جدوائيّة، قياسًا بما تحدثه هذه السياسات الناعمة.

فما إن بدأ احتكاك الغرب بالإسلام، حتى تصدّرت المرأة المسلمة قائمة اهتماماته، والتي ارتفعت وتيرتها مع تنامي مستوى تغلغله في العالم الإسلاميّ، وبالتحديد، منذ عهد الخلافة العثمانيَّة، التي تجمع الوقائع المثبتة تاريخياً، بأن المجتمعات الإسلامية صارت عرضة لغزوات غربيَّة بأشكال مختلفة، من جنود وقناصلة ومبشرين ومؤسّسات تعليميَّة وإعلاميَّة ومراكز تجاريّة.

والشواهد على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى، منها على سبيل المثال، ما فعله المندوب السامي "اللورد كرومر"، أحد كبار رجالات الاستعمار البريطاني، الذي حكم مصر لمدة ربع قرن، منذ بداية العام 1882 إلى حين استقالته في العام 1907، حيث رفع شعار "تحرير المرأة" تحت لواء الحداثة في بلاد المسلمين.

فلسفة هذه الحداثة، شرحتها الباحثة الغربيّة "كاثرين بولوك"، في قولها: إنّ المندوب الساميّ البريطانيّ (كرومر) كان يجاهر بأن إقامة الأوروبي في هذه البلاد لها غاية واحدة وهي جني المال، ولأن المستعمرون يظنّون بأن الشرقيّ كسول بطبعه وغير منتج وغير عقلاني وما إلى ذلك، فقد كان من الضروريّ تعليم الأساليب الأوروبيّة لأهل هذه البلاد، والبداية من النساء، لما لهنّ من أثر بالغ على أزواجهنّ وأطفالهنّ[1].

والمدخلية لهذه التعاليم يوضحها أحد المستشرقين في قوله: إنّ الأوروبيّين على اختلافهم، رجالًا ونساءً، مستعمرين أو سيّاحًا، فنانين أو مبشّرين، باحثين أو سياسيّين، قد أجمعوا على رأي واحد يستند إلى قاعدة فكريّة، تقول، بأنّ شخصيّة المرأة المسلمة لا يمكن أن ترتقي بتعاليم غير التعاليم الغربية، وما دامت المرأة تقبل حكم القرآن أساسًا لإيمانها، فإنها لن تتردّد في الإذعان إلى الحياة المشوّهة التي يحكم بها عليها[2].

ومع مرور عقود طويلة على نهاية الاستعمار المباشر، يلاحظ حجم الاهتمام المتزايد بقضايا المرأة، وتصدّره قائمة القضايا الأكثر حضورًا على المستوى العالمي، والملفت في هذا المجال،  الدور الفاعل والمؤثر لمنظمة الأمم المتحدة - بما يتوافر لها من نفوذ أممي- حيث أُوكل إليها مهمّة النهوض بالمرأة تحت شعار تمكينها؛ فقليلة هي القضايا التي حظيت – ولا تزال- بدعم هذه المنظمة الأممية واهتمامها، كالتي حظيت به مسألة المساواة الكليّة بين المرأة والرجل.

في الواقع، وبدل أن تشكّل أدبيات تمكين المرأة والاهتمام الأممي بها ارتياحاً ومساحة حوار للتخلّص من موروثات أعاقت تطور المرأة وإسهامها في تنمية المجتمعات ورقيّها، باتت تثير العديد من الإشكاليات، فمن جهة، يلاحظ ما تحدثه مضامين ومندرجات طروحات التمكين من تباينات وموضوعات خلافيًة عميقة، ومن جهة أخرى، تزايد المخاوف المشروعة من استغلال فعلي لمواقع أممية تهدف لعولمة قيم الغرب ومبادئه ومطالبه. لذلك، صار من الموضوعيّة طرح السؤال الآتي: هل أن تمكين المرأة يهدف لاستنهاضها وأخذها الدور الطبيعي في حركة الاجتماع البشري، أم أنّه يمتد نحو مسائل تتعلق بالهويّة؟

أولًا- على مستوى حقيقة مفهوم تمكين المرأة
بات مفهوم تمكين المرأة من المفاهيم الشائعة، وخاصَّة في أدبيات التنمية وبرامجها، وفي الكتابات التي تتناول قضايا المرأة؛ بحيث حلَّ مفهوم التمكين جوهريًّا- سواء في مناقشة السياسات أو البرامج- محلَّ مفهوم النهوض والرفاهيّة ومكافحة الفقر والمشاركة المجتمعيّة.

وتفرض قضيّة الوعي التنبه لتداخل المفاهيم والمصطلحات، لما يشكله تحريرها من انعكاس على جوهر الأفكار، وهنا، تحضر إلفاتة للفيلسوف الفرنسي "فولتير" يقول فيها: قبل أن تتحدّث معي حدّد مصطلحاتك. وتبرز أهميّة استحضار المصطلحات حين تتعدد وتتداخل وتتناقض حول القضيّة الواحدة. فالمصطلح حمّال تفسيرات عدة، وهو لا ينجو من تأثيرات الأيديولوجيا والذاتيّة، اللتين يضفيهما الباحث على رؤيته وتفسيره للمفاهيم المستعملة.

تُطرح في هذا المجال، إشكاليات حول مفهوم تمكين المرأة، منها، الالتباس الحاصل في ترجمة وثائق الأمم المتحدة ذات الصلة من اللغة الإنكليزيّة إلى اللغة العربيّة، حيث يلاحظ أنّها تستخدم عبارة "Women Empowerment"، أي "استقواء المرأة" وليس "تمكين المرأة"، لأن المرادف لكلمة "تمكين" في اللغة الانجليزيّة هو كلمة Enabling، وليس Empowering.

وفي تفسير شيوع هذا التباين واستمرار العمل به، يرجعه البعض لأسباب تقنيّة، بينما يضعه البعض الآخر في خانة الأسباب السياسيّة، إذ أنّ استبدال كلمة "الاستقواء" بكلمة "التمكين" التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وفي أكثر من موضع وبصيغ متعددة([3])، سوف يسهم بإيجابيّة تعامل الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي مع القرارت الدوليّة ذات الصلة، باعتبار أن تمكين المرأة من نيل حقوقها التي منحتها إياها الشريعة الإسلاميّة، هو أمر حثّت عليه هذه الشريعة، وعدّت مخالفته معصية لأمر ديني.

وبذلك صار التمسك بالترجمة الاستنسابيّة، هو بالنسبة لأصحاب نظريّة الدوافع السياسيّة، عاملًا مسهلًا لتمرير موافقة البرلمانات العربيّة والإسلاميّة على الاتفاقيات الأمميّة حول المرأة، خاصة أن عدد من هذه الدول قد تحفظت بداية عليها. وهو أيضًا، يجعل من هذه الاتفاقيّة بكل مندرجاتها أكثر مقبوليّة لدى المجتمعات الإسلاميّة.

أمّا لناحية إدراج المصطلح بصيغته الأجنبيّة "استقواء المرأة"، في متون الوثائق الأمميّة، يمكن من خلال إجراء مقاربة سوسيولوجيّة، القول، إنّ هذا المنحى لم يكن بعيدًا عن أفكار الحركة النسويّة الراديكاليّة في الغرب، التي تنظر إلى طبيعة العلاقة بين الجنسين- الإناث والذكور- أنها تقوم بالمبدأ على النِديّة والصراع، وليس التكامل والسكينة، وهي بذلك تسعى إلى عالم تتمحور فيه الأُنثى حول ذاتها، مستقلةً استقلالًا كاملًا عن عالم الرجال.

ويذهب البعض، إلى أن هذه الحركة النسويّة الراديكاليّة في الغرب، هي في الواقع، نتاج حقبة تاريخيّة عاشت خلالها المرأة في ذاك العالم، واقع مؤلم جدًا على امتداد فترة طويلة من الزمن، حيث عانت فيها التحقير، والتهميش، والسطوة، بسبب النظرة الدونيّة السائدة آنذاك في أوساط المجتمع الغربي تجاه المرأة، والمأخوذة من التراث الديني المحرّف، ومن التراث الفلسفي. فكلا الموقفان التراثيان هما الموجبان الرئيسيان لهذه الحركة النسويّة([4]).

فالمرأة في التراث اليهودي والمسيحي المحرّف، هي أصل الخطيئة؛ لأنها هي من أغوت آدم بالخطيئة الأولى عندما أكلا من الشجرة التي نهاهما الرب عنها، وبسبب هذا الفعل، حكم الرب بسيادة الرجل عليها نهائيًا. أمّا عند رواد فلاسفة الغرب والمفكرين، إنّ موقفهم تجاه المرأة سطرته كتبهم، بدءً من الفيلسوف اليوناني المشهور أفلاطون الذي صنّف المرأة في عداد العبيد والأشرار ومع المخبولين والمرضى، وصولًا إلى الفلاسفة المتأخرين مثل "ديكارت" الذي من خلال فلسفته الثنائيّة التي تقوم على العقل والمادة، ربط العقل بالذكر وربط المادة بالمرأة.

وبالعودة إلى مفهوم تمكين المرأة، إنّ أجندة ما يسمى الجندر واتفاقيات الأمم المتحدة، التي تقوم على مبدأ تزويدها بكفاءات تمكنها من أداء دورها في الحياة، إنّما ترسم لذلك مسارًا لا يحيد عن التطبيق الشامل لنظام المناصفة بينها وبين الرجل في جميع المجالات والأدوار.

وهنا، تُطرح إشكاليات حول ما اصطلح عليه بالمساواة بين الجندر "Gender Equality" الذي ذكر بحدود 233 مرة في وثيقة "مؤتمر بكين للمرأة" عام 1995. فهذا المصطلح، أيضًا لم يتم تعريفه بما يعكس حقيقة مضمونه وتطبيقاته حاليًا في قضايا المرأة، إذ أن هناك فرق واختلاف بين المصطلح باللغة الإنجليزيّة، وبين ترجمته الرسميّة الصادرة عن الأمم المتحدة وما يتم تداوله باللغة العربيّة([5]).

إنّ مصطلح جندر"Gender" الذي ترجم إلى العربيّة بعبارة "الجنس" هو كلمة انكليزيّة تنحدر من أصل لاتيني"Genuss" تعبّر عن الاختلاف والتمييز الاجتماعي للجنس، وتُعرّفه منظمة "الصحة العالميّة" على أنه: "المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعيّة. وهذا ما يعني، أن هذه الخصائص لا علاقة لها بالاختلافات العضويّة، بل بالاجتماعيّة، وبالتالي، هي قابلة للتغير، أي تتغير عبر الزمن وتختلف باختلاف الثقافات".

وبحسب هذا التعريف، إنّ تشكّل الهويّة الجندريّة ليس ثابتًا منذ الولادة، بل تؤثر فيه العوامل النفسيّة والاجتماعيّة، فهذه الهويّة تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعيّة خلال نمو الفرد. أي إنّ الأنوثة والذكورة بالمعنى العضوي منفصلة عن البنية النفسيّة والأدوار الاجتماعيّة للأفراد، لأنّ هذه الأدوار هي مفاهيم اجتماعيّة مكتسبة ليس لها علاقة بالطبيعة العضويّة والفسيولوجيّة لكلا الجنسين.

فالثقافة والتربية في تحديدهما للأدوار الاجتماعيّة، قد كرّسا دور المرأة بتربية الأبناء، ورعاية الأسرة، وإطاعة الزوج، وحمّلا الرجل مسؤوليّة العمل الخارجي، والإنفاق، والقوامة داخل الأسرة. وبالتالي، حين تتغيير أنماط التربية الأسريّة، والثقافة المجتمعيّة، سوف تتغير أدوار كل من الرجل والمرأة داخل الأسرة والمجتمع. وهذه هي الفكرة الأساسيّة التي يقوم عليها النوع الاجتماعي "الجندر".

لقد سبق أن نصّت اتفاقيّة القضاء على كافّة أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو" عام 1979، بضرورة القضاء على الأدوار النمطيّة (إشارة إلى اختصاص المرأة بالأمومة، واختصاص الرجل بالقوامة داخل الأسرة)، وأيضا نصّت على أن الأمومة "وظيفة اجتماعيّة"، أي أنها ليست لصيقة بالمرأة، بل يمكن إسنادها إلى أي شخص، ليس بالضرورة أن يكون الأم([6]). ويبرز في هذا المجال، تفسير لهذا الإصرار على فك الارتباط بين المرأة والأمومة، وعلى توحيد الأدوار بين الرجل والمرأة، إنّما غايته دفع المرأة نحو سوق العمل، وتخلّصها من العمل المنزلي غير مدفوع الأجر.

ويطرح في مجال تعريف الجندر، افتراض يقول: إنّ نشأة الفرد متأثرًا بأحد الشاذين جنسيًا، قد يجعله يميل إلى جنسه بشكل طبيعي. ويستند هذا الافتراض على ما جاء في وثائق مؤتمر روما لإنشاء محكمة الجنايات الدوليّة الذي انعقد في 14-18/6 عام1998، حيث أفادت: إنّ كل تفرقة أو عقاب على أساس "الجندر" تشكّل جريمة ضد الإنسانيّة. وبذلك، يصير حكم القاضي بمعاقبة الشاذ جنسيًا هو فعل جرمي بحق الإنسانيّة!. ويبدو في هذا السياق، فهم ما أقدم عليه القضاء اللبناني مؤخرًا، حين رفض إدانة أحد المتهمين بالشذوذ الجنسي.

ومن المفاهيم التي تدور حولها النقاشات، ما طرحته وثيقة القاهرة للسكان عام 1994، في باب تمكين المرأة، بعنوان "الطفلة الأنثى"، حيث ورد فيها: ينبغي على الحكومات أن تنفذ بشكل حاسم القوانين المتعلقة بالسن القانوني للموافقة، والسن الأدنى عند الزواج. وعند ترجمة الجملة إلى اللغة العربيّة، جرى استبدالها بعبارة "السن الشرعي الأدنى لقبول الزواج". مع الفارق الواضح، بين السن القانوني وفق ما حددته الاتفاقيات الدوليّة "بسن الثامنة عشر" وبين السن الشرعي الذي حددته الشريعة الإسلاميّة، ببداية البلوغ. وفي ذلك إيحاء إلى احترام تلك الوثيقة للشرع الإسلامي في تحديد سن الزواج.

والمفارقة هنا، أنه بينما تطالب الوثيقة بحظر الزواج المبكر(دون الثامنة عشر)، هي تعتبر في الوقت نفسه أن من حق الفتاة ممارس العلاقة الجنسيّة بحريّة تامة (معظم دول العالم حددت تلك السن بين السادسة عشر والثامنة عشر). وفي حالة حدوث حمل، ورغبة المراهقة في التخلّص منه، يأتي الحض على تقنين الإجهاض(أي إباحته قانونًا) ليكون وسيلة "آمنة" للتخلّص من الجنين.

ثانيًا- على مستوى محفزات الدعوة إلى تمكين المرأة
لا يمكن فهم تمكين المرأة فهمًا صحيحًا حقيقيًا، إلّا من خلال فهم الوثائق وفهم السياقات المرافقة لانبعاثه. فبالإضافة إلى ما سبق ذكره عن الآلام التي عاشتها المرأة الغربيّة في عمق التاريخ الغربي، والتي أسست إلى انبناء موقف سلبي من ذكوريّة المجتمع، يلاحظ ما قاله الفيلسوف "ويل ديورانت"([7]): أنّ سبب هذا التغيير الكلي والسريع في العادات والتقاليد، هو في وفرة وتعدد الآلات، فتحرير المرأة هو ناتج عن الثورة الصناعيّة.

وكان للكاتبة "إستيل فريدمان" تفصيل لهذا الرأي، أوردته في كتابها "لا رجوع للخلف، تاريخ الحركة النسويّة ومستقبل المرأة»، بأنّ دخول أنماط إنتاج جديدة على المجتمعات هو ما دفع بموضوع حقوق المرأة إلى الواجهة. وتضيف "فريدمان" أنّ المجتمعات البطريركيّة لطالما وُجدت، ولم تدفع بالنساء إلى المطالبة بحقوقهنّ، ولكن حلول المصنع، بدلًا من الإنتاج اليدويّ المنزلي أو الزراعي، فاقم في فارق الدخل بين الرجل والمرأة، وهذا الجانب له زاوية نظر ماليّة أدت إلى توليد وصناعة دوافع نفسيّة بضغط من الفوارق الطبقيّة والاجتماعيّة. بالإضافة إلى أنّ الرأسماليّة أدخلت مفاهيم الحقوق الفرديّة والعقد الاجتماعي في مقابل الأفكار التي كانت تكرّس الحقوق الطبيعيّة والهرميّة، السماويّة أو الدينيّة([8]).

كما إنّ توقيت انطلاق المؤتمرات حول قضيّة المرأة، إثر الحرب العالميّة الثانيّة عام 1945، يكشف عن جانب من دواعي فرض الدعوة لتمكين المرأة، على جدول الأعمال الدولي. فقد دمّرت الحرب نصف الكرة الأرضيّة، وقتلت ما بين 50 و85 مليون إنسان(ثلثهم من الذكور) وجرحت وأعاقت حوالي 100 مليون إنسان، وما أنتجته من مآسي وويلات اجتماعيّة واقتصاديّة، دفع كل ذلك، إلى إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، والعديد من الاتفاقيات والإعلانات والمعاهدات التي عالجت قضايا الإنسان، من بينها، تلك المتعلقة بموضوع المرأة، التي اضطرت أن تدخل سوق العمل لتعوّض النقص الحاصل في الرجال، جراء الحروب العالميّة([9]).

وبعدها، جرى تلازم الربط المفاهيمي بين قضيّة المرأة وكل من، الإقتصاد، والتنمية، والحقوق، والرفاهيّة، والأمن والسلم. حيث جاء في اتفاقيّة القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة (سيداوCEDAW): إن التنمية التامة والكاملة لبلد ما، ورفاهيّة العالم، وقضيّة السلم، تتطلب جميعًا أقصى مشاركة ممكنة من جانب المرأة، على قدم المساواة مع الرجل وفي جميع الميادين([10]).

كما ينبغي الإشارة إلى الطبيعة الراديكاليّة للشخصيات النسائيّة اللواتي شاركن في تأسيس وصياغة أهم اتفاقيات ووثائق المرأة([11])، وانعكاس ذلك على طبيعة بنودها. فتلك الشخصيات النسويّة الراديكاليّة تعتبر أنّ معاناة المرأة تقع بالدرجة الأولى على الرجل، فهو من اختلق فكرة تقسيم الأدوار بالاستناد على العامل البيولوجي، متخذًا من مسألة خاصيّة الحمل والإنجاب عند المرأة لتحديد أدوارها، بينما راح يحتكر الأهليّة والقدرة على العمل والانتاج المادي، ما مكّنه من التحكم في الموارد الاقتصاديّة، وبالتالي، السيطرة على الأسرة بسبب إنفاقه عليها.

 لذلك، وجدت تلك الشخصيات النسويّة أنّ المرأة كي تخرج من حال "التهميش" عليها الاتجاه نحو سوق العمل ومنافسة الرجل بغية كسر ما كرّسه من تنميط للأدوار الاجتماعيّة. وبالفعل، انتشرت هذه النظريّة الغربيّة مع نهايات ثمانينيّات القرن الماضي، وأضيف إليها مطلب الحق في السيطرة على عمليّة الإنجاب، ثم بدأ الحديث عن المساواة في الأدوار، بين الرجل والمرأة، باعتبار أن العادات والتقاليد الاجتماعيّة هي من فرض التمايز بينهما وليس الاختلاف البيولوجيّ، ومعه بدأ استعمال مصطلح جندر"Gender" بدلًا من جنس "Sex".

كما وجدت تلك الشخصيات النسويّة، أنّ الثقافة المجتمعيّة والتربية الأسريّة، هما من كرّسا نظريّة تربية المرأة للأبناء والقيام بالمهام المنزليّة واطاعة الزوج، في حين يتحمل الرجل مسؤوليّة العمل الشاق والإنفاق والقوامة داخل الأسرة. لذلك- ووفقا لتلك النظريّة- فإن تغيير تلك الأدوار يمكن أن يتم عبر تغيير الثقافة المجتمعيّة ونمط التربية الأسريّة.

ويبدأ التغيير بحسب تلك الشخصيات النسويّة من خلال فك الارتباط بين المرأة والأمومة، وتوحيد الأدوار بين الرجل والمرأة، فتدفع الأخيرة إلى سوق العمل، لخلاصها من العمل الأسري غير مدفوع الأجر، ما يمكنها مادياً، ويجعلها تستقوي اقتصاديًا، فتبدأ مرحلة الاستقلال عن الرجل، إلى درجة الاستغناء عنه. وبذلك صار استقواء (تمكين) المرأة، ومساواة الجندر، وجهين لعملة واحدة، لا يتحقق أحدهما إلا بتحقق الآخر.
 
ثالثاً: المنظمات الدولية وعولمة قيم الغرب
يلاحظ منذ إعلان الميثاق الأممي في سان فرانسيسكو عام 1945، عن مبدأ المساواة بين الجنسين بوصفه حق أساس من حقوق الإنسان، والمنظمة الدوليّة تجهد لوضع استراتيجيات ومعايير وبرامج وأهداف تحت لافتة تمكين المرأة من القضاء على جميع أشكال التمييز ضدها. وما ذلك إلاَّ انعكاسًا للحداثة الغربيّة (الليبراليّة) القائمة على أساس الحريّة المطلقة والمساواة التماثليّة، التي نادت بها الثورة الفرنسيّة، والثورة الأمريكيّة في القرن الثامن عشر، والتي قام على أساسها النظام العالمي المعاصر(الأمم المتحدة).

ومن ثمّ جاء إعلان المكسيك عام 1975، عن عقد الأمم المتحدة للمرأة (المساواة، والتنمية، والسلم) واعتبر ذلك العام: العام العالمي للمرأة، حيث اعتمد أول خطة عالميّة متعلقة بوضع المرأة. كما وعُقد في العام 1980، مؤتمر آخر لاستعراض وتقويم التقدم المحرز في تنفيذ توصيات المؤتمر الأول، ولتعديل البرامج المتعلقة بالنصف الثاني من العقد الأممي للمرأة، مع التركيز على الموضوع الفرعي للمؤتمر: العمالة والصحة والتعليم.

أمّا اتفاقيّة "سيداو" الشهيرة التي صدرت عن الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في العام 1979، فقد اتخذت بنودها صيغة الإلزام القانوني للدول التي تُوافق عليها، بُغية القضاء على كافّة أشكال التمييز ضد المرأة، وانتُظِر سريان مفعولها حتى تاريخ 3 كانون الأول عام 1981، مع بداية توقيع الدول عليها، والتي بلغت 186 دولة حتى العام 2009، بما فيها لبنان (بموجب القانون رقم 572/96 تاريخ 24-7-1996)، بينما رفضت التوقيع عليها كلّ من، الولايات المتحدة الأميركيّة والفاتيكان وإيران وبعض الدول، وراحت العديد من الدول العربيّة والإسلاميّة- الموقعة عليها- تقدّم تحفظاتها واعتراضاتها على بعض بنودها، كونها تتعارض ضمنًا مع الشريعة الإسلاميّة.

وفيما أُعلن من مدينة (نيروبي) بكينيا عام 1985، عن الاستراتيجيات المرتقبة للنهوض بالمرأة، وذلك من العام 1986 حتى العام 2000، صدر عن المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة، في الصين (بكين) عام 1995، ما يعرف بوثيقة "منهاج بكين".

في حقيقة الأمر، لقد أحدثت هذه المؤتمرات واتفاقياتها، نقلة نوعيّة وعالميّة في مقاربة لواحدة من أكثر الموضوعات الاجتماعيّة تعقيدًا، إذ ليس من عاقل يرفض فكرة تمكين المرأة بوصفها نصف المجتمع، وهي المعنيّة بصناعة النصف الآخر، فالإمام الخميني(قده) كان موفقًا جدًا في تشخيصه لمكانة المرأة حين قال: المرأة كالقرآن كلاهما أوكل إليه مهمة صنع الرجال. وبالتالي، يصبح تمكينها أمرًا لازمًا وبديهيًا حتى تؤدي دورها على أكمل وجه.

إنّما الذي جعل من تمكين المرأة موضوعًا إشكاليًا، ما تضمنته بعض بنود الاتفاقيات المقرة حول مسألة حقوق المرأة وكيفيّة النهوض بها، بحيث تجاوز تمكينها الحد من طغيان الذكوريّة في أكثر من مجال في الحياة، نحو دخوله دائرة الصراع المحتدم على جبهته الأيديولوجيّة. فقد صار تمكين المرأة بصيغته المقرّة دوليًا، والأدبيات التي فسّرته، في موقفٍ يتعارض مع الديانات السماويّة، سيّما، الإسلام منها على وجه التحديد.

من المواد المثيرة للإشكاليات تلك المتعلّقة بالأسرة، والتي تضم مجموعة بنود تعمل على مستوى الأحوال الشخصيّة، من قضايا الزواج والطلاق والقوامة إلى جانب موضوع الوصاية على الأولاد، والولاية على حقوقهم.

كما يُنظر إلى مواد أخرى، أنّ من شأن تطبيقها، بروز تعقيدات ونتائج سلبيّة على المرأة خاصة والمجتمع بشكل عام، من قبيل الدعوة إلى حريّة العلاقات الجنسيّة واعتبارها حقّ من حقوق المرأة الأساسيّة، سواءً لغير المتزوجات، وحتى الصغار من المراهقات، وبتقديم الرعاية لهنّ في الوقاية والصحة والسكن، ودعوة الأسر لاحتضانهن والتعامل بواقعيّة مع مسألة الإجهاض.

والدعوة أيضًا إلى تحديد النسل، إلى جانب الاعتراف بحقوق الشاذين جنسيًا، والسماح بأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج، والتنفير من الزواج المبكر وسَن قوانين تمنع حدوث ذلك، والتركيز على التعليم المختلط بين الجنسين وتطويره، وتقديم الثقافة الجنسيّة في سن مبكرة.

والذي يستدعي التوقف لقراءة أكثر عقلانيّة، أنّ الحكومات بموجب الاتفاقيات الدوليّة المقرة، باتت مطالبة بإقرار مبدأ المساواة الكليّة بين المرأة والرجل دون أيَّة فوارق، وبلحاظ جميع الحقوق والواجبات والمسؤوليّات، لا بلحاظ المساواة في القيمة التي هي مرتكز المسؤوليّة الدينيّة.

فقد دعت اتفاقيّة "سيداو"(المادة 2) جميع الحكومات إلى إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنيّة أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، إذا لم يكن هذا المبدأ قد أُدمج فيها حتى الآن، وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة، منها، تغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكّل تمييزًا ضد المرأة. فيما دعت (المادة 15) من الاتفاقيّة إلى المساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون.

ونصّت اتفاقيّة "سيداو"(المادة 16) أنَّه على الدول الأطراف اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافّة الأمور المتعلقة بالزواج، والعلاقات الأسريّة وبوجه خاص تضمن -على أساس تساوي الرجل بالمرأة– نفس الحق في عقد الزواج، ونفس الحق في اختيار الزوج، ونفس الحقوق والمسؤوليّات أثناء الزواج وعند فسخه، بالإضافة إلى نفس الحق في اختيار إسم الأسرة.

بينما تدعو وثيقة "منهاج بكين"(الفقرة 15) إلى إلغاء مفهوم "رب الأسرة" واعتبار المساواة في الحقوق والفرص والوصول إلى الموارد وتقاسم الرجل والمرأة المسؤوليّات عن الأسرة بالتساوي والشراكة المنسجمة بينهما أمور حاسمة لرفاهيتها ورفاهيّة أسرتها وكذلك لتدعيم الديموقراطيّة([12])، فهما شركاء في إدارة الأسرة ولا أرجحيّة لأحدهما، ما يعني إلغاء قوامة الرجل على المرأة، الذي تدعو الشريعة الإسلاميّة إلى ضرورة المحافظة عليه.

وقد ركّز المؤتمر العالمي للسكان والتنمية المنعقد في القاهرة العام 1994، على حقوق المرأة لجهة السيطرة والتحكم في حياتها الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والجنسيّة، وحقّها في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإنتاج والإنجاب([13]).

فعلى صعيد الإنتاج اعتبر المؤتمر أنّ المرأة التي تعمل عملًا مدفوع الأجر، وتشارك في الإنفاق داخل الأسرة، لها الحق بممارسة سائر المسؤوليّات داخل الأسرة، أسوةً بالرجل. باعتبار أنّ ممارسة هذه المسؤوليّات ترتبط بمسألة الإنتاج والإنفاق، وليس لضرورات مجتمعيّة تفرض انتظام الأسرة خلف مدبّر واحد لأمورها.

أمّا على صعيد الإنجاب، فقد أكد المؤتمر على أنّ تحسين مركز المرأة يعزز قدرتها على صنع القرار بمستوياته كافّة، وفي مجالات الحياة كلّها، وخاصة في مجال الجنس والإنجاب، وأن إقامة العلاقة الجنسيّة بين الرجل والمرأة، وبالمثل قرار الإنجاب، يكون مبني على إرادة المرأة وموافقتها، باعتبار أن المرأة ضحيّة لهيمنة الرجل واغتصابها، وتحرشه الجنسي بها. ولأنّها غيرُ ملزمةٍ بتحمُّل كل هذه الأضرار، ينبغي حمايتها منه. ووَفقًا لهذه النظريّة فإن أيَّة علاقةٍ لا تخضع لرغبة المرأة تعدُّ اغتصابًا حتى ولو كانت من قبل الزوج.

وفيما تطالب الاتفاقيات الحكومات برفع سن الزواج، تدعو في نفس الوقت، إلى ما يسمى "الأشكال المختلفة للأسرة"، ويدخل تحت هذا المسمّى، الأسرة من رجل وامرأة لا تربطهما علاقة وفق الشريعة الدينيّة، إلى جانب الأسر المكونة من الشاذين جنسيًا، أي زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، والتي يحلو للأدبيات الأمميّة تسميتهم بالمثليين جنسيًا، باعتبار أن القول بالشذوذ هو إقرار بسلبيّة هذا السلوك.

كما تدعو الاتفاقيات إلى الاختلاط بين الجنسين في الأعمال والميادين كافّة، مع وضع سياسات لتغيير الاتجاهات التي تعزز تقسيم العمل على أساس الجنس، بالإضافة إلى تغيير المناهج التعليميّة التي تميز بين الجنسين.

ومن جهة الأولاد، تدعو الفقرة "و" من (المادة 16) في اتفاقيّة "سيداو" إلى إعطاء المرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم أو ما شابه ذلك من الأنظمة المؤسساتيّة الاجتماعيّة. بينما تدعو (المادة 9) من نفس الاتفاقيّة، إلى إعطاء المرأة حقًا مساويًا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسيّة أطفالهما. أمّا اتفاقيّة حقوق الطفل(CRC) عام 1989، فقد قلّصت من دور الأهل حيث نصت على أن مسؤوليّة الوالدين تشمل تقديم الإرشاد والتوجيه المناسبين للأطفال دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف. مع الأخذ في الاعتبار مطاطيّة مصطلح "العنف"، الذي يبدأ من مجرد التوبيخ ويتدرج حتى يصل إلى أقسى أنواع العقوبات البدنيّة، ويمكن للإبن والإبنة بموجب الاتفاقيّة أن يزجوا بآبائهم في السجن عن طريق اللجوء إلى السلطات المعنيّة عبر استعمال الخط الساخن. فالطفل له حق الحماية القانونيّة من مثل هذا التعرض أو هذا المساس.

ونصّت وثيقة مؤتمر بكين(الفقرة 12)، على تمكين المرأة والنهوض بها بما في ذلك الحق في حريّة الفكر والضمير والدين والمعتقد، على نحو يسهم في تلبية الاحتياجات المعنويّة والأخلاقيّة والروحيّة والفكريّة للنساء والرجال فرادى أو بالاشتراك مع غيرهم، وبذلك تكفل لهم إمكانيّة إطلاق كامل طاقاتهم في المجتمع برسم مجرى حياتهم وفقًا لتطلعاتهم هم أنفسهم([14]).

كما نصّت وثيقة بكين(الفقرة 13)، على أن تمكين المرأة ومشاركتها الكاملة على قدم المساواة في جميع جوانب حياة المجتمع، بما في ذلك المشاركة في عمليّة صنع القرار وبلوغ مواقع السلطة، هي أمور أساسيّة لتحقيق المساواة والتنمية والسلم([15]).

صحيح أنّ لبنان وافق على الاتفاقيات مع تحفظه على بعض بنودها، لكن في حقيقة الأمر، إنّ هذه القرارات الأمميّة لم تنتظر من الحكومات، لا في لبنان، ولا في البلدان العربيّة والإسلاميّة، الموافقة عليها والالتزام الكلّي بها، بل راحت تسلك طريقها نحو المجتمعات عبر وسائل شتى، في محاولة جادة، لإحداث تغييرات في المنظومة القيميّة لتلك المجتمعات، والتي من شأنها أن تزيل العوائق أمام سريان مفاعيل القرارات والتوجهات الأمميّة، وبالتالي، تدفع الحكومات لسحب تحفظاتها. باعتبار أنّ التغيير لا يتم من خلال ثورة تنشأ في أيام قليلة، بل حالة ذهنيّة، وأن القوانين بحد ذاتها ليست كافية.

فالإعلام ببرامجه ومسلسلاته صار منافذ لتعميم مفهوم تمكين المرأة بكل مندرجاته، تسانده في ذلك، المناهج التعليميّة التي تتوجه إلى الطلاب لطرح المساواتيّة بين الرجل والمرأة دون الأخذ بعين الاعتبار للتحفظات التي قدمتها الدولة اللبنانيّة في هذا المجال. بالإضافة إلى ما يمكن قوله، أنّه قلّ ما يمر شهر لا تُعقد خلاله ندوة أو مؤتمر أو ورشة عمل، تقوم بها منظمات وجمعيات محليّة، بتمويل من منظمات وهيئات دوليّة، تتناول مسألة المرأة وكيفيّة بلوغها مرحلة المساواتيّة الكليّة مع الرجل، وفي الميادين كافّة.

رابعاً- خلاصة في أدبيات تمكين المرأة
في ضوء قراءة أدبيات تمكين المرأة التي باتت في صلب القرارات الأممية ذات الصلة ومجالاً حيوياً من مجالات الأمم المتحدة، يمكن رسم المسار الآتي:

يلحظ المتابع لأدبيات التمكين، حجم التشديد على مصطلح " تأنيث الفقر"، والذي برز منذ سبعينيات القرن العشرين، باعتبار أنّ معدلات الفقر عند النساء هي أعلى منها عند الرجال. وسرعان ما يأتي التفسير لهذا المعطى، بأن أولى مظالم النساء أنهنّ حين يقمن بأدوار(الأمومة ورعاية الأسرة) لا يتقاضين مقابل ذلك أجرًا ماديًا، بينما الرجال هم من يتقاضوا الأجر مقابل أعمالهم، وهذا ما يركز المال والثروة في أيديهم، مقابل تراجع المقدرات المالية والاقتصادية لدى المرأة إلى حد الفقر، ومن شأن هذا التفاوت المادي، أن يعزز من ذكوريّة المجتمع، سيما، لجهة قوامية الرجل على الأسرة، ويعمّق في آلام المرأة ومظلوميتها وافتقادها للعديد من مجالات حرّيتها.

لذلك راحت أدبيات التمكين تصوّب نحو تحقيق استقلالية المرأة اقتصادياً، بوصفها نقطة البداية في مسار الحد من قوامية الرجل عليها وفي نيلها الحريّة والحقوق. فالمرأة بحسب توقعات هذه الأدبيات حين تكسب المال من عملها خارج المنزل، يتحقق استقلالها الاقتصادي عن الرجل، ما يمكنها أكثر في التحكم بقراراتها، وينمّي لديها منحى التساوي في السلطة داخل الأسرة. وتذهب هذه الأدبيات إلى تحفيز الميل نحو جعل العمل أولويّة عند المرأة وليس الزواج وبناء أسرة. وينصح من لديهن الرغبة بالزواج، الاتجاه نحو تأخير الإنجاب إذا ما تعارض مع العمل. وفي هذا السياق، بات مطلب وجود عاملة المنزل وفق هذه الأدبيات هو من الضروريات وليس الكماليات، سواءً كانت المرأة تعمل خارج المنزل أو لا تعمل، حيث يسند إليها العديد من المهام المنزلية والأسرية، وبالتحديد، فيما يتعلق بحضانة الأولاد والاهتمام بهم، حتى لا تعيق هذه المهام من ارتباطات المرأة خارج المنزل.

في الواقع، يعد تمكين المرأة اقتصاديًا، المدخليّة لتمكينها السياسي. فالمرأة بعد تحررها من دورها التقليدي في المنزل، سيّما، تحررها من التبعيّة الاقتصاديّة للرجل، تصبح أكثر حضورًا في الشأن العام، وتولي المناصب القياديّة في المجتمع، الذي بدوره يتيح لها القدرة على إحداث تغييرات جوهرية في القوانين السائدة. فقد جاء في التقارير المقدمة للأمم المتحدة، وتحت عنوان (التحديات الرئيسيّة): وفيما يتعلق بالمشاركة السياسيّة المتزايدة للمرأة، لا تزال فكرة الدور التقليدي للمرأة في النطاق الخاص(كزوجة وأم) تمثل عائقًا رئيسيًا.

ولما ثبت بأن تحرر المرأة من أدوارها التقليديّة، لم يمكّنها من تعزيز مشاركتها السياسيّة، بل بقيت الثقافات السائدة تحول دون تنامي هذا الشكل من المشاركة، راحت تلك التقارير المقدمة للأمم المتحدة، توصي بفرض هذه المشاركة، من خلال ما يطلق عليه، الحصة الإلزاميّة للنساء (كوتا) في كافّة المجالس العامة، ومنها مقاعد البرلمان، بوصفها عاملًا مساعدًا في إدماج منظور الجندر في القوانين والتشريعات، وإلغاء كافّة الفوارق بين الرجل والمرأة. وقد وضعت مؤشرات دالة على مستوى تمكين المرأة في المجال السياسي، منها، نسبة الإناث في الوظائف الإداريّة والمهنيّة، ونسبتهن في البرلمان، ونسبتهن في الوزارة والوظائف العليا ومراكز صنع القرار، وحجم مشاركتهن في اتخاذ القرارات.

ويتبيّن من خلال الفلسفة الحاكمة للاتفاقيات الدوليّة الخاصة بالمرأة والطفل، أنّ كل من التمكين السياسي والاقتصادي، هما مسارين يهدفان إلى تحقق التمكين الاجتماعي للمرأة. فبحسب الباحثة "كفانيسا جريفين" تجد أن تمكين المرأة يعني ببساطة مزيدًا من حيازتها القوة، والقوة تعني، مستوى عالٍ من التحكم ومزيد من التحكم([16]).

وقد صيغت جملة من المعايير الدالة على مستوى حيازتها القوة، نعرضها وفق الآتي:

أولاً: معايير التمكين على المستوى الثقافي
1 ـ على المرأة التعلّم دون الحاجة إلى إذن الأهل أو الزوج
2- يجب أن لا يقل المستوى التعليمي للمرأة عن مستوى الرجل
3- تمرّد المرأة على التقاليد والعادات دليل على قوة شخصيتها
4- تواصل المرأة مع الجنس الآخر يكسبها شخصية قويّة
5- ليس على المرأة واجب تمكين الزوج منها إلاّ إذا رغبت هي بذلك
6- يمكن للمرأة أن تقيم العلاقة الجنسية مع الشريك قبل الزواج
7- الحجاب غالبًا ما يعيق تقدم المرأة وتطورها

الباب الثاني: معايير التمكين على المستوى الاقتصادي
1-على المرأة الانخراط في سوق العمل سواء أمن الرجل احتياجات المنزل ام عجزعن ذلك    
2- دخل المرأة لها وعلى الرجل وحده الانفاق على الأسرة
3- الزوجة العاملة يجب أن تكون سلطتها مساوية لسلطة الزوج
4- عمل المرأة يؤثر سلبًا على فرصها للزواجها
5- ضرورة عمل المرأة ولو أدى إلى بطالة الرجل
6- المرأة تعمل أكثر من الرجل لكن مدخولها أقل منه
7- يجب أن لايقل مدخول المرأة عن مدخول الرجل
8- عمل المرأة ضرورة لتطوير مكانتها بصورة المستقلة عن الرجل
9- يحق للمرأة اختيار العمل ولو تعارض مع العادات والتقاليد

الباب الثالث: معايير التمكين على المستوى الاجتماعي
1- الفروقات الجسدية والنفسية امر اخترعه الرجل للسيطرة على المرأة.
2- تنال المرأة حقوقها عندما تتساوى مع الرجل في المجالات كافة.
3- ليس على المرأة التقيد بإدارة زوجها للحياة الاسرية
4- عند اختلاف في القرارات الاسرية ليس على المرأة الالتزام بقرار الزوج
5- للمرأة حق التوسع في العلاقات العامة مع غير الارحام  ما دام ذلك لا يسيئ للرجل
6- ربط المرأة بالامومة فقط يقلل من مكانتها الاجتماعية او الفكرية
7- على المرأة تولي مناصب قيادية وعامة من خلال كوتا خاصة بها

الباب الرابع: معايير التمكين على المستوى القانوني
1- ضرورة تعديل القوانين المتعلقة بقوامة الرجل على المرأة
2- ضرورة تعديل قوانين المتعلقة بالإرث التي تمنح المرأة نصف ما يحصل عليه الرجل
3- ضرورة تعديل قوانين الطلاق
4- ضرورة تعديل قوانين حضانة الأطفال
5- إعطاء المرأة الحق بإطلاق نسبها على الأولاد
6- ضرورة تعديل عقوبات الإجهاض
7- إعطاء المرأة حق الزواج من غير دينها
8- على المرأة مقاضاة الزوج إذا ضربها أو أهانها
9- ضرورة تعديل قوانين تعدد الزوجات
10-الزواج المبكر يزيد من مستوى العنف ضد المرأة

تقدير الموقف
نعم، لا بد من الاعتراف، بأن تلك الجهود المحليّة والأمميّة لتعميم أدبيات غربية في التمكين قد أحدثت تغيرات هامة لدى المرأة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، وإن اختلفت في تقديراتها، حيث تتوزع على ثلاثة اتجاهات:

اتجاه أول: ينظر إلى تلك الجهود بإيجابيّة، ويهلل لما تُحدثه، باعتباره تصحيحًا لموروثات أعاقت تطور المرأة وتقدمها.

اتجاه ثان: يرى أنّ هناك مبالغة في تقدير إنتاجيّة تلك الجهود، مع موقفه الاعتراضي على ما تطرحه من أفكار ومعتقدات.

اتجاه ثالث: يضع ما يجري تداوله من بنود إشكاليّة، وكيفيّة الدعوة للالتزام بها، بوصفه حرب، استنادا إلى معطيات يكثر تداولها عن جذب ناعم للمرأة في المجتمعات الشرقيّة، نحو الأفكار والقيم الغربيّة الوافدة كمدخليّة لتمكينها، وبالتالي خلاصها من الموروثات التي أسهمت في مظلوميتها، وإن تعارضت هذه الأفكار مع الدين والقيم.

إنّ صوابية أي من المقاربات المطروحة لمسألة تمكين المرأة، ترتبط برصد دقيق لمؤشرات موضوعية تعكس واقع المرأة لجهة ما تحدثه طروحات تمكينها من تأثيرات، وبالتحديد، تلك التي ترسم خط فاصلاً بين طروحات تسهم في نهضة المرأة وتخلّصها من معوقات تطورها وتقدمها، وبين طروحات باتت تحدث بمفاعيلها تهديدات لهويتها بشكل خاص، وللمجتمع عامة.


[1] كاثرين بولوك، نظرة الغرب إلى الحجاب، ترجمة شكري مجاهد - دار العبيكان, الرياض 2011، ص76.
[2] Mabel Sharman Crawford, Through Algeria,1863,quoted in j. Marbo(ed),Veiled Half-Truths: Western Travellers “ Perception of Middel Eastern Women( London: I,B.Tauris,1991),P182.
[3] وردت كلمة التمكين في القرآن الكريم ثماني عشرة مرة بتصريفات متعددة، فقد وردت اللفظة بصيغة (مكنا)، (مكناهم)، (مكناكم)، (مكني)، (أمكن)، (نمكن)، (وليمكنن)، (مكين).
[4] موقع المسلم، إبراهيم الناصر، الحركة النسوية الغربية ومحاولات العولمة.
[5] موقع المسلم، رأفت صلاح الدين، المرأة بين الجندرة والتمكين.
[6] كاميليا حلمي محمد، ورقة بحثية تحت عنوان " مفهوم مصطلح تمكين المرأة (Women Empowerment) في منشأه" مقدمة في ورشة عمل دور المرأة في العمل الخيري والتطوعي في الكويت بتاريخ 15-18 أيلول 2012، منشورات اللجنة الإسلاميّة العالمية للمرأة والطفل.
 [7] ويل ديورانت، لذات الفلسفة، صفحة 158.
[8] الأمجد سلامة، مقالة تحت عنوان " تحدّيات المرأة المسلمة- العلاقة الإشكاليّة مع الحركات النسويّة - لبنان نموذجًا، جريدة الأخبار، العدد ٣٠٤٦ الاربعاء ٣٠ تشرين الثاني ٢٠١٦
[9] موسوعة ويكبيديا، مفردة نتائج الحرب العالمية الثانية.
[10] موقع الأمم المتحدة، مقدمة نص اتفاقيّة القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة.
[11] أمثال: بيلا آبزوج، وجيسي ماري جراي، وواي سونج نيو، وبوديل بيجتراب، ومينيرفا برناردينو وغيرهن كثيرات.
[12] موقع الأمم المتحدة، وثيقة منهاج مؤتمر بكين، 1/9/1995.
[13] موقع الأمم المتحدة، قضايا السكان، مؤتمر القاهرة 1994.
[14] موقع الأمم المتحدة، وثيقة منهاج مؤتمر بكين،1/9/1995.
[15] موقع الأمم المتحدة، وثيقة منهاج مؤتمر بكين،1/9/1995.
[16] رأفت صلاح الدين، المرأة بين الجندرة والتمكين، م.س

أضيف بتاريخ: 29/06/2021