المقالات

التضليل الإعلامي … بوق الفتنة

بسم الله الرحمن الرحيم

التضليل الإعلامي ... بوق الفتنة

د. علي الحاج حسن

مقدّمة
الإعلام في جوهرة عمليَّة ثقافيَّة تواصليَّة تلعب دورًا محوريًّا على مستوى إيصال المعلومة والمعرفة إلى الآخر المتلقي، فتساهم في التكوين الذهني وبناء المجتمعات ورقيّها وانتقالها إلى مرحلة البناء الحضاري للمجتمعات[1]. لقد تطوّر الإعلام كمهنة وأصبحت على امتداد التاريخ ذات أصول وقواعد تحكمها المهنة والوظيفة أو الهدف ولم يغب عنها البعد الأخلاقي والإنساني؛ إذ أنّ الحد الفاصل بين نقل المعرفة ولعب دور مشبوه في تشويه الأذهان يكمن في القواعد والأصول الأخلاقيَّة.

انطلاقًا من حاكميَّة الأصول والقواعد، فإنّ المنحى الذي يتّخذه الإعلام هو الذي يحدّد نوع التأثير المطلوب على المستوى الحضاريّ. إنّ الالتزام بالضوابط يقود إلى الوحدة والانسجام والمحبّة ومعالجة المشاكل والتعاون على حلّ الخلافات وتخفيف التوتّرات وتشجيع الخير بكلّ مساراته وبشكل عام يساهم في الرقي العلمي والعملي؛ بينما يقود التخلّي عنها إلى تعميق الشروخ والفروق والعداوات بين أفراد المجتمع، مستعينًا بكلّ حيلة ومكيدة لتحقيق مآربه، وتبديل توجّهات المستهدفين، وحرف نظرهم، واستغلال جهلهم[2].

كما يلعب بعض الإعلام المعاصر دورًا بعيدًا عن أهدافه أقل ما يُقال فيه أنّه أصبح مدعاة للتفرقة والفتنة وإلقاء الشبهات، بالإضافة إلى تضليل الأذهان ليحصد في النهاية أهدافًا أخرى سياسيَّة أو اقتصاديّة أو ما سواهما، فعندما يساهم في صناعة وعي باطل وهشّ فقد سيطر وروّج لأنماط من التفكير تخدم مصالح القوى المهيمنة بالدرجة الأولى.

حقيقة التضليل الإعلامي
قُدِّمت العديد من التعريفات لعمليَّة التضليل، بيّنت جوانبه وحدوده وأهدافه، والتي يمكن بواسطتها فهم المآلات الحقيقيَّة لهذه العمليّة المقصودة والمخطّط لها. التضليل الإعلامي في أحد تعريفاته هو معلومات كاذبة مقصودة، تقدِّم فائدة من أجل شنّ عمليات عسكريَّة فاعلة، وتوجيه عملية التلاعب بالوعي والتحكّم به[3].

أمَّا التضليل فهو مشروع منظّم ومخطّط يهدف إلى تشويش الأذهان والتأثير على العقل كما على العواطف والمخيّلة، وليس له سوى هدف واحد وهو إدخال الشكوك وخلق الاضطراب وهدم المعنويَّات[4]، كما يعتمد بشكل أساسي على الكذِب وتشويه الحقائق، حتى لو كان في جزء منه يلتقي مع الحقيقة ليقع مؤثرًا عند المستهدفين[5].

يتّضح من مجمل التعريفات أنّ التضليل الإعلامي هو عمليَّة خداع متعمّدة من جانب مصادر مُعلن عنها، أو جهات وأجهزة لديها قنوات سريَّة، هدفها خداع الطرف المتلقي للأخبار والمعلومات والتلاعب بالرأي العام، أو تضليل جهات محدّدة أو شخصيَّات وقيادات سياسيَّة وعسكريَّة بعينها عن طريق خلق واقع مزيف ومغلوط، ما يؤدّي إلى حصول الإقناع بما فيه الكفاية، وذلك بالاستفادة من وسائل الإعلام والاتصال الجماهيريّ وأحدث فنون التسويق الدعائي والسياسي وتقنيات التعامل والتأثير النفسي، بواسطة معلومات كاذبة أو مفبركة أو إخفاء معلومات حقيقيّة وأساسية، بغية تحقيق أهداف سياسيّة أو لإيقاع الخصم في الخطأ بالحسابات ممّا يدفعه لسلوكيَّات تتوافق مع ما يريده الطرف المضلل[6].
 
متى يقع التضليل مؤثرًا
لا يمكن لأيّ نشاط إعلامي تضليليّ أن يكون مؤثرًا إلّا إذا كان بغير علم الطرف المُضلل، وأنّ يكون هناك موثوقيَّة أو مقبوليَّة للجهة القائمة به، وقابليَّة النفس والجماعة عامّة والطرف المضَلّل خاصة للوقوع بالتضليل. عندما يستغل الإعلام الناس فيخدعهم بالكذب وترويج الأباطيل وتقديم الباطل على أنّه حق والعكس صحيح، عند ذلك يحقق أهدافًا رُسمت له ومنها نشر الفتنة وتأجيج الصراع وتشويه الرموز والقيادات والشخصيّات وتنصيب أخرى مكانها، فيسهل عند ذلك اختراق المجتمعات[7]. 

إنّ إطلالة سريعة على ما تنشره بعض وسائل الإعلام سواء التقليديّة أو الإعلام الجديد، يبن حجم المواد التحريضيَّة والتي قد تصل حدّ إشعال الفتن وتدمير القيم والإساءة إلى كل ما هو مشرق في ماضي الشعوب وحاضرها، ولعلّ النموذج المعاصر الأبرز في هذا الإطار ما تتعرّض له المقاومة الإسلامية في لبنان من حملات إعلاميَّة موجّهة ومخطّط لها لتكون الساعد الأيمن للقوى العسكريّة الصهيونية في تدمير إنجازات المقاومة وقيمها ورموزها وشخصيَّاتها، فتحقّق بالحرب الناعمة أحيانًا ما عجز الصهاينة عن تحقيقه بأدوات أخرى؛ والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى. فتُتّهم المقاومة أنّها تخدم أهدافًا أخرى (إيرانية مثلًا) وأنّها لا تهتم بمصلحة البلد وأهله، أو أنّها سبب المشاكل الاقتصاديَّة والأزمة الطائفيَّة وغيرها من أشكال الاستهداف والتشويه الباطلة.

وعليه، فالتضليل يعتمد بشكل أساس على:
·       الكذب والتشويه بهدف إضعاف المقاومة وتقديم صورة مشوّهة عنها ولطالما نعتت أمريكا وحلفاؤها المقاومة بكلمات وصفتها فيها بالإرهاب والتطرف.
·       استخدام الحيل والمؤامرات فيمدحك تارة ليهزّ قيم المؤمنين بك.
·       الاستفزاز بهدف الدفع نحو ردود أفعال تكون سببًا للإدانة ومن ثم الضغط والإكراه على النزول عند ما يريد، وأسلوب الاستفــزاز لــــه مفعول خطير في إثـــــارة الجمهور، وحاجته إلى تنفيس الاحتقان بطرق عنفيّــــة وغير عقلانيّة تمامًا.

في مواجهة التضليل
تبدأ المواجهة من الوعي والبصيرة واتّخاذ موقف حاسم حيال القضايا المثارة، ومدى تأثيرها على التوجّهات واتّخاذ القرارات. وقد قدَّم الإمام الخامنئي(دام ظلّه) رؤية متكاملة في رسم معالم الإعلام الملتزم صاحب القيم والذي ينحو اتّجاه رقي المجتمع ورفعة شأنه، فأشار إلى البصيرة على أنّها المدماك الأساس في مواجهة التضليل. لذلك قال (دام ظله): "علينا أن نفتح أعيننا، وأن لا نمر على الأحداث مرور الكرام كي نحقق البصيرة على ضوء التأمّل والتدبّر والتقييم الصحيح للأحداث والقضايا"[8]. وأكّد على "أنّ مؤشّر تشخيص الحق لا يعتمد على الأشخاص، بل على البصيرة لتمييز الحق عن الباطل، لأنّ الكثير من الشخصيَّات المعروفة تُخطئ"[9].

كما لفت سماحته قبل ذلك إلى الإعلام ودوره، موضحًا جوانبه والمسؤوليَّات المترتِّبة والمخاطر الكامنة، فأكّد على الدور الجوهريّ للإعلام في الرقي بالمستوى الثقافيّ للناس ونقل الفكر الإسلاميّ الصحيح، بما يتضمّن من توعية أخلاقيَّة واجتماعيَّة، تسير بالمجتمع الإسلاميّ عامّة إلى الخير والصلاح، يقول (دام ظله): "يجب أن يكون عموم توجّه الصحافة نحو إصلاح الثقافة العامة، وعلى المؤسّسات المختصّة بشؤون التبليغ والإعلام، أن تبذل جهودها نحو إصلاح الثقافة العامة"[10].

حدّد سماحته(دام ظله) أيضًا الاتّجاه العام لحركة الإعلام قائلًا: "بشكلٍ عامّ يجب أن تكون الإذاعة والتلفزيون وكما قال الإمام الراحل(قده) جامعة عامّة يُعلَّم فيها الدِّين والأخلاق والقيم الإسلاميّة وأسلوب العيش الأفضل والجديد في مجال العلم والسياسة والأفكار الجديدة بلغة بليغة ومفهومة؛ حتى يستطيع الجميع سواء من عامة الناس، أو من أصحاب العقول المفكِّرة الارتواء من هذا المعين الفيّاض كلٌّ بحسب استعداده وقابليته"[11].

 ما يعني أنّ مسألة الأخلاق الإنسانيّة، هي لبُّ الدين، ولا بد بحسب رأي الإمام الخامنئي(دام ظله) أن تحتلّ المركز الأول في الترويج الإعلاميّ الهادف، وعن هذا يقول سماحته (دام ظله):
 "إنّ الهوية الأخلاقيَّة هي الهويَّة الحقيقيَّة للمجتمع، أي أنَّ مركز الثقل في المجتمع هو القطب الأخلاقيّ، وجميع الأمور الأخرى إنما تدور حول محورها. فعلينا أن نولي الأخلاق أهميَّة كبيرة، وعلى الإذاعة والتلفاز التخطيط في مجال نشر الفضائل الأخلاقيَّة وتفهيمها وبيانها، كالأخلاق السلوكيَّة لأفراد المجتمع، والانضباط الاجتماعيّ، والنظم والتخطيط، والأدب الاجتماعيّ، والاهتمام بالأسرة، ورعاية حقوق الآخرين، وحفظ كرامة الإنسان، والإحساس بالمسؤوليَّة والاعتماد على النفس، والتحلّي بالشجاعة الذاتيَّة والوطنيَّة، والقناعة التي هي من أهم الفضائل الأخلاقية في المجتمع"[12].

الخاتمة
لم يكن التضليل الإعلامي وليد القيم العليا والأخلاق النبيلة ولن يكون وسيلة ارتقاء البشرية وتقدمها، بل لم يخرج عن كونه أداة طيّعة بأيدي أصحاب السلطة والمتآمرون وأصحاب الأهداف المشبوهة، فقد أدّى التضليل دورًا ناعمًا في تغيير القناعات وحرف الحقائق. وهنا ينبغي التوقّف عند الدور المطلوب لكل فرد من أيّ موقع كان، فعندما نعطي آذاننا وقلوبنا للحق والحقيقة ونتلمّس أبعاد الخبر، ونوقن بأنّ الذي يستهدف المجتمعات يريد لها أن تسير في ركابه لاستغلالها فقط، عند ذلك فقط نميّز الحقيقة من الضلال ونحافظ على هويّتنا من مخاطر الحرب الناعمة.


[1]  مباديء علم الاتصال ونظريّات التأثير، محمود حسن اسماعيل، الدار العالمية للنشر والتوزيع، ط1، 2003، ص22.
[2]  مقال: في مواجهة التضليل الإعلامي، الشيخ د. صادق النابلسي، مجلة بقية الله، 353.
[3]  الدعاية والتضليل الاعلامي، د. فريد حاتم الشحف، دار علاء الدين، ط1، 2015، ص13.
[4]  الدعاية والتضليل في الأفلام الأمريكية، مجد عثمان، رسالة ماجستير في كلية الإعلام جامعة البترا، 2015، ص14.
[5]  من التضليل الإعلامي، جلال الشافعي، دار البشير للطباعة والنشر، الأردن، 2005، ص18.
[6]  موقع مركز المعارف للدراسات الثقافيَّة، حسن الزين، دور التضليل الإعلامي في الحرب الناعمة-تاريخه وقواعده.
[7]  مقال: إعلام الفتنة وفتنة الاعلام، عبد الستار رمضان.
[8]  من كلام الإمام الخامنئي بتاريخ 26/10/2010.
[9]  المصدر نفسه.
[10] من كلام الإمام الخامنئي بتاريخ 11 صفر 1416هـ.
[11] نقلًا عن: كتيّب الإعلام من منظار الإمام الخامنئي الصادر عن دار الولاية للثقافة والإعلام.
[12]  المصدر نفسه.

أضيف بتاريخ: 23/05/2022