أسرة ومجتمع

الطلاق بين سموّ التشريع والتسرّع في التطبيق

الطلاق بين سموّ التشريع والتسرّع في التطبيق

الشيخ حسن أحمد الهادي[1]

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف الخلق نبيّنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.
 
أهميّة الأسرة في الإسلام
الأسرة في النظام الاجتماعيّ والقانونيّ في الإسلام هي النواة الأساس الّتي منها يتشكّل المجتمع الإسلاميّ، وللأسرة في الإسلام مقاصد وغايات عدَّة: الأول: أنّه يترتّب على تأسيس الأسرة هو السكن وتحقّق الأنس والهدوء الروحيّ بين الزوج والزوجة؛ حيث إنّ كلّاً منهما يشعر بأنّه وحده يملك عواطف لا تُصرف أو تُشبع إلّا بالعثور على شريك لحياته. وهذا لا يتحقّق إلّا في أجواء الاستقرار الأسري حيث تعمّ المودّة ويسود الهدوء وسكنُ كلٍّ من الرجل والمرأة إلى الآخر.

والثاني: أن تكون محلّاً لإشباع الحاجات الجنسيّة لكلٍّ من الرجل والمرأة، فكلٌّ منهما بعد البلوغ تظهر لديه ميول نحو الجنس الآخر، والإسلام ليس فقط لم يذمّ هذا الميل أو يقمعه، بل اعترف به وأضفى عليه لوناً من القداسة؛ وذلك أنَّ هذا الميل كغيره من الميول الّتي أودعها الله في الفطرة الإنسانيّة لحكمة خاصّة، ولا يُمكن أن يخلق الله شيئاً أو يُعطي هذا الشيء خصوصيّة دون أن يكون وراء هذه الخصوصيّة حكمة وهدفاً.

والثالث هو إشباع غريزة حبّ البقاء وهي من الغرائز الإنسانيّة الأصيلة، ويتحقّق ذلك من خلال الذريّة واستمرار النسل، فالولد عندما يحلّ ضيفاً على الأسرة يُضفي عليها لوناً مختلفاً ولذّة من نوعٍ خاصٍّ، ويؤدّي في الوقت نفسه إلى تبدّل العلاقات داخل الأسرة ويُدخلها في مرحلة جديدة مختلفة عمّا كانت عليه قبل مجيئه.

تنظيم العلاقات الأسرية
تتأسّس الأسرة على علاقات مرنة يسودها الوفاق بين الزوج والزوجة وهذا لا شكّ فيه، ولكن في الوقت عينه لا تعني المرونة زوال الحدود بين الأدوار والمهام الّتي يؤدّيها كلٌّ منهما. وعليه فإنَّ أيّ نظام حقوقي- قانونيّ لا يُدخِل هذه المسألة ضمن حساباته سوف يكون قانوناً فاشلاً عاجزاً عن تنظيم العلاقات الأسريّة وبنائها على أسس سليمة. وقد تجاوز الإسلام هذه الثغرة وأدخل في حساباته خصوصيّات دور الزوج والزوجة وبنا نظامه القانونيّ المتعلّق بالأسرة على ضوء هذه الحقيقة الّتي لا يُمكن تجاهلها، وهذا ما يُفسّر بعض وجوه التمايز الحقوقيّ والقانونيّ بين الرجل والمرأة سواء في الأسرة أم خارج نطاقها. وأبرز دواعي التمايز والاختلاف المشار إليه هو تأمين الهدف الثالث المبتغى من تأسيس الأسرة وهو الذريّة وتربية الولد، فلا يخفى على أحد أهميّة دور الأمّ في احتضان الولد جنيناً ووليداً، ومن لوازم طول فترة احتضان الأمّ للولد أن تُنظّم القوانين بشكل يؤمّن للأمّ أعلى درجات الاستقرار والهدوء النفسي؛ لتتمكّن من القيام بدورها التربويّ على أكمل وجه، ولعلّ هذا هو السبب الّذي من أجله أُلزِم الرجل بالنفقة على زوجته ليفرغ بالها من هموم تحصيل لقمة العيش، ولا يُشغلها شاغل عن دورها التربويّ الّذي لا يُمكن أن يؤدّيه غيرها كما تؤدّيه هي.

خطورة ظاهرة الطلاق على المجتمع:
الطلاق ظاهرة اجتماعية خطيرة تهدّد أمن المجتمعات وسعادتها، ولذا نرى اهتماماً بمعالجة هذه المشكلة من كافّة الجهات والمستويات، فالدول والحكومات تسعى من أجل وضع حدّ لتنامي هذه الظاهرة لما لها من الآثار السلبية الهدّامة للمكوّن الأسري والاجتماعي؛ ذلك أنّ الأسرة هي حجر الأساس في هذا البناء وعليها تتوقّف متانته واستقامته.  وكثرة الطلاق هي بداية الانحراف والسقوط في الهاوية المخيفة، حيث الفساد الأخلاقي والأمراض النفسية والضياع الشامل للإنسان . وإذا كان الجميع خاسرين في الطلاق، فإنّ المرأة تعتبر الخاسر الأكبر ذلك أنّها العنصر الأضعف والأكثر خسارةً من الطلاق، هذا فضلاً عن الآثار النفسية التي تبتلى بها، فهي صاحبة العاطفة، والإحساس المرهف، التي تحتاج إلى من يمنحها الشعور بالأمن والسلام. ولذا فإنّ على المرأة أن تكون أكثر وعياً لهذه المسألة وأن تكون أكثر صبراً ومقاومة وسعياً من أجل استمرار الحياة الزوجية ، وعليها يتوقّف أمن أطفالها وضمان تربيتهم تربية متوازنة وصالحة.

سمو التشريعات الإسلامية في قضية الطلاق
 يتبيّن للباحث في التشريعات الإسلامية المتعلّقة بالزواج والطلاق أنّ الإسلام يعارض الطلاق، ويراه أمراً مبغوضاً له، ولهذا اتخذ الإسلام مختلف التدابير الحقوقية والأخلاقية والاجتماعية من أجل منع الطلاق وصيانة المؤسسة الأسرية من خطر الانحلال، وتوسّل بمختلف الوسائل والطرق من أجل الحيلولة دون وقوع الطلاق، واستعمل في ذلك أنواع الأسلحة، ماعدا سلاح القوّة وسلاح القانون، بمعنى معارضة الإسلام سلاح القانون من أجل منع الرجل من إيقاع الطلاق وإبقاء المرأة في بيت الرجل رغماً عنه، إنّه يرى ذلك غير منسجم مع المقام والموقع الذي يريده للمرأة في المحيط العائلي. فإنّ الركن الأساس في حياة العائلة هو الإحساسات والعواطف، وأنّ الذي يجب أن يجتذب الإحساسات والعواطف الزوجية لينشرها على أطفاله بدوره هو المرأة ، وأنّ انطفاء شعلة المشاعر الزوجية عند الرجل تجاه زوجته يجعل الجو العائلي بارداً كئيباً، وحتى مشاعر الأمومة لدى أيّ امرأة تجاه أطفالها لها علاقة وثيقة بإحساسات زوجها تجاهها[2].

ولهذا  فتشريع الطلاق في الإسلام لا يلجأ إليه إلّا بعد أن تستنفذ كل وسيلة من وسائل الإصلاح بحيث يصبح الاستمرار في الحياة الزوجية أمراً لا يطاق، ويصبح الوئام بين الزوجين أمراً ميؤوساً منه، فلقد نظر الإسلام بعمق وشمول إلى كل شأن من شؤون الحياة فوضع لها الحلول الحاسمة لإصلاحها وعلاجها، فلم يشرّع الطلاق إلّا بعد أن يستحكم العداء بين الزوجين، وتأكل الأحقاد والضغائن قلوبهما، ويكيد كلّ منهما للآخر، فآثر الإسلام أخفّ الضررين، وأهون الشرّين، ولم يهمل في نفس الوقت شأن الأولاد بعد انحلال الرابطة الزوجية، فأثبت أنّ للأم حق الحضانة على أولادها الصغار حتى يكبروا، وأوجب على الأب القيام بنفقاتهم، وأجور حضانتهم للأم.

وبالعودة إلى سمو التشريعات الإسلامية في قضية الطلاق نجد أنّ الإسلام قد شرّع العديد من التشريعات الحقوقية التي يفهم منها التشدّد في الطلاق، والإكثار من الشروط والضوابط في إيقاعه يرتبط بفلسفة خاصة؛ هي المنع أو الحد من الطلاق، أو قل جعله تشريع الضرورة عند المسلمين. ويدلّ على هذا الكثير من التشريعات منها:

1.    الطلاق أبغض الحلال:
الواضح من مجموعة من النصوص أنّ الطلاق بغيض في نظر الإسلام، وأنّ الإسلام يريد أن يكون ميثاق الزواج متيناً ومحكماً، فقد كره الإسلام الطلاق كأشدّ ما تكون الكراهية، فتضافرت الأخبار عن النبي (ص)، والأئمّة (ع) في مبغوضيّته وذمّه، روي عن رسول الله (ص) قوله: "ما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة يعني الطلاق "[3]. وعن الإمام الصادق (ع): "إنّ الله عزّوجلّ يحبّ البيت الذي فيه العرس، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق، وما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من الطلاق.."[4]. وعنه (ع): "تزوّجوا، ولا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه العرش.."[5]. وبهذا المضمون وردت أخبار كثيرة عن الأئمة الطاهرين(ع) تحذّر منه، وذلك لما له من الآثار السيّئة على الأفراد والمجتمع.

فالواضح من هذه الروايات وغيرها أنّ الأصل في الإسلام هو ديمومة العلقة الزوجية واستمرارها، ولكنّ هذا لا يعني أن لا يضع الإسلام الحل المناسب عندما تتفاقم المشاكل بين الزوجين وتخرج عن الحدود والضوابط الشرعية والأخلاقية، وتمسّ الكرامات وتهدر الحقوق ولا يبقى ما يمكن أن يصلح الأمر به؛ وذلك لأنّ المبغوضية الواردة في الروايات لا تتعارض مع تشريع الطلاق المحلّل وإلا لوقع المحذور...
 
2.    التشدّد في إيقاع الطلاق فقهياً[6]:
 كثرت الأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنةّ المتعلّقة بالطلاق والتي يفهم منها التضيّق من دائرة إيقاع الطلاق بين الزوجين على المستوى الاجتماعي، وهذا ما يتّضح بأدنى تأمّل في جانب من أحكام الطلاق. فمثلاً لا يقع الطلاق إلا بلفط  خاص هو: "طالق"، ولا يكفي ما عداها كطلقت، وأنت مطلقة، أو أنت الطالق مع أل التعريف، فضلاً عما عداها من ألفاظ كالكناية كأنت خلية أو الحقي على أهلك ونحوها. ولا يقع  بالكتابة ولا الإشارة إلا في حالات خاصة كالعجز عن اللفظ. وكذا لا يصح إلا بالعربية عند القدرة عليها.

والأهم هنا أنّه يعتبر في صحة الطلاق أن يقع بحضور شاهدين عدلين بحيث يسمعان إنشاء الطلاق، ويشترط في الشاهدين اجتماعهما حين سماع الإنشاء، فلو أوقعها أمام واحد في مجلس فكرَّرها أمام الآخر في مجلس آخر لم يصح. وكذا يشترط في الزوج المطلّق أمور: منها القصد، فلا يصح طلاق غير القاصد كالنائم والساهي والهازل.

وتشرّع الأبواب للصلح والعودة عن الطلاق إما بعقد جديد، أو حتى بعد الطلاق بدون عقد جديد في مورد العدة الرجعية، التي تعني إمكانية ردّ المطلّقة أثناء عدتها إلى نكاحها السابق، إمّا بالقول الدال على المطلوب كأرجعتك وراجعتك وأمسكتك في نكاحي، وإمّا بالفعل، بأن يفعل ما لا يحل إلا للزوج كالوطء والتقبيل ونحوهما.

3.    أخلاق العشرة الزوجية من مبعدات الطلاق:
إنّ التشريعات الإسلامية الخاصة بالحياة الزوجيَّة، والتي تنظّم العلاقات الحقوقية والأخلاقية والاجتماعية بين الزوجين، لها أثر كبير ودور أساسي في منع وقوع الطلاق، وحفظ هذا الكيان الزوجي من الخلافات والمشاكل أو التصدّع والانهيار. ولتوضيح الفكرة بذكر بعضها:

أ‌.       حسن الخلق بين الزوجين:
إن  أحسنَ الحسن هـو الخُلُق الحَسَن، وهـو أهم  شيء في  حياة الإنسان في الدنيا، وأكثر مـا يدخـل الناس الجنة  في الآخرة، وكل النـاس  بمختلف طبقاتهم يحتاجون إلى الأخلاق الحسنة، وأحوج هؤلاء  الزوجان: الرجل والمرأة، لأنّه لا غنى لكل واحد منهما عن حسن الخلق، بـل هو  ركيزة  أساسية في الحياة الزوجية والعيش السعيد بينهما، فقد روي عن الإمام الصادق(ع) قال: ((الِبّر وحسن الخلق يعمران الدّيار ويزيدان في الأعمار ))[7].

ومن الواضح من هذه الصحيحـة أن حسن الخلق مع البِر للوالدين والزوجة  والأهل يعمران الديار؛ لأنّ الانسان إذا حسن خلقه مع زوجته والزوجـة حسّنت خلقها مع زوجها ، فدارهما تعمر وتستقر ويعيشان في انسجام حتى آخر حياتهما ، ونتيجـة ذلك هـو  طول عمرهما وهذه نتيجة طبيعية.

ويفهم من مجموعة من الروايات عن النبي(ص) والأئمة(ع)، تخصيص الأهل (الزوجة) بحسن الخلق وفعل الخير من قبل الرجل، ولو لم يكن لهذا التخصيص غاية سوى إيجاد الألفة مع الزوجة لكفى.

روي عن أمير المؤمنين(ع) قـال : قـال رسول الله (ص) :( أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خُلقاً وخيركم لأهله ))[8]. وعنه (ع) عن رسول الله (ص): (أحسن الناس إيماناً أحسنهم خُلقاً وألطفهم بأهله، وأنا ألطفكم بأهلي))[9].

ج‌.    حُسن المعاشرة:
العشرة الحسنة من الأمور التي حثّت عليها الشريعة الإسلامية المقدّسة، واعتبرتها  من القضايا التي تحتل مكانة محورية في الحياة الزوجية والأسرية بين المسلمين، وكذلك في حياتهم العامة مع المسلمين وغيرهم، ولقد حثّ الإسلام على معاشرة الزوجة بالمعروف؛ فدعا إلى توثيق روابط المودّة والمحبّة. ودعا إلى حلّ المشاكل والخلافات التي تؤدي إلى الطلاق. فأمر بالعشرة بالمعروف. قال الله تعالى: {.. وعاشروهنّ بالمعروف فان كرهتموهنّ فعسى إن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}[10] . وتتسع دائرة العشرة الحسنة بين الزوجين لتشمل العديد من المفاهيم الأخلاقية والتربية السلوكية، كونها متداخلة مع كل التفاصيل الحياتية للزوجين، لذا نقتصر على بعضها:

-       مهارة حسن المداراة : إنّ الحياة الزوجية السليمة هي الحياة التي يعيش فيها الزوجان بتناغم وتفاهم كبيرين، والعنوان الأبرز لهما هو: ألا يسيء أحدهما للآخر، بل يحرصان على أن يكون الإحسان هو الهدف الحاكم على سير الحياة الزوجية بينهما، قال الله تعالى: {وعَاشرُوهنَّ بالمعرُوفِ...} وروي عن الإمام علي(ع): "إنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارها على كلِّ حال، وأحسن الصحبة لها، فيصفو عيشك"[11].

-       عدم استخدام القسوة: نهى الرسول الأكرم (ص) عن استخدام القسوة مع المرأة، وجعل من حقّ الزوجة عدم ضربها والصياح في وجهها، ففي جوابه على سؤال خولة بنت الأسود قال: "حقّكِ عليه...ولا يلطم، ولا يصيح في وجهك"[12]. وقال (ص): "خير الرجال من أُمّتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحنّون عليهم، ولا يظلمونهم"[13].

وخلاصة القول هنا: أنّه عندما تتحدّث الشريعة وتحثّ على حسن العشرة فإنها لا تقصد الفرد كفرد، بل كجزء مكوّن للأسرة أولاً وللمجتمع ثانياً، ولهذا فإنّ الغاية الأساسية من العشرة في الشريعة الإسلامية ترتبط بضمان حفظ المجتمع وتثبيت أركانه، وبناء العلاقات المثلى بين أفراده على اختلاف طبقاتهم ومواقعهم. روي عن الإمام الصادق (ع) : "إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلّفها وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة، وسعة بتقدير، وغيرة بتحصّن"[14]. عن أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولده الحسن (ع): "لا يكن أهلك أشقى الخلق بك"[15]
 
د‌.      المداراة وضبط النفس:
 يؤدّي اختلاف المشارب والأذواق بين الزوجين إلى ظهور الاختلافات والنزاعات بينهما، ولهذا حثّت الروايات على الصبر عند وقوع الخلاف؛ قولاً كان أم فعلاً. روي عن الإمام الباقر(ع) أنّه قال: "من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة، أعتق الله رقبته من النار، وأوجب له الجنّة"[16]. والوجه المقابل لضبط النفس هو الغضب الذي إن اشتعل في أحد الزوجين أو كليهما، أدّى إلى هتك الحرمات، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة والتسبّب لها بالعار والذل، وقضى على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك الأستار، وارتكاب أفجع الأعمال بين الأزواج بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. ورد عن أبي عبد الله(ع) : "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل"2[17].

فإن خصلة الغضب تؤدّي إلى أن يعتبر أحد الزوجين نفسه وصياً على الآخر، والسيطرة عليه ويحاول تأكيد مكانته في الأسرة كندٍّ ومساوٍ في الحقوق والواجبات, ومعظم الشجارات ومنابت الغضب تبدأ من هنا، لتنعكس لاحقاً على سلوك الزوجين وتخرجهما عن جميع خلقيات الحياة الزوجية، لأن الغضب عندما يسيطر على أحدهما أو كليهما يخرجه عن حدود العقل وضوابطه. فلا يدرك الزوج حينها أن الزوجة ليست جارية, وليست خادمة ومدبّرة منزل ومربية أطفال فقط نهاراً،, وجاهزة لرغباته الجنسية ليلاً, بل هي  رفيقة حياة, شريكة في كل شيء... وزوجها ليس وليّ أمرها والقيّم عليها وعلى تصرفاتها وسلوكها, وتنسى الزوجة أيضاً أنّ الزوج ليس ممولاً وبنكاً للأسرة،, إنه الشريك والحبيب والرفيق والصديق … وأن أهم ما في الزواج الصداقة الحقيقية التي يستطيع فيها كل طرف أن يبوح بهمومه ومشاكله وأحلامه للآخر, والآخر يتفهّم ذلك ويستوعبه محترماً مشاعر الشريك وأحلامه.

وقع الطلاق، ماذا بعد؟
صحيح بأنّ الطلاق يقع بين الزوجين وتنتهي العلاقة الزوجية بينهما بإيقاع الصيغة المحدّدة في الشريعة، إلا أنّ ما ينتج عنه من آثار سيئة يطال - إضافة إلى طرفي العلاقة – أطرافاً عدة تبدأ بالأولاد ولا تنتهي بالأقارب والأرحام والأصدقاء، وعلى رأس تلك المشاكل والآثار السيئة  السلوك العدائي من قبل أحد الطرفين تجاه الآخر أو من قبلهما معاً، والذي يتعدّى الأخلاق والآداب والقيم ليصل إلى ما حرّمه الله تعالى من هتك للحرمات والأعراض وغيبة ونميمة وبهتان...وكأنّ الانفصال بين الزوجين قد حوّلهما إلى أعداء متناحرين.

وأمام هكذا مشكلة اجتماعية خطيرة يجب أن يلتفت الطليقان إلى عدة أمور أهمها:

-        أنّ الانفصال بالطلاق لا يبيح لأحدهما تخطّي حدود الشرع والأخلاق، وأنّ كلّ الأفعال والأقوال التي تصدر منهما تدخل في إطار المحرّم الشرعي الذي يعاقب عليه صاحبه يوم القيامة، وهذا ما يجب أن يضعكما أمام خسارة الآخرة بعد تحطيم انهيار حياتكما الزوجية بالطلاق.

-        الالتفات الجدّي إلى أنّ الطلاق تسريح بإحسان كما عبّر القرآن الكريم في قوله  تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ...}[18]. والمراد من التسريح بإحسان أن يؤدّي الرجل للمرأة حقوقها بعد الانفصال النهائي، و لا يسعى إلى الإضرار بها عملاً و قولاً بأن يعيبها في غيابها أو يتّهمها بكلمات رخيصة و يسقط شخصيّتها وسمعتها أمام الناس، وبذلك يحرمها من إمكانيّة الزّواج المجدّد، فكما أنّ الصّلح و الرّجوع إلى الزّوجة يجب أن يكون بالمعروف والإحسان والمودّة، فكذلك الانفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعا بالإحسان أيضاً[19]، ولهذا تضيف الآية الشريفة {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}. وممّا يستجلب النظر في مورد الرّجوع والصّلح هو التعبير ب (المعروف) و لكن في مورد الفرقة و الانفصال ورد التعبير (بإحسان) الّذي يفهم منه ما هو أعلى و أسمى من المعروف، و ذلك من أجل جبران ما يتخلّف من المرارة و الكآبة لدى المرأة بسبب الانفصال و الطّلاق [20].

-        وصحيح بأنّ الطلاق يؤدّي إلى ابتعاد الزوجين عن بعضهما وانفكاك الواجبات الزوجية بينهما، إلا أنّ هذا  يضعهما أمام مسؤولية أخطر من الأولى وهي وجوب حفظ الأسرة من الانهيار وتعرّض الأطفال إلى التسيّب والحرمان من عطف الأبوين المجتمعين في إطار الرحمة والمودة، وإلى تمزيق حياة الطفل وحقوقه بين الأبوين ما  يدفع الكثير من الأطفال إلى الجنوح، والشذوذ بل والجريمة أحياناً. فإنّ الأطفال- كما تؤكّد الدراسات- الذين ينشأون في أسرة مضطربة قلقة يسودها النزاع لا بد وأن يشبّوا مهزوزين نفسياً، يطلّ من عيونهم البريئة إحساس بالرعب وشعور بالحرمان حتى لو حاول الوالدان تقديم النصائح لهم فإن ذلك سوف يكون عديم الجدوى .

 ولهذا فإنّ الآباء يتحمّلون مسؤولية ما يمكن أن يصيب الأطفال البريئين الذين يذهبون ضحيّة آبائهم وأمّهاتهم، فإنّهم هم يزجّون بهم في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة، ويلجئونهم على الأكثر إلى اقتراف الموبقات والجرائم بسبب تسيّبهم في الشوارع أو نقلهم إلى حضانة العوائل المتعدّدة والأحضان والمصطنعة غالباً، ولا يشكّلون بذلك وبالاً على أنفسهم، وإنّما على المجتمع بأسره.

دعوا الأنانية جانباً... وعودوا إلى الحوار
إنّ على المرء أن لا يكون أنانياً في بحثه عن الراحة والاستقرار فيحل مشاكله بطريقة مدمرّة تنشأ عنها مشكلات عديدة له ولغيره ممّن لم يرتكبوا ذنباً في ذلك. وإنّه لنوع من القسوة عندما يقدم الزوجان على الطلاق وتدمير ذلك العش الدافئ الذي ينعم به أطفالهم وتشريدهم هنا وهناك وتعريضهم إلى خطر الضياع والانحراف نتيجة أنانياتهم وسوء تدبيرهما لحياتهما الزوجية.

لذا إذا كان لا بد من حل هنا، فليس هو إلا  العودة إلى الحوار الموضوعي؛ فالحوار والنقاش الهادئ هو أفضل السبل بشرط أن يؤدّي إلى حل جذري للمشكلة، أما أن يرفع أحد الطرفين صوته ويغضب فلا يسيطر على لسانه أو حركاته فإنه يضخِّم المشكلة وقد يكون على حق لكنه بغضبه وسوء سلوكه يصبح على خطأ وباطل, ويمنع الشريك من الحوار ويفرض عليه رأيه بالقوة وقد يسكت الطرف الآخر لاعن قناعة بل عن حكمة ونفور من شجار لن يؤدي إلى أي نتيجة، وتتراكم مشاعر الغيظ المكبوت والألم وجرح الكرامة في أعماقه يوماً بعد يوم, حتى تقتل العاطفة والود، وتسبّب أمراضاً جسدية نفسية المنشأ مع مرور الزمن، وتخلّف شعوراً بالمرارة لا يفلح أي اعتذار في محوه؛ لأنّ الأمر يتكّرر ولا يتعلّم الغضوب الدرس وكيف أنّه بغضبه المدمّر يدمّر من يفترض أن يكون السكن والسكينة والحبيب والصديق .

والحمدلله رب العالمين


[1] أستاذ في جامعة المصطفى العالمية، فرع لبنان.  Sh.h.alhadi@gmail.com
[2] مطهري، مرتضى، نظام وحقوق المرأة في الإسلام، ص313، بتصرّف.
[3] الكليني، الكافي ج5، باب كراهية الغربة، حديث 1، ص238.
[4] الكليني، الكافي ج6، باب كراهية طلاق الزوجة الموافقة، حديث 3، ص54.
[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج22، باب جواز رد الرجل المطلاق...، حديث 7، ص9.
[6] يراجع: روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة، ج2، كتاب الطلاق.
[7] الكافي، ج2، ص،100، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الخلق، ح8 .
[8] العلامة المجلسي، بحار الأنوار،  ج،68 ص387 .
[9] م.ن.
[10] النساء، 19.
[11] الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص218.
[12]  الطبرسي، مكارم الأخلاق، 218
[13]  م. ن، 216-217.
[14] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج‏78، ص‏236.
[15] نهج البلاغة، الكتاب 31، والحكمة 257.
[16] م. ن، 216.
[17] أصول الكافي، ج2، ج 1.
[18] البقرة، 229.
[19] الشيرازي، آية الله العظمى ناصر مكارم،الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏2، ص: 160.
[20] الطبطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 2 ص 234 ذيل الآية.

أضيف بتاريخ: 10/09/2021