مقالات

المفاهيم التربويّة في أدب الأطفال

المفاهيم التربويّة في أدب الأطفال

سلوى صعب[1]

عندما أطلق "بن غوريون"- هو أوّل وزير للكيان الصهيوني- مقولته الشهيرة: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، في إشارة منه للأجيال الفلسطينيّة القادمة بأنّها ذات شتات ولجوء ستفكّ عُرى ارتباطها بأرض فلسطين، أرض الآباء والأجداد. ولكن وبعد دهر من الاحتلال، ما نزال نشاهد طفلا أعزلًا يواجه عتوّ آلة حربيّة مدمّرة، بحجر يحمله بين يديه الطريتين العاريتين، وأمًّا تواجه بجرأة وشجاعة محتلّا مدجّجًا بالسلاح...

فما الذي حفظ هذا الوعي المقاوم، في عقول الأجيال، بعد مضي أكثر من سبعين عامًا على النكبة؟

لا مبالغة في قول إنّ الكلمة أسهمت إلى جانب البندقية في حفظ هذا الحقّ، وأبقته حيًّا ينبض في القلوب التوّاقة للحريّة، ولم يستطع غبار الزمن المتراكم محو هذا الحقّ، ولا جرائم الاحتلال كيّ هذا الوعي، وإطفاء لهيبه، فخاب ظنّ المؤسسين للكيان الغاصب عندما توهّموا بأنّ الشتات سيصيب القضية كما أصاب أهلها، وأنّ أجيال اليهود الغاصبين الطارئين على أرض فلسطين، سيكونون أكثر ارتباطًا ورسوخًا في "أرض الميعاد".

هذا، وتحتاج المقاومة إلى مرآة نقيّة تعكس فكرها وإنجازاتها، وأدب المقاومة الإبداعي يستطيع أن يكون هذه المرآة. فقد حمل لواء هذا الأدب كتّاب وفنانون ومربّون، انبروا للمقارعة بالقلم وبالريشة وبالطبشور، فأسهم جهادهم "الناعم" في إذكاء روح النضال والجهاد، وإبقاء الشعلة مضاءة، عصيٌّ إطفاؤها. وهذه الجهود مجتمعة، خصوصًا في مجال الأدب عزّزت ظهور صنف من الأدب تبلور مواكباً القضية، واصطُلح على تسميته بالأدب المقاوم.

أسهمت الذاكرة الشعبية، والمنقولة على لسان كلّ جدٍّ، وأبٍ وأمٍّ أن تغرس في وجدان الأبناء، جيلًا بعد جيل؛ حكاية قبل النوم، أو وصيّة قبل الممات، أو مفتاحًا متوارثًا لبيت مغتصب، غرسة الرفض والأمل بالتحرير، وتربية أجيال من المجاهدين والشهداء على طريق القدس، في أكثر من قطر عربي وإسلامي.

********
"هنا على صدوركم باقون كالجدار
نجوعُ، نُعرّى، نتحدّى
ننشدُ الأشعارَ
ونملُأ الشّوارعَ الغضابَ بالمظاهراتِ
ونملأُ السّجونَ كبرياءً
ونصنعُ الأطفالَ جيلًا ناقمًا
وراء جيل..."
[2]
********

يُعرّف الكاتب والناقد المصري "السّيد نجم" أدبَ المقاومة بأنّه" "أدب الجماعة الواعية بهويتها من أجل الحرّية، في مواجهة الآخر العدواني، من أجل الخلاص الجمعي." إذ يتمحور أدب المقاومة، في بداية رواج المصطلح تاريخيًا، حول كلّ ما كُتب من أدب في القضّية الفلسطينيّة وفي إطار الصراع العربي-الإسرائيلي، سواء باللّغة العربيّة أو بغيرها، أكان الكاتب فلسطينيًا أم عربيًا أم أجنبيًا. ومشروع المقاومة مشروع فكريّ ثقافيّ دينيّ، وحاملو لوائه يجب أن يتحلّوا بالقدرة على إقناع البيئة المحيطة أولًا، والبيئة الأوسع بصوابية هذا الخيار؛ ذلك لأنّ المقاومة تحتاج إلى جبهة خلفيّة مجتمعيّة تحمي ظهرها وتشيّع فكرها.

تشير مصادر، في الأدب الفلسطيني، إلى أنّ أوّل من اعتمد في عصرنا الحديث مصطلح "أدب المقاومة" كان الشهيد الروائي غسان كنفاني، في كتابه "أدب المقاومة في فلسطين"،و الذي يتناول المرحلة ما بين 1948 -1966. وهو أدب بدأ يُكتب بعد عام النكبة، بأيدي أدباء ولدوا ونشأوا في فلسطين قبل النكبة، وعايشوا أحداثها، وتفتحت تجاربهم الأدبيّة المبكرة على وقعها، فأسّست هذه الكتابات المفهوم الجديد للأدب المقاوم.

لا يعني ذلك أنّ هذا النوع من الأدب لم يُعرف له مثيل في تاريخ الشعوب، فقد وُصفت الثورات ومواجهة الظلم والاحتلال عبر العصور وفي مختلف البلاد بالمقاومة، فظهر أدب الحرب وأدب المعارك. ومع المقاومة والثورة تحدث انتصارات، يواكبها روّاد الأدب بما تجود به أقلامهم من شعر أو نثر، يخلّد نضال الشعوب وأبطالها، فالنتاج الأدبي منذ القدم يحفل بالكثير. ويبقى اصطلاح أدب المقاومة المستحدث أكثر شموليّة من أدب الحرب، ويمكن وصفه بأنّه الأدب الملتزم بالقضايا المحقّة للشعوب.

في مصر، وبعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، برز هذا النوع من الأدب في روايات أدباء مصريين أمثال: إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي... ومع انتهاء الحرب خبا في مصر ليبرز أكثر في فلسطينن فانبرت أقلام تمجّد العمل المقاوم، وكان الشعر هو الغالب على هذا النتاج الأدبي الذي تحوّلت كلماته إلى أناشيد تستنهض الهمم وتحثّ على المقاومة، وترفع الشهداء والمجاهدين إلى مصاف القدّيسين والأولياء. 

مع انطلاقة المقاومة في لبنان، عقب الاجتياح الصهيوني في العام 1982، وبعد خروج المقاومة الفلسطينيّة من بيروت، انطلق أدب المقاومة مع ميل أكبر للسرد الّروائي والقصصي بعدما كان غالبًا نوعه الشعري. وعلى درب "غسان كنفاني" الرّاحل سار أدباء من أمثال : عبد المجيد زراقط وعلي حجازي، كتبوا القصة القصيرة، والرواية، وقصة الطفل. ومع تشكل نواة لمقاومة لبنانيّة إسلاميّة  ظهر نمط من الكتابة شكّل نواة لأدب إسلامي مقاوم، إلا أنّه لمّا يأخذ مكانته حتى الآن على ساحة الأدب المقاوم، لأنّه يقع في الغالب بالمباشرة، وتقديم الشخصيات المقاوِمة بقالب من المبالغة، تصل إلى حدّ الكمال والتقديس.

هذا لا يعني انتقاصًا للتضحيات الجسام التي بُذلت، إنّما إلفات للانتباه إلى أنّ هؤلاء المقاومين ما هم إلا أناس عاديون يعيشون بيننا، يحبّون ويكرهون، يخطأون ويصيبون، إلّا أنّ لهم من الشجاعة ما يفوق أقرانهم والآخرين. يقول، في هذا الصدد، الأستاذ والناقد علي زيتون: "المقاوم هو إنسان، إذا جرّدناه من جسده نكون قد جعلنا منه مومياء لا قيمة لها أو إنسان آلي يقاوم، أرى أنّ النّص المقاوم في قصة أو في رواية أو في نص شعري يجب أن يقدّم هذا المقاوم بنفسه إنسانًا له جميع نوازع البشر..."[3].
كما توجّه أدب المقاومة للكبار كان للصغار نصيب منه، لا سيّما وأنّ الاحتلال لم يوفّر الأطفال من مجازره، في فلسطين ولبنان؛ فكان الأطفال أبطال قصص حقيقيّة، تُنقل إلى عالم القصّ والأدب. فأدب الأطفال درج، منذ عقود في الأدب العربي والعالمي، على طرح مواضيع تحكي قصصًا عن رفض الظلم والتعسّف والحثّ على مواجهته، ما يمكن أن يوضع في إطار مفهوم تربوي أدبي مقاوم موجّه للطفل. ولكن كانت شخصياته، في الغالب، حيوانات الغابة أو الحيوانات الأليفة، التي يتسلّط  فيها شرير معتدٍ على جماعة ضعيفة، فيظهر من يواجه الشرّير ويستنهض همم رفاقه، فيحصل الانتصار ويّقضى على المعتدي. كما ظهرت قصص يتسلّط فيها ملك على شعبه ويحرمهم حقوقهم، فيقوم أناس معارضون، "يقاومون" هذا التسلط والتعسّف، فتنتصر إرادة الضعيف، ويسود العدل والوئام.

مع صعود المقاومة في لبنان وفلسطين، بدأت تظهر قصص تتوجّه للأطفال والفتيان، تحكي حكايات الأبطال والشهداء، وترصد العمليات التي كانوا يواجهون بها المحتل الغاصب، ولكنّها بقيت محصورة في بيئة ضيقة، يصعب تسويقها وانتشارها على مستوى العالم العربي، إمّا لخصوصية توجهّها لبيئة المقاومة أو لمنع انتشارها من جهات عربيّة وغير عربيّة مناوئة للمقاومة، وتمنع من نشر أدبياتها وثقافتها وكلّ ما يعبّر عنها. إزاء هذا الواقع يواجه أدب الأطفال في فلسطين تحديًّا كبيرًا، في مقابل أدب الأطفال العبري الصهيوني، المرعيّ من الكيان الغاصب، والذي رُصدت له الأقلام والمال والخبرات على أنواعها. فقد وعى المؤسسون لهذا الكيان أهميّة تنشئة أطفالهم على تعاليم الصهيونيّة، وزرع أشكال الحقد كلّها في الصَّغار تجاه العرب، والتحريض على عداوتهم وبأنّهم -أي اليهود-هم أصحاب الأرض الحقيقيين، وأنّ لا حقّ للفلسطيني فيها.

حمل الأدباء والشعراء الفلسطينيون على عاتقهم التصدّي لهذه الهجمة التضليليّة، وحفلت كتب القراءة في الكثير من الدول العربية في أوجّ الصراع العربي- الصهيوني بالعديد من النّصوص الأدبيّة والشعريّة لكتّاب كبار من أمثال: إبراهيم طوقان، غسّان كنفاني، سميح القاسم، محمود درويش، توفيق زيّاد، وكمال رشيد  الذي ألّف مجموعة من الدواوين الشعريّة للأطفال.

تناولت قصص الأطفال الفلسطينيّة هذا الصراع مع العدو الصهيوني واسترجاع التاريخ العربي البطولي واستلهام البطولة والقوّة من حياة الآباء والأجداد، وانتقاد النماذج المنهزمة في المجتمع أو المتعاملة مع المحتلّ. ورغم عدم غياب قصة الطفل، في الأدب الفلسطيني، إلا انّ النتاج يعدّ ضئيلًا، بحسب قول الناقد جميل حمداوي: "إذا تصفحّنا كتاب فهرست اتّحاد الكتاب الفلسطينيين في القدس لسنة 1995م ، فإنّنا نجد من ضمن ست مئة عنوان ثلاثة عشر عنوانًا للأطفال فحسب، أي إنّ نسبة الإبداع الموجّه إلى الأطفال لا تتجاوز 2%  من نسبة الإنتاج الإبداعي الكلّي الذي يشمل إصدارات الكبار والصغار على حد سواء"[4].

من نماذج قصص الأطفال في هذا المجال ما كتبه الأديب الفلسطيني "غسان كنفاني"، والذي يعود إليه فضل إطلاق مصطلح "أدب المقاومة" على الأدب الذي اتخذ من الاحتلال واغتصاب الأرض والتشريد والنزوح مواضيع له. فقد كتب "كنفاني" العديد من القصص القصيرة، إلى جانب روايات كان جلّها، إن لم نقل كلّها، يُتّفق على أنّها من أدب المقاومة. فبعض قصصه القصيرة، كان أبطالها أطفال يشبهونه يوم كان طفلاً، يوم نزح وأهله من فلسطين إلى لبنان، وانغرست في وجدانه المشاهد المؤلمة التي أثّرت في مستقبله وربّما خياراته، وأسهمت في تشكيل شخصيته المقاوِمة، وقد ذكر منها مشهد تسليم الرجال لسلاحهم قبل عبورهم إلى الشتات...

من قصص "كنفاني" قصة "ورقة من الرملة"، قصّة يرويها الطفل الذي كانه الراوي، يوم حدثت تلك المجزرة في مدينة "الرّملة"، يوم صفّ جنود الاحتلال سكّانها على جانبيّ الطريق تحت شمس لاهبة. القصة مأسويّة في انطلاقتها، فالطفل/الراوي شاهدٌ على قتلٍ بدم بارد لطفلة فلسطينيّة على يد مجنّدة يهودية، وهي واقفة بين يدي والدها أبي عثمان، حلّاق "الرّملة" الذي عندما اندلعت حرب فلسطين باع كلّ شيء، واشترى أسلحة، وزّعها على أقاربه ليقاتلوا المحتلّ، كما حوّل دكانه إلى مخزن للمتفجرات. يقول كنفاني عن طفلة "أبي عثمان" أنّها ابنته الأخيرة، ما يوحي بأنّه قد خسر أولاده الآخرين في زمن سابق لزمن السرد.

مأساة "أبي عثمان" لم تنتهِ هنا، فما إن حمل جثّة ابنته لدفنها، وخرج من مكان الحدث مبتعدًا، غير ناظر للطفل/الراوي عندما مرّ به، حتى قتل جنديٌّ آخر زوجة "أبي عثمان" الذي عندما عاد واجه مأساة أخرى، وتكرّر مروره حاملا هذه المرّة جثّة زوجته، غاب لدفن زوجته، ثم عاد ليقف في الصّف على الطريق بين أهل الرّملة، ولكنّه بمروره الأخير هذا أمام ناظريّ الطفل/الراوي التفت نحوه ونظر إليه نظرة حملت الكثير من المعاني، كما يشير النصّ. وتنتهي القصة بإعلان ما قام به "أبو عثمان" من عمل بطولي، عندما اقتيد إلى مقرّ الضابط الإسرائيلي، وسِمع دويّ انفجار في المقرّ. فأبو عثمان عندما دخل دكّانه، لم يحضر فقط الخرقة البيضاء ليكفّن بها زوجته، إنما زنّر جسده بالمتفجرات التي كان يخفيها هناك. وبهذا الإعلان يفهم الطفل المعاني التي حملتها نظرة أبي عثمان في مروره الأخير، بأنّ الألم مهما كان شديدًا، لا يجب أن يصيب المظلوم بالوهن؛ بل يجب أن يكون حافزًا على الانتقام من الظالم لردع استمراره بالظلم.
 
ممّا لا شك فه أنّ الأدب الموجّه للطفل يحمل مفاهيم قيميّة؛ أخلاقيّة، تعليميّة، اجتماعيّة... ما يسهم في البناء الفكري والأخلاقي لشخصية الطفل مستقبلً.، هو بالمحصّلة يسهم في بناء الطفل تربويًا.

للوهلة الأولى، قد يتبادر للذهن بأنّ القصّة تقوم على حدث فيه قتل بدم بارد لطفلة وأمّها، قد لا يحمل مفهومًا تربويًا إيجابيًا، خصوصًا وأنّ الكاتب ينقل ما يجري من منظور طفل، يؤدّي شخصيّة الشّاهد النّاقل للحدث. ففي الحياة حدثٌ كهذا إذا أصاب طفلاً، لا بدّ يدفعه لأزمة نفسيّة وخوف تعقبه كوابيس، من الصعوبة بمكان الخروج منها من دون مساعدة متخصّصة.    

من خلال إشارات يمكن رصدها، تمكّن "كنفاني" من تقديم مفهوم المقاومة بشكل تدريجي  وغير مباشر؛ أبو عثمان المقاوم، في لحظات الفجيعة لم ينظر إلى الطفل/الراوي، مرّ ثلاث مرات من أمامه: في فجيعته الأولى بابنته، مرّ ذهابًا وإيابًا، لم يرد للطفل رؤية انكساره. وعندما نقل جثة زوجته في المرور الثالث، لم ينظر إليه. أما عند عودته التي عرفنا في نهاية القصّة أنه عاد مدجّجًا بمتفجرات أخفاها داخل ملابسه، بمعنى أنّه عاد مقاومًا ينوي الانتقام. تقصّد النظر للطفل ليرى الطفل نظرة الرفض التي لا يجب أن ينساها أينما حلّ في نزوحه وهجرته القصرية.

"كنفاني" نجح في تكثيف الإجرام والظلم الذي وقع على أبي عثمان، ليعطي للطفل المسوّغ الذي لا يقبل الشك للفعل الاستشهادي الذي قام به للانتقام من المحتلّ، وليتعلم الطفل، أي طفل، وأي قارئ، أنّ الظلم وسلب الحقّ يجب أن يقابل بأكبر التضحيات ليستعاد. وهذه هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة الأرض، هذا ما أراد قوله "كنفاني" في هذه القصة. ولـ"كنفاني" قصص عديدة في هذا السياق، فقد دأب في نتاجه في أدب المقاومة، والذي طبع مسيرته الأدبيّة القصيرة ولكن الغنيّة بترسيخ مفاهيم مقاوِمة، قدّمها بطريقته المبدعة التي نأت عن الإسقاط المباشر.

******
في قصّة للكاتبة اللبنانيّة "أميمة علّيق" بعنوان "أبي"، تقدّم المجاهد الذي يضطرّه عمله الجهادي للتغيّب عن تفاصيل الحياة المعتادة وكذلك المفصلّية في يوميّات أطفاله. الراوي في القصة طفل يسرد كيف كان والده غائبًا: خلال ولادة أخته، وحين مرضت، واضطرت الأم لنقلها إلى المستشفى، وفي عيد ميلاده، ولم يكن حاضرًا في عيد الفطر. وكان الجواب عن سؤال افتقاده في مثل هذه المناسبات، بأنّه يقوم بعمل مهم؛ لكي يهنأ الناس بمواليدهم الجدد، ولكي يحتفل الأطفال بأمان بأعياد ميلادهم، ولكي يفرح الناس بالعيد... ولكن والده في حضوره النادر بينهم في البيت، يعوّض أيّام الغياب بوقت ثمين مثمر مع طفله، فيلعب معه، ويحكي له قصص الأبطال والأعمال المهمّة التي يقوم ورفاقه بها، لكي يعيش الأهل والجيران بأمان وسلام. الطفل يفتقد والده، ولكنّه في نهاية القصة عندما تطلب المعلّمة منه ومن رفاقه أن يكتبوا قصّة عن بطل يعرفونه، يصعب ذلك على الرفاق؛ لأنهم مضطرّون للكتابة عن أبطال لا يعرفونهم، بينما هو سيكتب عن بطل يعرفه جيدًا، وهو والده.

قدّمت الكاتبة قصّة ذات مضمون تربوي راقٍ، للمرحلة العمريّة الثانية، عندما تكثر تساؤلات الطفل ويتّسع اهتمامه بما يجري حوله، وهي المتخصّصة بعلم النّفس، استطاعت بسلاسة أن تقدّم مفهموم المقاومة وتربطه بأحداث يومية يعايشها الأطفال، وتغذي بداخل الطفل مفهوم التضحية. فالطفل في القصّة يصبر على افتقاد والده وغيابه المتكرّر؛ لأنّ أباه رجل مهم، يقوم بأعمال مهمّة للصالح العام، لينعم آباء آخرون وأمهات وأطفال بعالم أفضل.

من الكُتّاب الذين كتبوا، في أدب المقاومة الموجّه للطفل، الشاعرة اللبنانيّة "أمل طنانة"، ولها مجموعة من النّصوص التربويّة القصصيّة وغير القصصية كالشعر والسيرة. وهي نصوص معتمدة في بعض المدارس، منها قصّة تتحدّث فيها عن مفهوم الوطن، تتساءل فيها طفلة عن الأماكن التي تحتمي فيها الكائنات التي تراها في عالمها الصغير، كالفراشة والنّملة والعصفورة... وعندما رأت ما حسبته فنجانًا من القشّ، وأرادت الّلعب به، هاجمتها العصفورة بمنقارها، فعرفت أن "فنجان القش" ما هو إلّا بيت ووطن للعصفورة، عندما تعرّض للاعتداء، بادرت العصفورة للدفاع عنه. وبحوار مع الجدّ فهمت الطفلة أنّ لكل كائن حيّز خاص به، يشكّل وطنًا يجب حمايته، وهي كائن من الكائنات ولها وطن، إذا ما تعرّض لاعتداء ينبري أبناؤه البررة للدفاع عنه، وبذل الغالي والنفيس لحمايته.

في الإطار القصصي، أيضًا، دأبت مجلّة "مهدي" التي تصدر عن "كشافة الإمام المهدي"، منذ انطلاقتها بنشر قصص مصوّره  وغير مصوّرة في هذا المجال، منها سلسلة المقاومون الخمسة. وهم فتية اعتادوا القيام بعمليات بسيطة، تزعج الاحتلال الذي كان جاسمًا على تخوم قريتهم. هذه القصص اتّسمت بالغالب بسمة الاستخفاف بالعدو والسخريّة من جنوده الأغبياء. وتقوم مجلّة "مهدي" بجهد لافت في تبنّيها لأدب المقاومة الموجّه للطفل؛ ففي مجلّاتها الثلاث التي تتوجّه لكلّ منها لفئة من فئات الأطفال، من الطفولة المبكرة إلى المرحلة الوسطى، حتى ما يصطلح على تسميته بسن المراهقة، لا يغيب عن أيّ منها مفهوم المقاومة.

 من المجلّة المخصصة للفئة العمريّة الأولى قصة مصوّرة بعنوان "مملكة الأرز الأخضر"، تحكي عن "إسرا" وهو مجنون كما تصفه القصّة. فهو يدّعي الملك في مملكة غير موجودة؛ لأنّها من صنع خياله المريض، ولكنّ "إسرا" (غير خفيّ بأنّ الإسم مجتزأ من كلمة "إسرائيل) وجد من يتبنّى إدّعاءه، ويساعده بتأسيس وطنه المزعوم، فاحتلّ فلسطين، وبعد أن تمّ له ذلك، أراد المزيد، فحاول احتلال "مملكة الأرز الأخضر"، والمقصود هنا "لبنان"، ولكن، وقبل أن يفرح بانتصاره، بدأ أهل الأرض بالدفاع عن أرضهم، وبعد سنين من الكفاح استطاعوا طرد المحتلّ. ومن مجلة "مهدي" سرد لقصّة غير مصوّرة، بعنوان "هكذا كان أبي" مستمدة من سيرة القائد الشهيد السيّد عبّاس الموسوي. الراوي فيها طفلُ السيّد عبّاس، نكتشف في نهاية القصة أنه الشهيد"حسين" الذي قضى معه ووالدته، يوم اغتالهم الغدر الصهيوني، بتفجير السيّارة التي كانوا فيها في السادس عشر من شباط سنة 1992. القصة تروي يوميات في حياة هذه الأسرة، يركّز النّص على مواقف تربويّة مهمّة بطلها الأب، هكذا كان كأب؛ لا يرضى أن يُطلب من الحرّاس أيّ خدمة خاصّة بالعائلة، فمهمّة الحرس -كما يؤكد الأب- حراسة منزل وشخص أمين عام الحزب، المسؤولية التي كان يشغلها السيّد، وليس من مهامهم جلب الماء للعائلة، كما تذكر القصة، أو أي طلب آخر...

الجميل بالقصّة أنّها تسرد لحظة الشهادة بصورة جميلة لا فجيعة فيها، ولا نار، أو دماء، أودخان:
 "كنّا في سيارة تسير بنا في وديان جبل عامل، ثم علا في الأجواء صوت طائرة، ثم صوت صاروخ، ثم اشتعلت الدنيا، فاغمضت عيني وشددت عباءة أمّي بيديّ، وغفوت بحضنها، وبعد قليل فتحت عينيّ، لأجد السماء تمطر مطرا خفيفا، وتتناثر الورود في كلّ مكان، وأبي وأمّي يمسكان بأيدي بعضهما بعضا، وعليهما ثوبان من حرير أبيض، ويا للمفاجأة! كان ثوبي أبيض كذلك، كان وجه أبي منيرًا دائمًا، لكنّه في الجنّة ازداد نورًا فوق نور".
القصّة تقدّم بهذه الصورة مفهومًا ناعمًا جميلًا للموت، هذا المفهوم الذي يحار الأهل والمربّون بتوصيله للطفل، ففكرة الموت عند الأطفال غالبًا ترتبط بالفقد والفجيعة والبكاء والألم، إلّا أنّ القصّة قدمته وكأنه سفر يسير وانتقال وتحليق نحو الجنّة.

********
"حجابك أختي أغلى من دمي" وصيّة شهيد لكلّ فتاة، تحوّلت هذه الوصيّة إلى شعار، من هذا الشعار استوحت الشاعرة والكاتبة "أمل طنانة" القصيدة الآتية:
دقّت على عمري مدى فَجري يداها
ترمي إلى قلبي شذًا يحكي شذاها
فإذا سنيني لونها ورد نديّ
تختال في زهو بأنوار رداها
******
عاهدت ربّي بالدّم المشتاق
والدّمع يهْمي من مُنى الأحداق
زهراء أنت النور في أعماقي
قنديل روحي من دجى أضواها
******
زهراء.. زهراء.. زهراء
صوت الشهيد بمسمعي يوصيني
صون الحجاب يصون وجه الدّين
هو من دمي أغلى، به تُهديني
عينًا تقِرّ به على علياها
******

أرادت الشاعرة ترسيخ أهميّة الحجاب في حياة الفتاة بشكل خاص، والمرأة بشكل عام. والحجاب هنا لا يقصد منه فقط غطاء الرأس، إنّما الحجاب بمعناه الشامل، "صون الحجاب يصون وجه الدين". ومن هذا المفهوم التربوي والديني والأخلاقي، ربطت الكاتبة الحجاب بالجهاد والشهادة؛ أعظم التضحيات بذل الدماء، ولكنّ الحجاب هو أغلى من هذه التضحيات، وهو الوفاء، الذي يريده الشهيد مقابل بذله وعطائه لتقرّ عينه في عليائه.
******
في قصيدة "المحرقة" للشاعر الشيخ خليل شقير، يتحدث عن طفلة صغيرة، مزّقتها قنابل الطائرات الصهيونيّة، وبقيت يدها المقطوعة ممسكة بمحفظة الكتب، تروي للأجيال مجازر الصّهاينة بحقّ الأطفال.
 يقول الشاعر:
ما زالت يدها ممسكة      في عروة محفظة الكتب
خشيت أن تفلت من يدها      وتحاسب من أم وأب
يدها الصفراء قد انقبضت   كبقايا الشّمع المضطرب
يدها من منكبها نزعـت وبقايا كمّ ملتهب
بالرّوضة كانت فاطمة      بالكتب بقايا من لعب
قلم ممحاة مــــــــبراة        ورقائق من خبز رطب
والّلوح الأسود منحطم       كفؤاد الأمّ المرتقب
فاطمة هذي واحدة       من باقةِ زهر مغتصب
كانت من قبل وبعد القصف  توارت والضوء الذّهبي


وظيفة أدب المقاومة الموجّه للأطفال ليس فقط بثّ روح التصدّي من خلال عرض البطولات والانتصارات؛ بل إنّ عرض مجازر العدو بحق البشر والحجر والطبيعة مناسب لزرع روح المقاومة لردع هذا العتوّ والإجرام، ومنع تكراره. فالقوّة يجب أن تُردع بالقوة، ورسم صور المجازر في نصوص موجّهة للأطفال قد يكون سيفًأ ذي حدّين، قد يصيب الطفل بالرعب والاحباط ويتركه عرضة للكوابيس المخيفة. لذلك يجب تقديم بشاعة أفعال العدو بحنكة ودراية، فلا تعرض لوحدها من دون أن تقابل بفعل رادع لمنع حدوثها من جديد، كما حدث في قصة "ورقة من الرملة" سابقة الذكر.

وممّا نشر شعرًا، مقاومًا، موجهًا للطفل في مجلّة "مهدي"، هذا النشيد:
جبالنا تقاوم
وبحرنا يقاوم
والأرز، والأزهار، والحمائم
والعشب، والسّهول
والنّسائم
ماضون في دفاعنا عن أرضنا
وشعبنا المسالم
نحمل في أكفّنا
رايات نصر دائم
عدوّنا سيحصد الهزائم


في هذا المقطع تأكيد على أنّ فعل الدفاع عن الحقّ ومقاومة الشر هو فعل جماعي، تتآزر فيه مكوّنات الطبيعة، وتلتحم مع البشر في هذا الفعل المقدّس. وفي هذا إشارة إلى أنّك أيها الإنسان المقاوم، الواقف إلى جانب الحقّ، لست وحدك في هذه الجبهة، فالله تعالى معك، سخّر مخلوقاته إلى جانبك، فما عليك إلا الصمود لتُحقّقَ النّصر. وما ردّ سيّد المقاومة، سماحة السيّد حسن نصر الله، على الحصار الحاصل على لبنان ومقاومته حاليًا، عندما قال كلاما بهذا المعنى إلاّ مصداق لهذا المفهوم، وهو مفهوم الأمل بالمستقبل الذي يحتاجه الأطفال لينموا أصحّاء، متفائلين بالغد الذي ينتظرهم.

لم يقتصر أدب المقاومة الموجّه للطفل على القصة والشعر فقط، بل تعدّاهما إلى المسرح والسّيرة، وما اعتادت المدارس الإسلامية في لبنان، كمدارس المهدي والمصطفى ومدارس أمل التربويّة، وغيرها في عرضه على طلابها من مختلف الأعمار، من أعمال مسرحية اتخذت من نضال المجاهدين مادة لعروضها، يصبّ في هذا المجال. وفي السّيرة، كانت سير القادة والشهداء الذين سلكوا طريق مقارعة المحتل في بلادنا منذ الاحتلال الفرنسي، حتى الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان: كأدهم خنجر وصادق حمزة، والشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي،وغيرهم من القادة والشهداء مادة لنصوص عديدة نشرت في كتب مستقلّة، أو ضمتها كتب مدرسيّة لمؤسسات تربويّة، تبنّت فكر المقاومة وقدّمته مخالفة للسائد في كتب التاريخ المعتمدة رسميًا من الدولة، والتي تغيب أو تغيّب فيها هذه الشخصيات التي ألهمت حركات المقاومة في العقود الأخيرة من تاريخ المقاومة.  
 
أدب المقاومة الموجّه للطفل ما يزال يفتقر لأقلام متفرّغة، مبدعة، تسهم في انتشاره وترسيخه، فالمحاولات والنماذج ما تزال خجولة، تحتاج لرعاية من جهات مقتدرة، تتبنّى هذا الفكر، ليواجه الهجمة الشرسة التي باتت أقوى حاليًا في ظلّ الإنجرار المذلّ نحو التطبيع مع العدو الصهيوني الذي تنتهجه بعض الدول المتخاذلة، والخطير في هذا المجال عمل هذه الدول على تغيير المناهج التربويّة، لتصبّ في هذا الإطا،ر الذي يضع أجيال العرب في خطر الابتعاد عن المفاهيم القيميّة الكبرى.


[1]  - كاتبة وقاصة لبنانيّة، وإعلاميّة سابقة، نالت بعض أعمالها الإعلاميّة والقصصيّة جوائز مختلفة.
[2]-  الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد
[3] -  في كلمة له في مؤتمر الأدب المقاوم، الانتقاد / تقرير ـ العدد 1120 ـ 29 تموز/ يوليو 2005‏.
[4] - أدب الأطفـــال في فلسطيـــن، جميل حمداوي، مجلة دنيا الوطن، 01-09-2009 .

أضيف بتاريخ: 17/08/2022