الحرب الناعمة( القوة الجاذبة وأساليب المواجهة).

الحرب الناعمة( القوة الجاذبة وأساليب المواجهة)

د. غسان طه

تمهيد
الحرب بمعناها الشائع هي حالة صدام بين جماعات أو بين دول تستهدف القتل والتدمير والإخضاع والسيطرة بهدف تحقيق غايات لا تبلغها الجماعة المريدة للقتال إلا بها.
وقد تكون الحرب حرباً من نوع آخر لا تستخدم فيها آلات القتل المباشر أي السلاح والجيوش، كالحرب الدبلوماسية أو الاقتصادية أو النفسية.
ففي تعريف الحرب، هي حالة تناقض السلم وتستخدم مجازاً لأنماط من الصراعات والمنافسات، فيقال مثلاً: حرب الكلمات، والحرب النفسية، وحرب الإرادات، والحرب الباردة، والحرب السياسية، والحرب ضد الفقر والمرض .
وقد دخل في حيز الاستعمال مؤخراً مصطلح القوة الناعمة أو الحرب الناعمة، غير أن ما يجمع بينهما،مغايرتهما للحرب الصلبة أو الحرب الكلاسيكية. ما يعني أن إطارها الجامع هو الحرب النفسية.
ولذلك فإن القوة الناعمة تدخل ضمن هذا الإطار. وقد عرفها جوزف ناي بأنها القدرة على أن نحصل (أي أمريكا) على ما نريد بقوة الجذب وليس بالقوة المادية.
وعلى هذا الأساس سوف نعمد بداية إلى إجراء مقارنة سريعة بين الحرب النفسية والحرب الناعمة لا بكونهما منفصلتين بل لتبيان الخاص ضمن إطار العام الثاني أي الحرب النفسية.
1_ الحرب النفسية:
أ‌-    تعريف الحرب النفسية:
يعرف لينبرغر الحرب النفسية انطلاقاً من مفهومين ضيق وواسع. فهي في المفهوم الضيق استخدام الدعاية ضد العدو مع إجراءات عملية ذات طبيعة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية مما تتطلبه الدعاية.
أما في المفهوم الواسع فهي "تطبيق لبعض أجزاء علم النفس لمعاونة المجهودات التي تبذل في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية"   .
كذلك ورد في التعريفات: "هي الاستخدام المخطط المدروس للدعاية وسائر الأساليب الإعلامية المصممة للتأثير على الآراء والاتجاهات وسلوك المجموعات العدوة والصديقة".
ويطابق هذا التعريف ما ورد في قاموس المصطلحات الحربية الأميركية عام 1955 "أنها الاستخدام المدبر للدعاية أو لأية تأثيرات نفسية أخرى المعدة لإسناد السياسة السائدة بتأثيرات على عواطف ومواقف وسلوك العدو والفئات المحايدة والصديقة في وقت الطوارئ أو الحرب بحيث يتم دعم الوصول إلى الأهداف القومية" .
والحرب النفسية هي ذلك النوع من الحروب الذي تشنه الجماعات بالدعاية والإشاعة وتستخدم فيه كل وسائل الإعلام بقصد إثارة القلق والتوتر لدى العدو من أجل زعزعة الإيمان بالمبادئ والأهداف ببيان استحالة تحقيقها وإضعاف الجبهة الداخلية بإظهار عجز النظام عن تحقيق أهدافه وتشكيك الجماهير في قياداتها السياسية والعسكرية والتفرقة بين فئات الشعب، وبث اليأس في نفوس الجنود على الجبهة والميدان وإشاعة الذعر بينهم بالمبالغة في وصف القوة وانتصاراتها والتهوين من انتصارات العدو  .هي حرب معنوية تستهدف شخصية المقاتل وشخصية الأمة وغايتها تغيير سلوك الأفراد والجماعة من أجل تحللها واستسلامها والسيطرة عليها بعد تغيير الأفكار والاتجاهات والقيم والمعتقدات والرأي والسلوك .
ويذكر أن اصطلاح الحرب النفسية قال به لأول مرّة محلل عسكري بريطاني يدعى "خوللر" أورده في كتابه "الدبابات في الحرب" وذلك أنهم في الحرب العالمية الأولى نزعوا المواقع من الدبابات وركبوا بدلاً منها أبواقاً، كانوا يذيعون منها نداءات على جنود العدو للاستسلام، ويذكرون لهم أسباباً منها أن زوجاتهم في الجبهة الداخلية قد بلغ بهن تدهور الأحوال الاقتصادية أنهن صرن يمارسن البغاء وأن الأمراض السرية تحولت إلى أمراض عادية بين الأولاد، وكانوا يشتمون الجنود بأقذع أنواع السباب، ويستخدمون مختلف المعلومات عن الجبهة الداخلية ليطعّموا بها إشاعاتهم وأكاذيبهم واستخدموا الأسرى للنداء على جنود وحداتهم وكانوا ينادون الجنود بأسمائهم. ولهذا أطلق على الحرب النفسية من هذا النوع تسمية حرب الأبواق، وكانوا يسقطون المنشورات على الجبهة الداخلية التي تشكك في صمود قواتهم وإخلاص زعمائهم، وهو أيضاً سبب تسميتها بحرب المنشورات .
مع تقدم وسائل الاتصال تحولت الحرب النفسية إلى حرب إعلامية شاملة.

ب‌-    أساليب الحرب النفسية:
بهدف تحقيق الأهداف والغايات في التأثير على الأفكار والعواطف وأشكال السلوك تتبع الحرب النفسية جملة من الأساليب التالية: الدعاية، الإشاعة، التضليل الإعلامي، غسيل الدماغ، الغزو الفكري، الفكاهة والكاريكاتور، البلاغات والنداءات، إثارة الرعب، والفوضى، استعراض القوة وعرض الأسلحة، وتشويه الشخصية .
أما الوسائل التي تعين على استخدام هذه الأساليب فهي الوسائل السمعية والمرئية، كالإذاعة والتلفزيون والسينما، وأشرطة الفيديو والكاسيت ووكالات الأنباء والمواد المطبوعة من كتب وصحف ومنشورات، ومواد مصورة كالملصقات واللافتات والصور الفوتغرافيه والكاريكاتور، وكذلك من هذه الوسائل الخرائط والرسوم والمجسمات فضلاً عن وسائل الاتصال المباشر عبر الاتصال الشخصي والمسرحي والطابور الخامس .

2_ الحرب الناعمة:
الأسباب والغايات:
مع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت المستعمرات قد تحرر معظمها من السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية. وظهر عصر السيطرة الأميركية بعدما انقسم العالم بين معسكرين وتحول الصراع بين أمريكا والغرب وحلفائه من جهة، وبين منظومة الكتلة الشرقية التي يتزعمها الاتحاد السوفياتي. وقد قامت بين الكتلتين الغربية والشرقية حروب ساخنة وأخرى باردة بأدوات اقتصادية ونفسية وعقائدية.
غير أنه مع بداية التسعينات كان الاتحاد السوفياتي قد أعلن عن هزيمته. وبهذا الإعلان لم يعد هناك محل لإمكان بروز حروب عالمية جديدة لغياب المنافس ليحل مصطلح جديد هو العولمة بحيث أصبح كل شيء عالميَّ وشموليَّ النزعة وبرزت شعارات، من مثل الديمقراطية، الحريات، الرأسمالية العالمية، حقوق الإنسان، حماية البيئة، حقوق المرأة والطفل... الإرهاب العالمي، السلام العالمي وغيرها من شعارات يمكن استخدامها استخداماً ناعماً للإطباق على الشعوب وتسخيرها لخدمة السيد الأميركي الجديد .
كذلك ما يدفع أميركا إلى استخدام الحرب الناعمة أن النصر العسكري لا يعني دوماً تحقيق نصر سياسي بل قد يؤدي إلى مقاومات وازدياد كراهية الشعوب لأمريكا،
ازدادت على غرار ما حدث أثناء احتلال العراق وأفغانستان حيث كراهية الشعوب لأمريكا فضلاً عن إثارة الغضب لدى شعوب أميركا وأوروبا نفسها. كذلك هناك سبب لا يقل أهمية في اتباع الحرب الناعمة وهو تخفيف الخسائر البشرية والنفقات العسكرية التي تدفع إلى الجمود في الاقتصاد الأميركي نفسه.
لقد أدرك الغرب عمق أزمته العسكرية والثقافية والاقتصادية وأحس بعجزه عن فرض سياساته بالقوة وتراجع مركزيته وظهور مراكز عديدة غير غربية كالصين واليابان فضلاً عن أن الجماهير وخصوصاً في بلدان العالم الثالث باتت أكثر صحوة، ونخبها أكثر حركية وصقلاً وفهماً لقواعد اللعبة الدولية. وأدرك كذلك أن تخلّف شعوب آسيا وأفريقيا يجعلها غير قادرة على الاستهلاك ، ولا يمكن استيعابها إلا بعد أن تتقدم لتصبح شبه متقدمة وشبه مستهلكة.
كان لا بد والحال هذه أن تظهر رؤية جديدة من خلال خطاب جديد يستوعب الإدراك الغربي للتكلفة العالية للمواجهة. وهنا ظهر ما يمكن تسميته الاستهلاكية العالمية، قوامها تحويل العالم إلى ساحة كبيرة تسودها قوانين العرض والطلب وتعظيم المنفعة المادية  وتحويل العالم إلى مصنع وسوق وملهى ليلي.
لتحقيق هذا قرر الغرب اللجوء للإغراء والإغواء بدلاً من القمع والقسر، والاستفادة من التفكك لضرب التماسك الداخلي ، إي أن التفكيك والالتفاف أجدى وأرخص من التدمير والمواجهة. وآليات الإغواء عديدة من بينها إيهام الآخر ، أي أعضاء النخب المحلية الحاكمة التي تم تغريبها بأنها شريكة في عمليات الاستثمار ونهب الشعوب ، كذلك يتم الإغواء للشعوب نفسها عن طريق  وسائل الإعلام العالمية، وبيع أحلام الاستهلاك الوردية أو عن طريق النخب المحلية، يترافق ذلك مع عمليات فتح الحدود وتفكيك الدولة القومية وحلول المنظمات الدولية، وإثارة الأقليات ومشاكل الحدود، وتفكيك الأسرة باعتبارها الملجأ الأخير للإنسان، والحيز الذي يحقق المجتمع داخله استمرارية الهوية والمنظومة القيمية .  
وسط هذه الرؤية ثمة افتراض كامن بأن المجتمع الأميركي، الذي حقق أعلى مستويات الإنتاجية والاستهلاكية لأعضائه، لا بد أن يصبح القدوة والمثل الأعلى.
ولكن كل هذه الآليات والأهداف تصب في هدف واحد هو ضرب الخصوصيات القومية ، والمرجعية الأخلاقية حتى يفقد الجميع أية خصوصية وأية منظومة قيمية ليصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية لا تكف عن الإنتاج والاستهلاك دون أية تساؤلات، وليظهر إنسان استهلاكي أحادي البعد يحدد أهداف كل يوم، ويغير قيمه بعد إشعار قصير يأتيه من الإعلانات والإعلام، إنسان عالم الاستهلاكية العالية الذي ينتج بكفاءة ويستهلك بكفاءة ، ويعظّم لذته بكفاءة حسب ما يأتيه من إشارات وأنماط، هذا هو الحل النهائي في عصر التسوية، الذي حل محل الحل النهائي لعصر التفاوت، فبدلاً من الإبادة يظهر التفكيك من الداخل.
3_ مقارنة بين الحرب النفسية والحرب الناعمة:
استناداً إلى أحد التعريفات الواردة حول الحرب النفسية انطلاقاً من هدفها وهو التأثير على مواقف وعواطف وسلوك المجموعات العدوة والصديقة، نجد أن عملية التأثير تنطلق من الأخذ بعين الاعتبار مداخل ثلاثة هي: الموقف ومدخله العقل، العواطف ومدخلها الوجدان والشعور، والسلوك ومدخله الجسد.
كذلك فإن القوة الناعمة أو الحرب الناعمة بوصفها تعتمد على قوة الجذب فإن مداخلها أيضاً هي العقل والوجدان والسلوك، مع وجود فارق بأن هذه المداخل وسيلتها في الحرب النفسية الترغيب والترهيب خصوصاً، في حين أن القوة الناعمة وسيلتها الترغيب فقط، ومن الأمثلة على ذلك:
ـ العقل في الحرب النفسية: يتم الأخذ بعين الاعتبار مركوزاته وطبيعة وظيفته في الحكم على الأمور ومقارنة مصلحة الذات ومصلحة الجماعة. فخوض الحرب الدفاعية على سبيل المثال وبحكم منطق العقل يجب خوضها للدفاع عن الكرامة وعن المكتسبات والمقدسات. والحرب النفسية الموجهة نحو مركوزات العقل تستهدف جعله عقلاً تبريرياً جراء الإحساس بالضعف وعدم جدوائية المواجهة جراء تأثره بالدعاية والركون إلى الاعتراف بقدرة العدو حتى ولو كانت وهمية.
أما العقل كمستهدف في الحرب الناعمة فإنها تنطلق في تحفيز مركوزاته القيمية من مورد الجذب وليس التهديد واستعراض القوة وجعله عقلاً تبريرياً يهدف إلى تبرير عدم القدرة على المواجهة، فنشر الديمقراطية، والسلام والعدل والرفاه والخير مفردات يركن إليها العقل. لذا فإن استخدامها استخداماً جاذباً يستهدف الاعتراف بالخصم ليس كعدو وإنما كآخر يريد الخير العام، فلا بد والحال كذلك من دفع المستهدفين نحو الانشداد الطوعي والإرادي المفعم بالإقدام والتحفز الإيجابي وليس السلبي.
ينطبق الأمر على الاستهلاك الذي غالباً ما يعتمد على قوة الجذب فالمستهلك، وطبيعته مستهلك رشيد، ينفق على السلع وفق المنفعة التي يريدها من السلعة وبأقل كلفة في حين أنه بقوة الجذب عن طريق الترويج والإعلان الذي يدفع الإنسان إلى محاكاة العصر والانتماء للحداثة لا يصده عقله والحال كذلك بالنسبة إلى إنفاق المال الوفير في اقتناء السلع انطلاقاً من مردودها العصري والاجتماعي وليس وفق المنفعة أو القيمة التبادلية.
الوجدان وهو مستوى المشاعر والأحاسيس كالمحبة والكره والخوف والقلق والرعب. الحرب النفسية غالباً ما تستهدف إثارة الخوف والقلق والرعب بهدف شل الإرادة والإحساس بعدم القدرة والعجز والتسليم.
بينما الحرب الناعمة لا تستهدف غريزة الخوف والرعب والقلق بقدر ما تستهدف التبديد الواهم لهذه المشاعر؛ فالتركيز على الوئام والديمقراطية والسلام والعدل تثير مشاعر سارة في النفوس، ولأنها كذلك فهي تدخل في مضامين  هذه الحرب.
وفي عالم الاستهلاك فالترويج للسلعة لا يستهدف الدافع البيولوجي للإنسان الذي ينفق وفق حاجته بل عليه أن ينفق وفق ما يروجه المنتجون، ولذلك تعتمد العملية الترويجية للسلع على الدوافع النفسية كالتقبل الاجتماعي، وإرضاء الذات إرضاءً نفسياً يثير مشاعر سارة تتجاوز الحاجة البيولوجية وتتجاوز المنفعة لأن الناس لا يستهلكون دوماً ما ينفعهم وما يوفر عليهم من المال وهو ما يُروج له في عالم الموضة والملابس وحتى في الطعام والشراب وأساليب الرفاه بل حتى المضرة منها كالكحول والدخان وغيرها.
ـ الجسد: وهو مستودع الحركات والسلوك الظاهري الناتج عن العقل والوجدان؛ فالمحارب الذي تشل يده قبل الذهاب إلى الحرب والقائد المنكفئ في ساحة الحرب إنما سلوكها قد ينبع من تأثير الحرب النفسية كتعبير عما اعتمل في العقل والوجدان.
في الحرب الناعمة يراد للجسد أن يكون منمطاً في سلوكه كما الآخرين تنميطاً يحاكي الحداثة وفق النمط الأميركي، تنميطاً مشفوعاً بالإقدام وليس الانكفاء، وبالطلب وليس بعامل الضرورات. نموذجه نوعية الطعام واللباس وتسريحة الشعر وأنواع العطور وقواعد الرشاقة والموضة التي لا تنتمي إلى روح العصر بقدر ما تنتمي إلى عالم الربح والمال وعالم التنميط في ثقافة الجسد وفق النموذج الحضاري الغربي انطلاقاً من مفاهيم الحق والحرية كحقوق طبيعية وليس كحقوق متعالية مصدرها الدين والوحي  لا سيما  في المجتمعات التي لا تزال تدمج بين الحقوق والأخلاق، بما ينعكس على سلوك أفرادها.
مثالاً لا حصراً الإجهاض، وكشف الجسد، والزواج المدني والإسراف والقمار، وغيرها التي تنتمي وفق الحضارة الغربية إلى عالم الحقوق الطبيعية في حين تكون غير ذلك في المجتمعات الدينية لكونها تصطدم مع الأخلاق كقيمية متعالية.

استناداً إلى التعريف الذي أدلى به جوزف ناي حول الحرب الناعمة أو القوة الناعمة نستطيع القول إن القوة الناعمة هي أحدى وسائل الحرب النفسية غير أنه نظراً لإعطاء القوة الناعمة هذا البعد كأحد الخيارات المهمة وكاستراتيجية يتعين على السياسة الأميركية اتباعها في بلوغ الأهداف عن طريق القوة الجاذبة تحديداً، يمكن إدخالها في نطاق محدد باعتبار أن الحرب النفسية وإن كانت حرباً بلا حراب، ولكنها تستخدم أساليب ناعمة وقذرة في آن معاً كالتهديد والحصار الاقتصادي، وبث الإشاعات وغالباً ما تستهدف التأثير على المعنويات.
في حين أن القوة الناعمة تستخدم أساليب لا ينبغي لها أن تواجه بالرفض والاستنكار بل تعمل على استمالة الجماعات المستهدفة واندفاعها نحو الأهداف المطلوب تحقيقها.
وهي تستخدم في هذه الحال نفس الوسائل المستخدمة في الحرب الناعمة مع اختلاف الأساليب المتبعة في هذا المجال، انطلاقاً من مراعاتها قوة الجذب حتى ولو عن طريق الخداع.
فكما للحرب الكلاسيكية أدواتها متمثلة بمختلف أنواع الأسلحة الحربية كذلك للحرب الناعمة أدواتها ونجومها وهي الشركات الصناعية الكبرى ورجال الإعلام وشركات الإعلان والتسويق ومراكز المال والبحوث ورجالات المخابرات وهؤلاء هم الذين يسيطرون على مراكز القوة في العالم. الهدف النهائي لهؤلاء هو الفرد العادي يسعى الجميع إليه بالإقناع حيناً وبالخداع حيناً آخر والمهم الحصول على موافقته وضمان رضائه مدفوعاً إلى أهدافها دفعاً عبر إخضاعه لمظاهر التأثير والغوايه والتضليل من صنّاع المال والإعلام ووسائل الاتصال.
4_ سنن التغيير:
التغيير هو سنة المجتمعات البشرية التي ومنذ فجر التاريخ لم تستقر على حال. ومع أن عوامل التغيير ترتبط بظروف مواجهة تعقيدات الحياة، وأن مسار التغيير وشدته يختلف بين شعب وأخر، إلا أنه بات من البارز لدى علماء الاجتماع أن التغيير أول ما يطال الأنظمة السياسية والاقتصادية والجوانب القانونية. ولكنه يحدث بوتيرة إقل إبطاءً في النظام الاجتماعي لترسخ العادات والتقاليد والمعايير القيمية السائدة .كل ذلك حدث قبل ثورة عالم التكنولوجيا والاتصال. ولأهمية ثبات العادات والتقاليد والثقافة  السائدة كانت التجارب المريرة للأنبياء والرسل إزاء تحدي ثبات الأعراف السائدة في جمودها وتخلفها بحجة أنها عادات وتقاليد الآباء.
في عصرنا الراهن الناس هي من تطلب التغيير في منظومتها الاجتماعية. نلاحظ انه حتى الشعوب التي تقول بوجود غزو ثقافي  نجد أن هذه الشعوب ذاتها هي التي تبادر إلى تمثل الصيغ الجديدة. وإن صورة الرئيس  يلتسين  وهو يقف في مطلع التسعينات في طابور طويل في أحد شوارع موسكو كي يحصل على فطيرة هامبرغر في حفل افتتاح أول فرع لمطاعم ماكدونالدز في روسيا ، وهي صورة سوف تتكرر  في الرياض وفي الدار البيضاء  مع اليوم الأول  لافتتاح المطعم نفسه، وكأن الناس في عرس تاريخي يشاركون فيه كإعلان لدخول العصر الجديد. ولا يماثل هذه الصورة إلا صورة الناس في شوارع القاهرة وجاكرتا وهم على أحر من الجمر شوقاً لمشاهدة فيلم أميركي مثلهم مثل آخرين في باريس وبكين وطوكيو وغيرها من بلاد المعمورة.
لماذا تطلب الناس هذه الثقافة وتسعى إليها وتدفع لها المال وتخصص لها الوقت وطول الانتظار؟ هل بالإمكان القول انه ليس ثمة غزو ثقافي لأن الناس تطلب ذلك؟
لقد تقدم الحال في مجال إثبات ما لثقافة الصورة غير أن ثمة خصوصيات للبلدان التي تعد نامية وخصوصاً في عالمنا العربي الإسلامي هذه الخصوصيات  نابعة أولاً من حال الإخفاق في تحقيق تنمية حقيقته طال انتظارها لمدى ما يزيد على أكثر من نصف قرن من زمن الوعود بالعبور إلى حياة أفضل من مستويات الحرية ومجالات العمل والرقي ، إن الفشل في تقديم النموذج الحضاري الخاص بهذه المجتمعات يدفع بلا شك إلى استلهام نماذج أخرى وجدتها في نمط الحياة الغربية دون غيرها وإلا لماذا لم تقلد نماذج أخرى موجودة لدى حضارات وشعوب أخرى
لماذا  كل هذا النجاح  والتعميم للنموذج التملكي الاستهلاكي في مجتمعاتنا التي لا تنفك تعلن عن ارتباط قيمها الأخلاقية بمرجعية متجاوزوة.  
أ‌-    البعد النفسي للتملك والاستهلاك :
من أجل فهم طبيعة التملك والاستهلاك لا بد بداية من إدراج التملك الوجودي الذي نقف خلاله على هذه الحقيقة التي تعكس الطبيعة الأولى لتعاطي الإنسان مع ما يملك ويستهلك بغض النظر عن التملك المتجاوز  للتملك الوجودي حيث سنفرد له سطوراً لاحقة في مقاربته انطلاقاً من المعطى الحضاري وفي انتقاله الناعم إلى المجتمعات العربية والإسلامية .
التملك والاستهلاك الوجودي ينسجم مع حاجة الوجود البشري إلى اقتناء أشياء معينة يستخدمها من أجل البقاء من غذاء ومأوى وكساء وأدوات ضرورية للإنتاج. وهذا النوع له جذوره في الوجود الإنساني لارتباطه بدافع البقاء، وهو خلاف ما نرمي إليه من مقاربة الدوافع الأخرى للتملك والاستهلاك الذي ينشأ جراء الظروف الاجتماعية ومستجدات التطور.
في المعطى الوجودي وكأقدم أشكال التملكُ يقدَّم مثال الطفل في مرحلة من مراحل نموه، يميل أن يضع في فمه كل الأشياء التي يرغب فيها. وفي المعطى الاجتماعي والنفسي باتت توجد أشكال من التملك لدى إنسان. النزوع للاستهلاك اليوم هو نزوع لابتلاع العالم بأسره. الإنسان الاستهلاكي في عصرنا الراهن هو الرضيع الأبدي الذي لا يكف عن الصياح في طلب زجاجة الرضاعة التي باتت تعبر عن حاجة متجاوزة لحاجته الوجودية كتلك التي تتصل باستهلاك السيارات والسياحة والجنس.........وغير ذلك مما يخفف من القلق في عملية تدفع الاستهلاك إلى مزيد من عملية الاستهلاك لأن كل استهلاك سابق يفقد تأثيره الاشباعي.
 ب_ مرجعية الأخلاق: 
في عصر العولمة قد لا تختلف مظاهر الاستهلاك بين نمط حداثي  أوروبي وبين مجتمعاتنا قيد التحول للدخول إلى العصر الجديد.
ولكن في معرض المقارنة والمفارقة، التساؤل المطروح أن المجتمعات الغربية في نمطها الاستهلاكي تنسجم  مع الرؤية الكونية التي قدمها  فلاسفة  عصر النهضة  وعصر الحداثة وما بعدها. تلك الرؤية التي تحيل إلى المنظور المادي حيث الإنسان في بعده المادي غير المتجاوز للطبيعة المادية ، وحيث ليس ثمة غاية متجاوزة لوجوده المادي ، وبذلك سادت قيم اللذة ، والمنفعة، وحيث ليس للأخلاق المادية من مرجعية روحية متجاوز للإنسان ( أعنى الوحي).
في مجتمعاتنا الإسلامية لا تزال مرجعية  القيم الأخلاقية  مسنودة  في معظمها إلى نصوصها الدينية. كذلك تقدم هذه المجتمعات في تجربتها التاريخية  تأكيدها لقيم العمل من أجل الذات والآخرين وليس الذات الفردية وحدها، وتأكيدها لقيم الكرم والإنفاق المتجاوز للذات نحو الفقراء والمعوزين واستنكارها للجشع والبخل والإسراف والتبذير. بمعنى آخر ليست قيمة الإنسان بما يملك أو غايته الاستهلاك الجشع خلا ما يبرر لدى رجالات السلطة والمحظيين وأولئك المترفين.
في المجتمع الأوروبي لم يكن نمط الاستهلاك والتملك الجشع ليحدث إلا بعد أن غادرت هذه المجتمعات قيمها المسيحية الحقة. لم ينبذ الأوروبيون والأميركيون المسيحية باعتبارها لم تعد تتماشى مع روح العصر في التملك والمتعة والجشع والفردانية والمرجعية المادية للأخلاق، وإنما لأن الإيمان الديني يبقى مطلوباً للمحافظة  على روح الانضباط وكتعويض عن المحبة  التي يعجز عنها الشخص بتحويل المسيحي إلى وثن كأعظم من أحب عن الآخرين وبما يعوض عن عدم القدرة على استلهامه كنموذج.
ثمة فارق بين أن يكون الغرب مسيحياً وبين المرجعية الأخلاقية غير المتجاوزة للمادة. ولقد كان الغرب وما يزال في نزوعه نحو التملك والاستهلاك أميناً لقيمه المادية بعدما استطاع الفصل بين الإيمان الديني وبين القيم المادية كمرجعية للسلوك.
أما في العالم الإسلامي ومع أنه لا يمكننا الجزم بأن المسلمين يمارسون علاقاتهم وتعاطيهم مع ظروف الحياة انطلاقاً من العقيدة ومن التشريع الديني بما ينبغي أن يكون، مع ذلك فلا مناص من القول إنه من الصعوبة بمجال القول أن مرجعية القيم والأخلاق لا تنطلق من مرجعية متعالية . رغم ذلك لماذا هذا النزوع الكبير والمتسارع نحو استلهام الغرب في نزوعه الاستهلاكي التملكي؟
بما أن الغرب لم يفرض علينا أن نكون مستهلكين وفق نموذجه المشبع بالقوة وبالإكراه وإنما بالتزيين والدعاية والوعود وبالرفاه والسعادة ما يعني بالأساليب الناعمة التي توسلها في مجتمعاته وفي مجتمعاتنا في آنٍ معاً.
الوعود بالرفاه والسعادة ترافقت في الغرب مع الانعتاق من العصور الوسطى ومع جشع الشركات الإنتاجية لتحقيق المزيد من الربح والثروة. وهذه الأخيرة تصح على محاولة استحواذه على مستهلكي العالم برمته مع فارق حضاري هو الرغبة في السيطرة وإخضاع العالم لتأكيد نموذجه الحضاري النموذج الرأسمالي كنهاية لتاريخ التطور البشري.
ج- اللباس بوصفه قيمة حضارية
اللباس من أقدم الصور البشرية التي استخدمها الإنسان في وظائف عديدة. قد لا نتخيل ولو لمرّة واحدة لماذا يرتدي الإنسان اللباس. لماذا لا يمشي الناس عراة؟ لماذا كل هذا الاستهجان الذي يظهر من الناس إزاء رؤية الآخر  يرتدي لباساً يكشف من الجسد أكثر مما يستر؟ وبالتالي لماذا  كل هذا التفنن بارتداء اللباس؟ وما هي القيمة الثقافية والحضارية للباس في عالم ما بعد الحداثة ، وفي عالم الاستهلاك، والدعاية الناعمة؟
حين نقرأ اللباس في منظور علم الاجتماع وعلم النفس لا نقرأه بوصفه قيمة معاشية ضرورية، وإنما بوصفه صورة ثقافية لها معانيها ودلالاتها بعضها جمالي تزيني وبعضها حربي لإحداث الرعب بين الأعداء وبعضها ديني أو ثقافي يعبر عن انتماء ما وعن هوية ما حيث يكشف عن اللابس وجنسه وطبقته الاجتماعية وبلده وعن حاله الثقافية والمادية والحضارية، وقد يستعمل للإيهام ويكون حينذاك مجازاً أو خداعاً أو مواراة ومواربة.
صحيح أنه في التفسير الدلالي المقرون بالنصوص الدينية أن آدم وحواء  وضعا ورق التوت على عورتيهما  بعد ارتكاب الخطيئة بعد ما علما معنى الاستحياء وهما زوجان ولم يقيد لأحد من البشر أن يراهما بعد. كذلك في النصوص الدينية يلعب  اللباس دور إعطاء الجسد قداسة ما عبر الستر، ويضطلع  بدور تحصيني للمجتمع إزاء الجنس الآخر ولو كان محرماً.
لقد كان للباس وحتى في عشرات القرون التي خلت، وظائف ذات دلالات اجتماعية. فعند العرب لم تكن العمائم على رؤوس الرجال ترتبط بأحوال المناخ فحسب وإنما تتجاوز وظيفة الحماية من حر الشمس إلى معانٍ رمزية أخرى ترتبط بحجم العمامة ولونها إنها نوع من الخطاب الرمزي التواصلي مع الآخر في تقديم  الذات. كان للباس وما زال معانٍ تتجاوز البعد التواصلي مع الآخر ،كذلك بالذات نفسها جراء الإحساس الذي يرتد على الذات بغض النظر عن الآخر، هذه الذات التي لا تكون واحدة في واقعها اليومي المحسوس. لنا في هذا المجال المثال في تأثير لباس الرياضة في الإحساس بالتحفيز نحو النشاط كذلك يصح الأمر نفسه لدى العامل الميكانيكي، والجندي، ورجل الدين والقاضي وغيرهم...
يصح هذا الأمر في محايثة اللباس للمهنة أو العمل في حين أنه ثمة شيوعاً ومماثلة ومشابهة في زي ما، يعد زياً وطنياً يرتبط بالبيئة الاجتماعية والثقافية لدى شعب من الشعوب مع بعض التنوع الذي يحيل إلى موقعية الفرد ودون أن يلاقي الاستهجان لعدم خروجه عن منظومة القيم.
في عصر العولمة  وبفعل ثورة عالم الاتصالات وثقافة الصورة وأدوات الدعاية الناعمة في الدعوة إلى التحرر والانعتاق من نير التقاليد واللحاق بركب الحداثة وما بعد الحداثة، أصبح  للباس بعد عالمي سمته البارزة أنه لا يستقر على حال أي مع عالم الموضة الذي يتجدد فيه اللباس في ساعات النهار ومع فصول السنة، ومع كل مناسبة بعينها. صار هناك لباس للمنزل وآخر للعمل وآخر للسهرات حيث للمرأة خصوصية في هذا المجال ، تعنى بلباسها شركات متخصصة في عالم الموضة.
د- البنية الاجتماعية الاقتصادية
  التنميط السلوكي غايته الفرد.غير أن الدعاية  لم تكن لتقتصر على استهداف الفرد وحسب وإنما تستهدف أيضاً البيئة الاجتماعية والاقتصادية لأن ثمة اعتماداً متبادلاً بين البنية الشخصية للإنسان العادي والبيئة التي يعيش في وسطه وهي علاقة لا يمكن أن تكون ساكنة على الدوام. وأي تغيير يطرأ على أحد  طرفيهما يعني تغييراً فيهما معاً. وهذه الرؤية تقف بمقابل آخرين يذهبون إلى أنه يجب أولاً التغيير في طبائع البشر، في وعيهم وقيمهم وشخصيتهم وبعدئذٍ يمكن بناء مجتمع إنساني حقيقي. وقد تقدم الحديث في أساليب الدعاية ووسائل الإعلام التي تستهدف طبائع الأفراد . ما يعني أن الذهاب في المقاربة نحو طريقة العمل الدعائي الذي يستهدف البنية الاجتماعية والاقتصادية سنفرد لها عناوين فرعية وفق الآتي:
•    الجانب الديني
الدين هو جزء أصيل من حياة الإنسان يرضىي فيه دوافع عميقة نحو العالم الأخروي ويوجه سلوكه الاجتماعي.
المقصود بالدين ها هنا ليس بعده الاعتقادي وكنظام للفكر الذي يشكل اعتناقه أطاراً للتوجه ويكرس الإنسان حياته من أجله. الدعاية المقصودة في هذا المجال، تستهدف السلوك الاجتماعي النابع من الدين وليس الدين بوصفه طريقاً للخلاص الأخروي. فالناس قد تعبد حيوانات أو مظاهر طبيعية أو آلهة مصنوعة من الذهب أو قد يعبدون أسلافهم، أو حتى المال أو الشيطان نفسه. الدعاية الهادف نحو تغيير البيئة الاجتماعية لا تستهدف هذا الجانب. المشكلة هي أي نوع من الدين يعبدون. إنه الدين الذي يفجر الطاقات ويحرك السلوك ويدفع نحو التضامن والتكامل ولخدمة هدف الحياة ومعناها.
في مطلع عهود الاستعمار في القرن التاسع عشر كانت الدعوة إلى العلمنة بوصفها تقوم على أساس أن الفصل بين الدين والدولة هي المحرك للعمل الدعائي الذي يستهدف العالم الإسلامي . الدين بوصفه نظاماً من الاعتقادات ليس هو المستهدف، وإنما الاستهداف غايته حين يكف الدين عن كونه مصدراً للتشريع وللقيم الأخلاقية. وقد صار للعلمانية منظروها في الغرب والعالم الإسلامي يقابلها مواقف ناقدة ومتحفزة للدفاع عن حقيقية الدين وجوهره.
في عصر ما بعد الحداثة نشهد ضموراً وليس أفولاً للدعوات الفذة نحو العلمانية  مفسحة المجال أمام عناوين أخرى تطال الدين بوصفه محركاً للسلوك وبوصفه موجهاً للقيم. من قبيل  هذه الدعوات فكرة الشرق  أوسطية  والسلام في منطقة  الشرق الأوسط. الشرق أوسطية ليست بمقابل الغرب كهوية حضارية وإنما الشرق أوسطية بما تعنيه من استحداث هوية ومنظومة قيمية  متجاوزة للدين بل للأديان الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية بما يعنيه هذا الأمر من أن الدين يلعب دوراً محفزاً للتعارض ويختزن إمكانات ليست من طبيعية  تعايشيه وهو خلاف النظرة إلى حقيقة الدين وجوهره . الشرق أوسطية تعنى تلك الفكرة التجاوزية لصراع الأديان في تلك المنطقة. الدين فيها ليس هو المستهدف وإنما دوره المحرك في المقاومة والممانعة تجاه اغتصاب الأرض والمقدسات ليس من اليهود بوصفهم أتباع دين وإنما بوصفهم أصحاب مشروع استعماري كانت حلقته الأولى في فلسطين.
وإذا ما تم نجاح هذه الفكرة بالتحول إلى واقع عملي فإن المنظومة القيمية سوف تتغير، فالسلام الذي يعقبه تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني يعني إسباغ المشروعية وتواطؤا ً على ارتكاب الظلم وإحلالاً لمنطق الواقعية وتجاوزاً لإحقاق الحق ونصرة العدالة.
أما العدة المفهومية التي تخاطب العقل فهي سابقة على فكرة الشرق أوسطية ولكنها تخدمها وتدعمها وتعمل على تسويغها من قبيل الترويج للحق في الاختلاف الناتج عن التنوع وهي فكرة تجد لها رواجاً في النصوص الدينية للرسالات الدينية . ولكنها وفق المفهوم الأميريكي تدخل في إطار نسبية القيم لا بمعنى غاياتها التي تدفع إلى التعايش الايجابي بين مكونات الاختلاف وإنما بالمعنى الشمولي الذي تضيع فيه الحدود ويختلط فيه الحق بالباطل والمعروف بالمنكر ويتلازم مع فكرة الحق في الاختلاف، شعار التسامح الديني وفقه التسامح وهي فكرة تجد لها قبولاً في الأديان  السماوية  وتخطى بقبول العقل وفق منطق الجمال والقبح. فالتسامح جميل بمنطق العقل ولكن دون أن يكون المراد أن الظلم قبيح وأن الجرم والاغتصاب دونه رد الأمور إلى نصابها وإلا فما هو منطق الأمور الذي يدفع إلى تعايش الذئب مع الغنم؟ وفقاً لهذا المنطق يصبح الاعتدال قيمة ممدوحة والتطرف إرهاباً وقيمة مرفوضة . فالاعتدال يصبح قرين الواقعية والنسبية المفرطة وهو القدرة على تدوير الزوايا في حين أن التطرف هو الخروج عن المألوف.
حين تضييع حدود المفاهيم فإن معانيها وغاياتهم تتحدد انطلاقاً من أهداف مروجيها وقدرتهم الجاذبة على الإقناع وإلا فلا يمكن أن نعد كل نظرية أو اعتقاد على غرار ما قدمه اينشتاين وكوبرنيكوس وأديسون وغيرهم تطرفاً لاعتقادهم الراسخ بمنطق القوانين العلمية. فلا يجوز أن نطلب من هؤلاء أن يكونوا معتدلين وإلا ضاع منطق العلم ، ولا يمكن عدُّ دعوات الأنبياء تطرفاً لتمسكهم بما جاؤوا به من تعاليم على أنه يصلح لكل زمان ومكان.
•    اقتصاد الرفاه
هو أحد العناوين المستخدمة في الدعاية الغربية والترويج لأحلام الرفاه
فسنغافورة، هي بلد صغير في آسيا يتسم بأنه بلا تاريخ ولا ذاكرة تاريخية، ولا تقاليد حضارية أو منظومات قيمية راسخة ، لذا يمكن تهميشها حتى يتحول الإنسان إلى وحدة اقتصادية قادرة على الإنتاج والبيع والاستهلاك، وتصبح البلد كلها مجموعة من المحلات والسوبر ماركت والفنادق والمصانع وينظر الناس إلى أنفسهم لا كبشر إنما كوحدات إنتاجية استهلاكية.
وقد أصبحت سنغافورة حلم كثير من أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث التي تفهم التنمية في إطار اقتصادي بحت. والرؤية السنغافورية هي الرؤية المهيمنة على المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي التي تعطي القروض في الإطار السنغافوري المحض، وفي الإطار الإماراتي ونموذجه دبي، وكذلك في إطار الدول المعدّة للسلام مع الكيان الصهيوني في إطار النظام الإقليمي الشرق أوسطي. فالاتجاه نحو العالمية لم يحل دون الدعوة إلى التقارب الإقليمي الذي يمثل خطوة في التقارب العالمي والنظام الإقليمي نحو إزالة القيود والحواجز بين دول ذات خصائص وأواصر مشتركة. ويكفي في هذا الصدد أن نلقي نظرة على تطور أطلق عليه الدول النامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا. ففي جنوب شرق آسيا كانت الدول قد شقت طريقها نحو التصنيع وحققت قفزات نوعية حيث سميت بالنمور الأسيوية. كذلك فإن دولاً في أميركا اللاتينية حققت هي الأخرى معدلات في التنمية ، ولكنها كانت في تقلبات اقتصادية حيث وقعت في فخ التضخم والمديونية . وعندما التجأت هذه الدول إلى الاستدانة من الخارج فإن مجموعها وقع تحت عبء المديونية الخارجية على نحو متقارب ولتعمد إلى الأخذ بسياسيات الإصلاح الاقتصادية وتحرير اقتصاداتها الوطنية.
من المناسب إلقاء نظرة سريعة على أوضاع بعض الدول العربية المعاصرة . هناك ثلاث  دول عربية خضعت خلال فترة غير قصيرة لشكل من أشكال الحصار الاقتصادي، فكل من العراق وليبيا والسودان قد خضع لشكل من أشكال العقوبات الاقتصادية الدولية أو التهديد بها. ترافق مع الحصار بروز حركات داخلية مناهضة انتهت إلى احتلال العراق وتقسيم السودان وإخضاع ليبيا.
كذلك قبل اندلاع الثورات المطالبة بالحرية مرّت معظم الدول العربية بمخاض اجتماعي وسياسي.
معظم الدول العربية التي راحت تأخذ بالإصلاحات الاقتصادية للانتقال إلى اقتصاد السوق ترتب عليها بروز توترات اجتماعية متصلة بارتفاع معدلات البطالة وقسوة تكاليف الحياة على الطبقات الفقيرة. في الوقت نفسه فإن التحول التدريجي إلى مزيد من المشاركة السياسية وظهور الأحزاب السياسية لم يكن ليتم بسهولة ويسر. فعرفت الجزائر في بداية التسعينات حرباً أهلية من الجماعات الإسلامية المسلحة، وخضات مماثلة في دول عربية أخرى .
أن الإصلاحات على المستوى الاقتصادي ينبغي لها تطوير النمو وزيادة في الإنتاجية ونمواً في الوضع المعيشي. ولكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا المجال أنه في ظل عولمة الاقتصاد لا مكان لاقتصاد غير تنافسي. فالدول، خصوصاً الصغيرة منها، ليس لديها خيار كبير في اختيار النظام الاقتصادي بل عليها تتبع السياسيات الكفيلة بتوفير إمكانات الكفاءة والرشاد. من بينها نظام قانوني وسلّم مكاشفة كاملة. في حين بقي الاقتصاد العربي التعاوني مجرد اتفاقات تعقد وتظل حبراً على ورق ، حيث عرفت المنطقة العربية عشرات الاتفاقات خلال نصف القرن الماضي لانعدام توافر نظم ديمقراطية كما في أوروبا التي عرفت وحدتها وساعدها في ذلك قيم الديمقراطية المشتركة.  
5_الاتجاهات الاستهلاكية السائدة 
أ-النمط المتغرب:
يشمل هذا النمط الفئات  شبه الممتلئة بأتباع النمط السلوكي الذي يحاكي الغرب في التملك والاستهلاك. هذا النمط ليس غربياً بامتياز لأنه ما زال يحمل سمات مجتمعه وثقافته الخاصة وإلا عُدّ بنظرنا غربياً وليس متغرباً. النمط المتغرب الذي يسعى بأكبر قدر ممكن إلى اتباع الغرب في سلوكه وفي نمط عيشه سقطت دفاعاته الثقافية.
خير مثال يمكن تقديمه في هذا المجال هو علاقة المستهلك بالملكية. هذه العلاقة لا تختلف عما هو سائد في الغرب. التملك لأجل الاستهلاك وليس للحفظ وهو تأكيد دائم على الاستهلاك. الأشياء لدى هذه الفئة تُشتري لترمى قبل بلوغ الذروة في استهلاكها فأياً كان الشيء الذي يُشتري سيارة أو ملابس  من أي نوع، فإن الشخص سرعان ما يمل منه، ويصبح تواقاً للتخلص من القديم وشراء آخر طراز. ربما كانت السيارة الخاصة  هي أهم مظاهر الاستهلاك . في عصر السيارة  وعصر الطرز الحديثة ليست ثمة عاطفة عميقة أو دائمة مع ما يُقتني وإنما هي نوع من الغرام قصير العمر، فأصحاب السيارات من هذه الفئة سرعان ما يغيرون سياراتهم بعد مدّة وجيزة بعد عام أو عامين. لكي نفهم هذا النمط الاستهلاكي يمكن الأخذ بعين الاعتبار عوامل عدّة منها:
السيارة ليست شيئاً ملموساً يغرم به صاحبه وإنما هي رمز لمكانته وقوته وبانيه لذاته
تضيف إلى شخصيته شيئاً جديداً. العامل الثاني هو أن شراء سيارة كل عام أو عامين بدلاً من خمسة أو ستة أعوام ( معدل استهلاكها) يضاعف نشوة الاقتناء لدى المشتري ويزيد أحساس المالك بالسيطرة. وبقدر ما يتكرر تتعاظم النشوة والإثارة.
العامل الثالث هو أن تكرار عمليات الشراء يعني تكرار فرص عمل صفقات جديدة، أي تحقيق ربح خلال التبادل، وهو أمر يشبع رغبة عميقة في رجال ونساء هذا الزمان. والعامل الرابع هو الحاجة إلى خلق منبهات جديدة لأن سرعان ما يزول الأثر التنبيهي للقديم ليحل مكانه منبه أكثر كثافة وتنبيهاً.
السيارة المتجددة في نظر هؤلاء هي ضرورة حيوية، ولمن لم يملكها بعد هي حلم بالسعادة. من لم يملك، وهم من فئة الشباب  الموعود بالعمل ، خطه الاستهلاكي في نوع آخر يتمثل من عقيدة خاصة وهي أن يفعل ما يريد. نجدهم يتجشمون العناء لسماع موسيقى يحبونها، ويلهثون وراء صرعة في قصات الشعر وموديلات الثياب لا ينتمون إلى إيديولوجية معينة، عثروا على هدف واحد في الحياة هو الحرية، وكانوا مستعدين ليملؤوا الساحات هتافاً باسم الحرية ولكنهم يتميزون عن غيرهم بسذاجة سياسية وفلسفية لأنهم ما زالوا قيد البحث عن المعنى من أجل أن يكونوا هم أنفسهم.
ب_النمط التوفيقي:
 هذا النمط هو الأكثر شيوعاً في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر. يمكن تسميته بالنمط الخلاسي التوفيقي، المنهجي، الموالف، المتكيف بحدود تتسع أو تضيق.
النمط المتغرب استولت ثقافة الصورة وجاذبيتها الناعمة على ذهنه ووجدانه، في حين أن النمط التوفيقي يعبر عن نماذج توفيقية بعضها نابع من وعيه ومعرفته وأجرى توليفة عقلية وتسويفات تدفعه نحو التكيف ، وبعضها لديه الرغبة بأكبر قدر ولكنه اقتصر على بعضها جراء عدم ملاءمة الظروف المعيشية. وبعض آخر لا يزال يحتفظ بقدر من التقاليد. وفي هذا المجال الأمثلة كثيرة سوف يتم إدراجها دون أن تكون حصرية.
•    ملكٌ مقرّب:
لطالما حظي الملوك والأمراء والطبقات المرفهة بوفرة المال والسلطة مع الركون إلى الملذات. والإحساس بالتميز هو سنّة مجتمعية لا ترتبط بعصر بعينه ولا تخص شعباً من الشعوب. حتى في المراحل السابقة عرفت العهود الإسلامية الترف والبذخ في الإنفاق في قصور الحكام خصوصاً في العصر الأموي والعباسي. لذلك ليست مقاربتنا للاستهلاك لدى طبقة الحكام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ترتبط بهذا الجانب بقدر ما تسعى إلى تبيان بعض النماذج التي يمكن عدّها أو تصنيفها وفق النمط التوفيقي. وهي نماذج ماثلة قد لا تحتاج إلى عناء كبير في البحث عنها بقدر ما ترتبط بتبيان دلالاتها. فلنا أن نتساءل في هذا المجال لماذا كان المواطن العربي يشاهد عبر التلفزة في بعض الأحيان ملك الأردن الراحل ( الملك حسين) يرتدي البذلة الرسمية فيما يضع الزي التقليدي على رأسه ( الحطة والعقال) هل تنحصر الدلالات هل تعني أن أصالتنا يمكن أن نحافظ عليها في ذلك الجزء العلوي من الجسد الذي يختص بالعقل ( الدماغ) فيما يمكن لباقي الجسد أن يكون منفتحاً على التحديث؟ ولماذا كنا نشاهد أمير قطر الذي زار لبنان بعد توقيع اتفاق الدوحة عام 2008 ومن ثم غادر لبنان نحو أوروبا في بذلة رسمية؟ هل يعبر ذلك عن تلازم الشعور بالفخر الذي يجسده الزي الوطني مع القدرة على انجاز المصالحة بين فريقي النزاع في لبنان وبأن الانجاز عربي بامتياز؟ أيا ً تكن تلك  الدلالات فما زال الاعتزاز بالزي الوطني وهو يمتد في عمقه التاريخي إلى  قرون مضت يجد له موضعاً في نفوس الكثيرين في الشرائح الاجتماعية حتى العليا منها، مما يعني أن البعد الحدائدي يمكن أن يجد له مكاناً في ميادين شتى في الاستهلاك ولكنه في اللباس ولكونه يعبر عن قيمة وطنية ودينية قد يكون ما زال بعيداً عن التأثير المفرط بأسلوب الدعاية والترويج الاستهلاكي وفق النمط الغربي. حتى هذا التاريخ ليس بمستطاع الطبقات الحاكمة خصوصاً في دول الخليج مغادرة قيمها الثقافية وتقاليدها في اللباس بل يمكن القول ان هذه الشرائح والطبقات التي تضطلع بالسلطة محافظة في قوانين دولها كالخليج واليمن وهو ما يسجل لها في عصر الموضة_ خصوصاً  في زي المرأة فما زلنا نجد حجاب المرأة هو السائد في مثل هذه البلدان  حتى أكثرها تأثراً بالحداثة والعولمة كالإمارات المتحدة حيث ناطحات السحاب الأندية والمطاعم الفارهة والملايين من العاملين من جنسيات مختلفة مع ذلك ما زالت المرأة محافظة على زيها الوطني ، وهو ما ينسحب على بلدان إسلامية أخرى كاندونيسيا وماليزيا والصين وبورما والهند ودول إسلامية وغيرها.
كذلك إن من القلق الوصول إلى حياة طيبة عنوانها الإحساس بالاستقرار المعيشي يدفع إلى المزيد من الاستهلاك. الوجبات الجاهزة من الطعام الطيب المذاق تغدو بمثابة حيلة لا شعورية مخففة لحال القلق ولحال الدخول في عالم الأحلام وفق النمط الغربي، حيث استهلاك الطعام لا يقتصر على الاستهلاك الضروري للحياة، وإنما استهلاك اللذة مقابل الألم والإحساس بالقلق.
•    محجبة على سبيل النجاة:
وهو ما نقصد به حجاب الموضة حيث يتم التوفيق بين الستر الذي يوضع على الرأس وبنطلون الجينز، أو ذلك الحجاب الذي يعدّ حجاباً متماشياً مع العصر في زركشاته وألوانه وضيقه واتساعه الذي يبرز ويحجب في آن معاً مع بعض الاكسسورات كأدوات للزينة التي تطرح إشكالات لعدم تناسبها مع المعطى الفقهي.
يمكن للبنان أن يعد غد في لبنان خاصة بين الشرائح التي تعدّ ملتزمة بالأصول الفقهية من الدلالات المرتبطة بهذا السلوك هو إرضاء الذات إرضاء توفيقياً بين النزوع الجمالي وضرورات الالتزام بالقيم الدينية ، وبين إشعار الذات والآخرين بالانتماء إلى روح العصر انتماءً توفيقياً حيث ليس من قدرة على التعايش مع التقليد وليس ثمة من رغبة بمغادرة القيم نحو نزع القداسة عن الجسد وفق النمط الغربي.
وقد سجل بعض الفتيات الجامعيات إجابات أساسية حين السؤال عن هذا النوع من الستر بكلمات لا تخلو من دلالات "إنها الموضة".
هذه القدرة على التوليف بلا شك تعبر عن ازدواجية حضارية تجلت ببعض الإجابات التي تعبر عن القلق من خلال التمني بوضع الحجاب الذي يعدّ متناسباً مع الشرع بعد الزواج أو بعد بلوغ سن معينة، وإجابات لدى شرائح أخرى تعبر عن الاعتذار بهذه التوليفة بأنها ما زالت محافظة مع إضفاء بعض التعديلات التي نشير إلى روح العصر وإلا كانت قد نزعت حجابها .
هذه الإجابات تعبر عن درجة التصاق القيم المحلية في صراعها مع قيم الحداثة وسط حصار الصورة الدعائية ووسط حصار داخلي نموذجه الدعاية الداخلية المتأثرة بالترويج الاستهلاكي في مجتمعاتنا بحيث بتنا نجد محلات وأماكن لبيع هذه الأنواع من الألبسة بعد أن أصبحت هذه المحلات في أسمائها وموديلاتها تعبر عن هذه التوليفة " بوتيك فاطمة" ومخازن "أم البنين" ( نقلت إلى اللغة الأجنبية) وغيرها من الأسماء التي لا تخلو من دلالات.
•    عامي متبجح:
من المعطيات البالغة الدلالة في هذا المجال أن هذه الفئة من النمط التوليفي ما استطاعت التكيف مع الحداثة الوافدة ولا استطاعت المحافظة على المخزون القيمي والثقافي لمجتمعها.أنها نمط توليفي من نوع خاص. هذا النوع يتجلى في الالتزام الاستهلاكي المفرط في بالحداثة مع ابتداع تقليد خاص ليس من صفها وحدها بقدر ما هو ناتج عن ثقافة الضرورة المحلية والتفاعلات العلائقية من التعامل مع الآخرين ومع الذات.
نجد هذا النوع من النمط الاستهلاكي التوفيقي في نماذج كثيرة وبعناوين متنوعة كحال ذلك الشاب الذي استطاع اقتناء سيارة فاخرة من الجيل الأكثر حداثة في عالم السيارات ولكنه لا ينفك واضعاً حذاءً قديماً في عقبها درءً للحسد من عيون الآخرين في مطاولتها لهذه النعمة المسبقة عليه أو ذلك الذي يعمد إلى تزيينها بما يعكس فلسفته وتجربته والتعبير عن انتمائه السياسي والديني ومشاعره تجاه الآخرين.
ينزل من منزله في ذلك الحي الفقير بثيابه نصف المتأنقة وقصة شعره التي لا تخلو من محاكاتها العصر صاعداً إلى سيارته التي كانت قد ازدادت لمعاناً بعد أن كان قد أكثر عليها صب المياه التي كانت بقدر ما تزيدها لمعاناً لينساب الماء المختلط متهاوياً إلى بركة في أسفل الطريق غدت كأحد الافخاخ للعابرين.
قد يكون من حسن حظ القاطنين في الجوار أنه لم يفتح بوق سيارته قبل الانطلاق ولكن سوء الطالع سيكون بالتأكيد حين الانطلاق المتواكب مع تلك الأغاني الأجنبية الممزوجة وصخب الموسيقى المصحوبة ببعض السباب والشتائم للمتجاوزين أو للمتعرين أمامه في ساحة الزحام الشديد.
هذه القصة ليست من الخيال، ما يريح الذهن من الكلمات المنمقة بقدر ما يراد من إدراجها تبيان الاستهلاك التفاخري في مداه الذي يُقدم على الأولويات في الاستهلاك وهو لا يطال شريحة بعينها. مدى تأثير الدعاية ليس فقط على تجاوز القيم الثابتة والظرفية وإنما على إحلال قيم استهلاكية من نوع خاص يراد لها إضفاء نوع من القيمة الاجتماعية المفقودة جراء ضحالة الثقافة والمكانة التي تعطي الإحساس بالدرجة والرفعة.
ج_ النمط المحافظ
      ينطلق هذا النمط من الإحساس بخصوصية الهوية والتخوف من الذوبان والاندثار للثقافة الخاصة. وهي لا تزال تغطي مساحات عديدة تبرز في صيغ ثقافية وسلوكية متنوعة خصوصاً في مجالات القيم من موقع الاعتزاز وإرادة التحدي. هذه الفئة نجدها في الشارع والمدرسة، وفي التلفزيون والمسرح وعالم الفن وغيرها من المجالات التي يجري فيها التأكيد على الذوق الخاص وعلى الأصالة في الفكر والتدين ومظاهر اللباس واللغة. فهناك بعض الوقائع التي تكشف عن المزيد من الخصوصية ورفض الغزو الثقافي. البعض من هذا النمط يدخل العولمة وفق شروطه الخاصة، وتبرز بالخصوص في صورة التحجب حيث تزايد صور المحجبات في الفضاء الثقافي العام في الجامعات والأسواق ومراكز العمل وفي التلفزيون حيث تظهر بعض المذيعات متحجبات في صورة تتناسخ مع صورة الموضة لكي تتبارى مع صورة المرأة في الدعوة إلى الاحتشام وعدمها      
يعني ذلك أن الأساليب الناعمة في الدعاية وثقافة الاستهلاك المعولم بقدر ما ينتج عنها نمط عالمي في الاستهلاك وفي شتى مناصي السلوك فإنه ينتج عنها كذلك صدمة الوعي بالهوية . فالعولمة في قوامها الترويجي والدعائي تنتج الشيء ونقيضه. فبقدر ما  يشيع النموذج الواحد فإنها تخلق النموذج المنافس أو على الأقل النموذج المحافظ. وحين يجري تقليد أمريكا في كل شيء مع قبول بنمطها الذوقي والثقافي، وهو قبول ظاهر على مستوى الشوارع في كل أنحاء العالم ، فإنه  يتجاوز خطاب الرفض العالمي لسياسيات أمريكا ولهيمنتها الاقتصادية معتبراً أن هذا الخطاب تبرز في مؤتمرات ضد العولمة والتجارة الحرة التي تغطي مدن العالم كلها  وفي الدعوات العالمية إلى رفض تسليع جسد المرأة والدعوة إلى الاحتشام.
اقتراحات
بما أن الحرب الناعمة هي عملية إقناع، وأن العصر الحالي هو عصر الدعاية فإن مجتمعاتنا تحتاج إلى المزيد من التأثير في الآراء ما يعني الاحتياج إلى متخصصين في الدعاية  للقضايا العادلة ، وكشف زيف الخداع والتمويه والحد من تأثير من يمارسون قصف العقول. وظيفة هؤلاء المتخصصين متابعة المعلومات من مصادرها وخوض النقاشات والحوارات المختلفة والتواصل  مع الجمهور والمثقفين .
نحتاج إلى تفعيل نماذج تربوية متكاملة تبدأ من الأسرة والمدرسة ومراكز العبادة ووسائل الإعلام لتحصين المجتمعات بمنظوماتها القيمية وتربية الفرد بما يتيح له التعامل مع مصادر المعلومات والقدرة على اتخاذ القرار وبما يشكل مناعات ذاتية قادرة على التعامل  مع خرافة القادرين على التلاعب بالعقول.
وإعادة التأكيد على قيمنا الخاصة لاسيما القيم التي  تشعر الفرد بانتمائه لمجتمعه ولبيئته الثقافية والاجتماعية  والتي يتفرع عنها قيم المحبة والتضامن والمشاركة بعد أن تكاد التحولات نحو الرأسمالية المفرطة أن تحول الأفراد إلى عبيد للآلة ولإشباع الحاجات المادية فقط وإلى الفردية المفرطة التي تجعل طبائع الناس مفتوحة على الاضطراب والقلق والشعور بالوحدة وبسط كل هذا الصخب والضجيج.
علينا أن ندرك ونراعي في مخاطبتنا لذاتنا وللأمم ما يلي:
•    أن الحرب الناعمة التي يخوضها الغرب يجب إلا تنسينا أن عصر التكنولوجيا أخفق في الوفاء بوعده في الوصول إلى الرفاه. ما زال في الغرب نفسه ملايين الجائعين والمشردين والمنبوذين. كذلك فإن الهوة بين الأمم الغنية وتلك الفقيرة تزداد اتساعاً كما كثر الحديث عن تحرير التجارة العالمية  والانخراط دون شروط في العصر الحديث.
•    أن إشباع كل ما يخطر على بال من رغبات لا يوصل بالضرورة إلى حياة طيبة هانئة وعلينا أن نعيد للإنسان بعده الآخر أي البعد الروحي المتلازم مع البعد المادي  وهو ديدن الأديان والفلسفات غير المادية.
•    أن نخوض معركة هدف الحياة في بعدها الفردي والجماعي والحضاري وأن للإنسان أهدافاً متجاوزة لبعده المادي.
•    أن نركز في أدبياتنا على مخاطبتنا الإنسان الكوني حول مخاطر التقدم التكنولوجي والنووي والمخاطر الايكولوجية التي تهدد البيئة بأسرها والتي بمقدورها إنهاء كل أشكال الحياة على هذا الكوكب.
•    يجب الالتفات إلى تعزيز البحث العلمي الجاد الموضوعي والملتزم بتوفير الإمكانات لتأسيس مراكز الدراسات المتخصصة في دراسة الواقع الاجتماعي، والانعطافات الحضارية الخاصة بالأمراض الاجتماعية لقرننا المعاش بعيداً عن المنطلقات العاطفية والرغبات الآنية الناتجة عن سوء تخطيط ودراية.
•    أن نصغي إلى تطلعات الجيل الجديد بما يعيد إليه الأمل بمستقبل ربما يمكّن من التغلب على الشعور بالفراغ والشعور بخلو المعنى وتعزيز قدرته على الشعور بأهمية القيم الواجبة والمستحبة والتمييز بينها وبين القيم الهجينة والمستهجنة.
•    علينا التفكير بعودة الفرحة التي تغمر الإنسان (امرأة كان أم رجلاً) حين يعطي ويشارك ويعلن استعداده للتضحية وليس حين يستغل أو يكتنز المال الوفير، وحين يخرج إلى المجتمع كذئب تقابله ذئاب.
 هذه المقترحات لا تخلو من نواقص كثيرة لكن بعضها القليل قد يكون جديراً بإيلائه الاهتمام الخاص لتجاوز بعض من المعاناة.


لتنزيل الدراسة اضغط PDF

أضيف بتاريخ: 02/03/2015