أسرة ومجتمع

عمل المرأة في رؤية الإسلام والمجتمع

عمل المرأة في رؤية الإسلام والمجتمع
دراسة إجتماعية إسلامية

الشيخ حسن أحمد الهادي

النظرة الحقوقية والتشريعية للقضية:
ليس بين الناس تفاضل في الإنسانيَّة؛ فلا فرق بين أنثى وأنثى، وبين ذكر وذكر، وبين ذكر وأنثى، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ...﴾[1]. وقال تعالى: ﴿...أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾[2]

فقوله >بعضكم من بعض< أصل تشريعي يعبّر عن وحدة موقع المرأة والرجل في نظام القيم والحقوق والواجبات في الإسلام، فكل منهما ينتمي إلى حقيقة واحدة، ويتكامل مع الآخر في هذه الحقيقة. وقد كثرت الآيات التي تتحدّث عن وحدة أصل الخلق، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾.[3]
 
وحدة الوظيفة العامة للبشر:
إنّ مهمة الاستخلاف، وإعمال الأرض، واستخراج خيرات الطبيعة والتمتّع بها، واحدة لجميع البشر ذكورًا وإناثًا، قال تعالى مخاطبًا الإنسان، ذكرًا وأنثى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[4]. وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ...﴾[5].

وبناءً على قاعدة وحدة الوظيفة العامة للبشر في العبادة وفي إعمار الأرض وتسخير الطبيعة لهم جميعًا، فإنّهم جميعًا ذكورًا وإناثًا على مستوى واحد في حق الاستمتاع والاستفادة من نعم الله المادّية وطيّبات الحياة[6].

ولهذا فإنّ نظرة موضوعيَّة واحدة إلى الأخبار المتعلّقة بالعمل والعلم، تؤكِّد لنا أنّ الإسلام لم يحرِّم نوعًا من العمل، أو العلم على المرأة، بعد أن أباحه للرّجل، فللمرأة أن تمارس أي عمل من الأعمال، كالزراعة والصناعة والطب والهندسة والإدارة والوظائف السياسية، والخياطة وقيادة الطائرة والسيارة والتعليم والتربية... الخ.  فليس في الإسلام عمل إنتاجي، أو خدماتي محلّل للرّجل، ومحرّم على المرأة، فالكل في أحكام الشريعة سواء، إنّما الفرق بين الرّجل والمرأة في بعض الواجبات التي كلّف بها الرّجل أو المرأة، أو في بعض الصلاحيّات التي روعي فيها التكوين النفسي والعضوي لكل منهما، وضرورة تنظيم الحياة الاجتماعيّة وإدارتها. فإنّ الأصل في الشريعة الإسلاميَّة هو إباحة العمل، بل إيجابه في بعض الإحيان إلّا ما حرّم في الشريعة أو ما أدّى إلى الوقوع في المحرّم بلا فرق بين الرجل والمرأة. ولهذا لا نجد حكمًا يحرِّم العمل على المرأة بالعنوان الأوّلي، وإنّما يستدلّ من يحرِّم العمل على المرأة خارج البيت بعناوين أخرى، ويعترض البعض بأنّ عمل المرأة ضمن مؤسّسات العمل المختلطة يقود إلى الفساد والوقوع في المحرّمات، أي أنّ الحرمة جاءت بسبب ما يؤدِّي إليه الاختلاط بين الرِّجال والنِّساء خلال ممارسة الأعمال من الوقوع في الحرام، أو بعناوين تشبهه، وبذا تكون تلك الحرمة حرمة بلحاظ العنوان الثانوي لا بلحاظ العنوان الأوّلي، وبعبارة أخرى هي من باب تحريم مقدّمة الحرام، أو تحريم المباح الذي يقود إلى الوقوع في المحرّم، والواضح هنا أنّ العمل الذي يقود إلى الوقوع في الحرام هو محرّم على كلا الجنسين، الرّجل والمرأة، وعندئذ يستوجب الموقف منع الاختلاط، وتوظيف العنصر الذي يحتاجه العمل بغضّ النظر عن كونه رجلًا أو امرأة.
 
تنوّع الوظيفة الخاصة لكلّ من الرجل والمرأة:
صحيح بأنّ الإسلام ينطلق في نظرته الحقوقيّة والقيميّة من وحدة الهويّة والنوع، وعدم التفاضل في الخلق والوظيفة العامّة بين الذكر والأنثى، إلّا أنّ هذا لا يتنافى أبدًا مع وجود وظيفة خاصّة لكل منهما في الحياة، فللرجل وظيفة خاصّة يؤدّيها في إطار وظيفته العامّة وكذلك المرأة، فثمة خصوصيَّة لكلّ منهما ترتبط بالدور الخاص المنسجم مع التكوين الجسدي والعقلي والنفسي والروحي؛ في كل من الرجل والمرأة، ولا علاقة لهذه الجنبة الخاصة بأفضليّة أحدهما على الآخر كما توهّم الكثيرون، ممن أغرقوا الساحة بالحديث عن دونيّة المرأة بالنسبة إلى الرجل في التشريعات الإسلامية، فحتى اختلاف التشريعات بينهما، وتفصيل حقوق كل منهما وواجباته؛ فهو لحفظ خصوصيَّة وتنظيم حقوق وواجبات كل منهما في القضايا العامة والخاصة لا أكثر.

إنّ التنوّع في الوظيفة الخاصة ليست سببًا للدونيّة أو نتيجة لها، لأنّه تنوّع متساوٍ بالنسبة للطرفين، فهو تنوّع وظيفي ناشىء من أسباب موضوعيّة لها علاقة بوظيفة كل من الرجل والمرأة وتتّصل بالماهيّة والكينونة الإنسانيّة.[7] وترتبط بضرورة تنوّع الوظائف والأدوار بين الخلق، فالحمل والولادة والحضانة والإدارة الأسريّة الداخليّة من وظيفة المرأة، وبالمقابل إن تدبير المأوى والحماية والقوت من وظيفة الرجل.

فمن المسلّم به – كما يقول الشهيد مطهّري-  أن الإسلام لم يضع للمرأة والرجل في جميع المجالات حقوقًا متشابهة، كما أنّه لم يضع عليهما في جميع المجالات تكاليف وعقوبات متشابهة، لكن هل معنى ذلك أن مجموع الحقوق التي منحها للمرأة أقل قيمة وأهمية من الحقوق التي منحها للرجل؟ بالطبع، لا.[8]

وهو ما رآه الإمام الخامنئي نظرة خاطئة، ومخالفة لنظام الخلق، حيث قال: >علينا أن نبقي على المرأة مرأة وعلى الرجل رجلًا، وإلا إذا بدّلنا الرجل إلى امرأة في جميع خصوصياته وأخلاقه وسيرته وواجباته وأعماله، وبدّلنا المرأة رجلًا، نكون قد قمنا بعمل خاطئ، ونكون قد قضينا على النظام الأتم والأكمل للخلق[9].

وبالنتيجة يمكن القول أنّه لا يوجد فروق ذاتية في أهليّة المرأة وكفاءتها للعمل في أي مجال من المجالات الكبيرة أو الصغيرة بنظر التشريعات الإسلامية، كل ما في الأمر أن هذه التشريعات توجّه كل من الرجل والمرأة للقيام بالأعمال التي تنسجم مع وظيفته الخاصة، دونما إلغاء أو هضم للوظيفة العامة التي يشتركان بها، وبهذا يتحقّق التكامل بين البشر كما يقول الإمام الخامنئي(دام ظلّه): "الإسلام يدعم تكامل البشر ولا يفرّق بين الرجل والمرأة، ولا يركّز على جنس الرجل أو جنس المرأة، بل إنه يسعى إلى تكامل البشر"[10].
 
لماذا تعمل المرأة؟
يُطرح الكثير من التساؤلات حول قضية عمل المرأة، استنادًا على أن الدين قد حفظ لها قوّتها وحاجاتها المادية؛ وأنه لم يشأ أن يجعل من المرأة كائنًا محتاجًا، ففرض على الرجال تأمين نفقاتها وأسرتها، ليكون بذلك قد وضع عنها عبئًا ثقيلًا، وتبعًا لهذا المنطق يصبح موضوع عمل المرأة مسألة اختيارية محضّة، والواضح أنّ هذه النظرة الضيّقة، لا تستند على رؤية موضوعيّة ومتكاملة إلى وظيفة المرأة في الحياة كشريك للرجل؛ تتناصف معه إدارة المجتمع، وتؤدّي دورًا كبيرًا في تشييد أركانه.

الصحيح هنا، أنّه يجب النظر إلى قضية عمل المرأة على أنّها تشكّل بعدًا خاصًّا من أبعاد الحضور الاجتماعي الفاعل لها، وأداءً طبيعيًّا لدورها ووظيفتها العامّة في الحياة، وهي لا تنطلق بالضرورة من السعي لتأمين الحاجات المادية فحسب،  بل إنّ دوافع المرأة نحو العمل كثيرة ومتعدّدة، كالحاجة إليها في وظائف يجب أن يؤدّيها خصوص المرأة في المجتمع الإسلامي، أو أداء الوظيفة الطبيعية للمرأة في ما يخصّ النساء، بل حتى لو كان عملها من باب تحقيق الطموح والذات فهو من الأمور الراجحة والمقبولة والضرورية، لأن المرأة بهذا تعيش الأمل الذي يعطيها الثقة بالنفس، والمثابرة والقوّة في حضورها الإيجابي في المجتمع، ما ينعكس استقرارًا على الشخصية، وعلى مجتمعها الخاص والصغير المتمثّل بالزوج والأسرة، بل قد يكون محرّكًا للإبداع عند المرأة في مجالات عملها المختلفة كما أثبتت التجربة.

هذا ما يُفهم من كلام الإمام الخميني(قده) بوضوح في نظرته إلى دور المرأة ووظيفتها في المجتمع، حيث رأى أن الإسلام يؤهّلها للقيام بهذه الوظائف، فقال: >يؤهّل الإسلام المرأة لأن يكون لها - كالرجل- دور في جميع الأمور، فالمرأة أيضًا تمتلك مثل هذا الدور<.[11] كما قال: >وإنّ الإسلام يأخذ في الحسبان حقوق النساء مثلما يهتم بحقوق الرجال، فلهن الحرية في ممارسة نشاطاتهن وبكامل إرادتهن، وفي انتخاب العمل<.[12] كما أضاف: >فلتعمل المرأة ولكن بالحجاب، ولا مانع من عملها في الدوائر الحكومية، ولكن مع مراعاة الحجاب الشرعي، والحفاظ على الشؤون الشرعية<[13]. وعلى نفس هذا المبدأ يدعو الإمام الخامنئي النساء إلى التخصّص في جميع الفروع الطبية، ما يقتضي عملهن بتخصصاتهن، فيقول (حفظه المولى): >على النساء التخصّص في كافّة الفروع والتخصّصات الطبية وعدم الاكتفاء بالطب النسائي<[14].
 
بماذا أخطأت المرأة الأوروبية؟
تمثّل أول خطأ ارتكبته المرأة الأوروبية في إساءة التعبير عن مطالبها، فبدلًا من أن تحدَّد الطريق التي ترغب في عبوره، أعلنت أنّها تريد أن تمشي - بجانب الرجل- ، وغاب عنها أن المشي بجانب الرجل على حد المساواة مجرّد نظرية لا يمكن تحقيقها عمليًّا، وذلك لأن المساواة لا يمكن تحقيقها إلا إذا تشابهت الأهداف تشابهًا تامًّا، والحياة لا تحتمل هذا التشابه، لأنّ كل نوع يؤدّي مهمة تختلف عن الآخر، ويستمدّ بقاءه الطبيعي من هذه المهمة وحدها.[15]
 
التزاحم بين العمل وإدارة الأسرة:
لم يبق مجال للشك في أن النظرة الموضوعيّة والعلمية الصحيحة والصحيّة إلى عمل المرأة، ترى أنّ المرأة شريك حقيقي وواقعي للرجل في أداء الوظائف والأعمال التي تنسجم مع وظيفتها، وتلبّي أهدافها وطموحاتها في الحياة؛ ولكن هذا يجب أن لا يتعارض مع وظيفة هامة وأساسية ترتبط ببناء أفراد المجتمع وتربيتهم من خلال مجتمعها الصغير، وهو الأسرة، وهذا يعني أن أعمال المرأة يجب أن تتراسل مع سياقات الدين، على قاعدة تماسك أوصال الأسرة واستحكام بنيانها، ومن هذه السياقات مسألة التوافق بين الزوجين حول خروج المرأة من البيت ونحوها.. وعندها لا يُرى إذن الزوج مقيّدًا للمرأة إلا في حالات محدودة...

>وفي كل الحالات ينبغي على المرأة أن تطوي كشحًا عن العمل الخارجي في حال بروز اختلاف يهدّد حفظ كيانها الأسري، حتى لا تكون المرأة من أوّل المتضرّرين من عملها<[16].
 
ضوابط عمل المرأة:
بعد إثبات أن عمل المرأة من الحقوق الطبيعية لها، بل الواجبة أحيانًا، يجب بيان مجموعة الضوابط والشروط التي وضعت لعمل المرأة بل فرق بين العمل المأجور أو العمل الطوعي والتبرّعي وهي:
- عدم تعارض العمل مع الحقوق الزوجية للزوج.
- أن لا يكون العمل على حساب إدارة تنظيم الأسرة.
- الالتزام ومراعاة الحدود الشرعية في الستر، والكلام مع الآخرين.
- عدم ارتكاب المحرّم أو ما يؤدي إليه.


[1] سورة النساء، الآية 1.
[2] سورة آل عمران، الآية 195.
[3] يراجع: القيامة، الآيات 36-39، والمؤمنون، الآيات: 12-14.
[4] سورة الحج، الآية 65.
[5] سورة لقمان، الآية 20.
[6] شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، مسائل حرجة في فقه المرأة، الستر والنظر، ص9- 19 المؤسسة الدولية للنشر، بيروت: ط4، 2011م.
[7] شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، مسائل حرجة في فقه المرأة، الستر والنظر ، مصدر سابق، ص20.
[8] مطهري، مرتضى، نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص104، مؤسسة الإعلام الإسلامي، 1985م.
[9] الخامنئي ، الإمام علي، دور  المرأة في الإسلام، ص13، نسخة الكترونية.
[10] الخامنئي، الإمام علي، دور المرأة في الإسلام، مصدر سابق.
[11] من حديث للإمام الخميني في قم، 1/2/1980.
[12] من حديث للإمام الخميني بتاريخ، 29/3/1979.
[13] من حديث للإمام الخميني في قم 6/3/1979.
[14] الخامنئي، الإمام علي، دور  المرأة في الإسلام، ص،12، نسخة الكترونية.
[15] الينهوم، الصادق، الحديث عن المرأة والديانات ص49 مكتبة الينهوم، سلسلة الدراسات.
[16] مجلة الحياة الطيبة، العدد 18، خريف2005، ص247 اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة دراسة فقهية قانونية، فريبا علا .

أضيف بتاريخ: 12/07/2022