مقالات عامة

الاستلاب الثقافي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الاستلاب الثقافي

السيد حسين قشاقش

 

يقول الله تعالى في كتابه الكريم، حاكيًا عن قضيّة خداع السامريّ لبني إسرائيل أن كان من أسلوبه ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾[1]، فالسامريّ أراد خداع الناس البسطاء، مستغلًا غيبة قائدهم النبي موسى عليه السلام، فلجأ إلى أسلوب من أساليب الفنّ وهو صناعة التمثال المجسّم، فصنع ذلك الجسد وجعل فيه ثقوبًا يدخل منها الهواء فتُصدر أصواتًا، ثمّ ما لبث أن ضلّ بنو اسرائيل وانقلبت لديهم القيم والمعايير فرأوا أنّ هذا الجسد هو الإله واقعًا، بعد أن كانوا يعبدون الله الواحد الأحد.

 

انطلاقًا من هذه الحادثة التي أشار إليها القرآن، فإنّ العدوّ اليوم يحارب الأمة المؤمنة بذات المنهج مستخدمًا أيضًا نسخة مطوّرة عن تلك الأساليب، فيعمل على تشويه المعايير والمبادئ لديهم مستفيدًا من وسائل الفن والإعلام الحديثة والمعاصرة، وهنا ينبغي التحذير من أنّ الهدف الأساس لهذا العدوّ هو فرض معاييره لتحلّ محلّ المعايير الإسلاميّة، ويمكن ذكر بعض خطواته بالترتيب التالي:

 

1- فرض المعايير:

يعمد العدوّ إلى ضخّ كمّ هائل من الدعاية (أفلام، كتابات، وسائل تواصل، ألبسة، نمط حياة...) لترويج معاييره وتثبيتها لدى المؤمنين، وبعد فترة قد يشتبه الأمر على بعض أو أغلب تلك الفئة المؤمنة فتصبح نقطة الأساس التي ينطلقون منها هي المعايير التي زرعها العدو بشكل ناعم، فإنّ سهم العدوّ إن أصاب هنا فإنّ ذلك سينعكس سلبًا على كل المراحل التالية مهما حاول المؤمن تعويضها. مثال ذلك، ما يروّج له العدوّ من لزوم المساواة مطلقًا بين الرجل والمرأة، في حين أنّ الإسلام الأصيل وزّع المهام بين الجنسين بما يتناسب وطبيعة كلّ منهما حسب ما يراه الخالق لهما، وشيئًا فشيئًا سيعمل العدوّ على تغيير القيمة الإسلاميّة الأصيلة ويزرع بديلًا عنها فكرته الغربيّة المصطنعة.

 

2- الاستدراج في محاكاة المعايير:

إذا نجح العدوّ في تغيير القيم الاسلاميّة وفرض معاييره، فإنّه لن يتضرر كثيرًا من بعض التعديلات المؤقّتة التي سيجريها المؤمنون على تلك المعايير، بل ربما يساعدهم في خلق بعض التعديلات ليشعروا أنّهم حقّقوا شيئًا مهمًّا في صدّ تلك الحرب الناعمة، فتبدأ الطروحات بين المؤمنين لأجل "ضبط" تلك المعايير الغربيّة، فمثلًا كيف يمكن للمرأة أن تنشد أنشودة أمام الرجال ووسائل الاعلام ضمن الضوابط الشرعية؟ وكيف يمكن للمرأة أن تعمل خارج منزلها وبعيدًا عن أسرتها وأولادها لساعات طوال يوميًّا ولكن ضمن الضوابط الشرعيّة! غير ملتفتين للدور الهام والرئيسي الذي شخّصه الإسلام للمرأة من خلال بناء الاسرة التي هي نواة المجتمع الحضاري.

وهكذا يبدأ الخطر حين يغفل المؤمنون عن تعاليم الإسلام الأصيل حول موقعيّة المرأة وجلالها وحصانتها التي تجلّت بأبهى صورها في نموذج سيّدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد - ويتبنّون معايير الغرب ورؤيته لحقوق المرأة ولكن مع بعض التعديلات في تلك الرؤية! حتّى وصل الأمر ببعض الشركات أن صنعت ثياب سباحة (مايو) خاص بالمحجبات!

 

3- الانزلاق التدريجي:

إذا نجح العدوّ في تصديع منظومة المعايير الأصيلة، وحصل استئناس النفس لدى المؤمنين بالتعديلات على المعايير الغربيَّة، يكون الغرب قد حقق كسرًا للحاجز الأساس ثم يبدأ الجمهور بحركة الانزلاق التدريجي شيئًا فشيئًا، فمن القبول بإنشاد المرأة لأناشيد إسلاميّة أمام الأجانب، إلى الإنشاد لبعض أغاني المطربين والمطربات تحت عنوان "ما فيها شي"، ومن التخلي عن العباءة كلباس أكمل إلى ارتداء اللباس الفضفاض ثمّ يبدأ اللباس بالضيق تدريجيًا فيقصر عند كاحل القدم ويضيق على أجزاء البدن وصولًا إلى عدم قدرتك على تمييز الفتاة المحجبة من غيرها سوى بستر الشعر فقط!

 

هذه ببساطة بعض أساليب عدوّنا اليوم، لقد عاد السامريّ بأساليب جديدة لا ينبغي أن تخفى على المؤمنين بخاصّة أهل البصيرة منهم، فالعدو حين يعجز عن المواجهة مباشرة فإنّه سيلجأ إلى التشويه، يقول تعالى ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[2] واللغو فيه هو محاولة تشويهه وتحريفه كما يفعل الغرب اليوم في ضرب قيمنا الأصيلة.

 

الحل، هو الانتصار في المواجهة من المرحلة الأولى، فينبغي على الفئة المؤمنة الالتفات إلى مكائد العدوّ الكامنة في وسائل حربه الثقافية الناعمة والتمسك بالقيم الأصيلة وعدم التنازل عنها وعدم مجاراة السوق، بل التصدي للمواجهة الناعمة عبر بترويج القيم الأصيلة والافتخار بها دون القبول بعقدة الدونيّة التي يريد العدوّ زرعها في أذهاننا والنصر والتأييد من الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[3].

 

والحمد لله ربّ العالمين

 


[1] طه، 88

[2] . فصلت، 26

[3] . محمد، 7

أضيف بتاريخ: 19/01/2023