المقالات

الحرب الناعمة ودورها في تهديد الأمن المجتمعي

الحرب الناعمة ودورها في تهديد الأمن المجتمعي

الدكتور علي الحاج حسن

مقدّمة
يشكّل الأمن المجتمعي واحدًا من الأعمدة الأساسيَّة لحياة المجتمع واستمراره وأداءه الوظائف والأدوار المنوطة به، بينما يساهم تهديد الأمن هذا وإضعافه في وجود مجتمع تحكمه تحدّيات تمنعه من وظائفه، لا بل وتقضي على استقراره وثباته وتغيّر هويّته. وتؤدّي مجموعة من العوامل دورًا في تهديد الأمن المجتمعيّ ولعل من أبرزها الحرب الناعمة.

طبعًا يمكن البحث عن العلاقة بين المفهومين في مسألة القيم الجمعيّة التي يتوقّف عليها تشكيل الهويّة الجمعيّة، فكلاهما ينطلق من القيم الحاكمة والسائدة وكل تحوّل يحصل فيها نتيجة حرب ناعمة يفكّك منظومة الأمن المجتمعيّ والعكس صحيح كلّما عاش المجتمع استقراره وثباته المعرفي والقيميّ، كلما كان في منأى عن تداعيات تلك الحرب.

الأمن المجتمعيّ من جملة حاجات الإنسان الضروريّة وهو عبارة عن الحالة التي يتمكّن بواسطتها المواطن من الحفاظ على قيمه من دون وجود أيّ نوع من التهديدات والمخاطر وهو عبارة عن المأمن والملجأ للأفراد حيث يمكّنهم من ممارسة نشاطاتهم الاجتماعية بهدوء واستقرار. وإذا كان الأمن المجتمعي يحكي عن الهوية فهو يتشكّل في الأساس من القيم والثقافة والسنن الدينيّة والوطنيّة وغيرها من الأبعاد ذات العلاقة بالهويّة.

أمّا الحرب الناعمة فهي عبارة عن مجموعة الإجراءات والتدابير الثقافيَّة والسياسيَّة والاجتماعيّة المخطّط لها والتي تترك تأثيرها على قيم ودوافع وسلوكيّات الأفراد والجماعات ممّا يؤدّي إلى تغيّر السلوكيّات لمصلحة المهاجم[1]. وهي أسلوب من أساليب الحرب، تمتاز بجاذبيّتها وتستهدف عقائد وأفكار وقيم الأفراد والجماعات وتغيير بنية المجتمعات[2].

بين الحرب الناعمة والأمن المجتمعي: إذا كان الأمن المجتمعي يقع تحت تأثير حالة الاستقرار في القيم المعمول بها، فإن التغيير القيمي بأيّ وسيلة حصل بخاصّة إذا كان بالحرب الناعمة، يُمنع وجود حالة الأمن المطلوبة في المجتمع، وبالتالي فالمجتمع الذي يتمكّن من الحفاط على قيمه بعيدًا عن التحوّل، يحافظ على هويّته ووحدته وخصائصه ويبتعد عن الانحرافات والمشكلات[3].

تترك الحرب الناعمة الكثير من الآثار السلبيّة على مختلف نواحي الأمن المجتمعي، نشير فيما يلي إلى ابرزها:

- ضعف المعتقدات: يشهد العالم المعاصر طفرة واسعة في المدارس والاتّجاهات الفكريَّة والمعرفيَّة وكذلك الحركات المعنويّة، وقد أسهم العديد منها في التصويب على المعتقدات الدينيّة للمجتمعات ووضعها في هالة من الشك والإبهام وساهمت في سلب القداسة عنها كونها تؤسّس للأديان الوضعيّة التي يلعب فيها الإنسان دور المحور والمؤسس. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحرب الناعمة ودورها في توجيه مصادر المعرفة وتحوّل الاعتقادات والأفكار إلى ما ينسجم مع مصالح خاصة على وجه التحديد، يمكن عند ذلك القول وبوضوح انّ جزءًا كبيرًا من تشويه وإضعاف المعتقدات يعود إلى تداعيات الحرب الناعمة حيث قدم أصحاب الفكر المادي والأيديولوجيَّات الحديثة ما يتعارض مع المعتقدات والأيديولوجيَّات بخاصَّة الدينيَّة منها. وقد برزت أساليب وأدوات كثيرة في ذلك من أبرزها تغليف الأيديولوجيَّات الحديثة بمحوريَّة الإنسان وفاعليّته وقدرته على إيجاد النموذج الصالح للاعتقاد عدا عما يحقّقه من منافع ومصالح.

- التحول الثقافي: الثقافة بشكل عام عبارة عن مجموعة من المعارف والاعتقادات والقيم والأخلاقيّات بالإضافة إلى الأعراف والقوانين التي يكتسبها الإنسان كونه عضوًا في المجتمع وهي تحكي عن نوع من التكامل العمومي والإطار الفكري والمعنوي للمجتمع وعن أسلوب حياة خاص[4].

يحافظ المجتمع على استقراره وهويّته ما لم يطرأ تبدّل وتغيير على الثقافة السائدة، فالثبات الثقافي واحد من عوامل انتظام الحياة الجمعيّة، والعكس صحيح، فعندما تتعرّض الثقافة لعدم الثبات بواسطة الحرب الناعمة، تفتقد قيمتها الحقيقية فيستبدلها الناس بأخرى. في هذا الحال تتبدّل الهويّة، وهذا يعني أنّ الحرب الناعمة التي تغيّر الثقافة تترك تأثيرها على الأمن المجتمعيّ من باب تحوّل الهويّة نحو أخرى[5].

- الفوضى الاجتماعية: تساهم الحرب الناعمة في إيجاد الفوضى الاجتماعيَّة باعتبار أنّ تبدّل المفاهيم الحاكمة ونمط الحياة المعمول به وعدم قدرة الثقافة الحاكمة على تلبية المتطلّبات المعرفيّة والمعنويّة للناس، تؤدّي إلى انقسام المجتمع بين ملتزم بقيمه الخاصة وبين غارق في القيم والثقافات الواردة مما يساهم في سيطرة حالة من عدم الثبات عليه نتيجة التعارض بين القيم[6].

- فقدان الهويّة والغربة عن الذات: تساهم الحرب الناعمة في جعل الفرد يعيش حالة الانفكاك عن المجموع وفقدان الشعور بالانتماء والهويَّة، وقد أظهرت الدراسات الاستراتيجيَّة أنَّ ما تمارسه الولايات المتّحدة الأمريكيَّة من حرب ناعمة على المجتمعات يعزّز الشعور بالفردانيّة والتحرّر من المواثيق الجمعيَّة عدا عن شعور الفرد بدور آليّ صرف بعيد عن العلاقات الاجتماعيَّة وما يترتب عليها من تأثيرات. وعندما ينفصل الأنا الاجتماعيّ عن البيئة، يصبح الفرد غريبًا عن ذاته، فيختار الانزواء ويشعر بالعبثيَّة وعدم الاهتمام بقيم المجتمع[7].

- الفجوة بين الأجيال: من جملة التأثيرات التي تتركها الحرب الناعمة على المجتمع إيجاد فجوة واسعة بين الأجيال على المستوى المعرفيّ والقيميّ والرؤى والميول والسلوكيَّات، كون ما كانت تعتقد وتؤمن وتعمل به الأجيال المتقدمة، بات مستنكرًا ومرفوضًا عند الأجيال اللاحقة مما يساهم في شيوع الكثير من الانحرافات الاجتماعيَّة، ويفقد الجمع الهويَّة الخاصة وتفنى خصوصيَّاته في الثقافات الواردة عند ذلك يصعب الحديث عن مجتمع يمتاز بالثبات والاستقرار والهدوء.
  
الخاتمة:
اخيراً إنّ ما تفعله الحرب الناعمة في المجتمعات يُهدّد أساس وجودها كمجموعات منتظمة ذات هويَّة جمعيَّة ويُبني على أنقاضها مجتمعات أخرى تنسجم في كافة تفاصيلها مع متطلّبات الحداثة التي أخذت بالإنسان إلى الحضيض على المستوى القيمي الإنساني. ويبقى أن التعامل مع إفرازات تهديد الأمن الاجتماعي يتطلّب جهودًا جبّارة على مستوى إعادة الشفافيَّة للقيم ونشرها بأسلوب مدروس يمتاز بقدرته على محاكاة التحدّيات المعاصرة ويساهم في الرقي البشري. وهذا يقتضي إعداد الخطط والدراسات وفهم التحوّلات ومن ثم تقوية المناعة الذاتيّة فتتمكن المجتمعات من تجاوز تهديدات الأمن المجتمعي.


[1]  مدخل على ماهية وابعاد التهديد الناعم، محمد حسين الياسي، فصلية نكاه، العدد5، ص 12.
[2]   مفهوم واصول الحرب الناعمة واساليب مواجهتها، سنجابي شيرازي، فصلية رهنامه، العدد2، 121.
[3]  الأمن والانحرافات الاجتماعية، محبوبي منش، فصلية كتاب زنان، العدد 18، ص142.
[4]  نظريات الثقافة في القرن العشرين، حسين بشيرية، انتشارات طلوع، ص8-9
[5]  الشرق الأوسط الكبير والأمن الوطني للجمهورية الإسلامية، جلال الدين دهقاني، فصلية الدراسات الاستراتيجية، العدد3، ص492.
[6]  الأمن والانحرافات الاجتماعية، محبوبي منش، فصلية كتاب زنان، العدد 18، ص137.
[7]  علم اجتماع الانحرافات الاجتماعية، احمد بخارائي، طهران، ص287.

أضيف بتاريخ: 31/08/2022