مقالات خارجيّة

الحرب الناعمة على القضيّة الفلسطينيّة

الحرب الناعمة على القضيّة الفلسطينيّة
د. محمّد طي

كانت بلادنا وأمتنا وما زالتا تتعرّضان لمحاولات قديمة جديدة من أجل صياغتها وإدراجها واستخدامها في المشاريع التي رسمتها القوى الاستكبارية وما زالت ترسمها للمنطقة وحتى للعالم، ولعلّ واسطة العقد في منطقتنا وأمتنا هي فلسطين لما لها من موقع جيوستراتيجيّ يفصل شرق المنطقة العربيّة والإسلاميّة عن غربها ويتحكّم بأهم ممرّ بحريّ في العالم وهو قناة السويس. ما جعلها تتعرّض لمؤامرة من أخطر ما تعرّض له بلد في التاريخ الحديث وربّما القديم، ولا تضاهي هذه المؤامرة في فظاعتها إلاّ المؤامرة التي تعرّض لها سكّان أميركا الأصليّين.
ومن أجل تنفيذ المؤامرة المذكورة استخدمت الدول الاستعماريّة الاستكباريّة القوّة بمعناها الأشمل: القوّة المسلّحة والإغراء، والإقناع.[1].
هي استخدمت القوّة الصلبة التي تقوم على التهديد أو الإكراه أو على الإغراء لتحقيق ما أرادت. أي ركّزت، كما يقول جوزيف س. ناي "على المغريات (الجزرات) وعلى التهديدات (العصي)"[2].
لكنّها لم تعتمد أشكال القدرات هذه وحسب، بل استخدمت "الوجه الثاني" للقوّة. فما هو هذا الوجه الثاني؟ إنّه القوّة الناعمة.
 
القوّة الناعمة
قد يتمكّن بلد ما، كما يقول ناي، من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالميّة، لأنّ هناك بلداناً أخرى معجبة بمُثله وتحذو حذوه وتتطلّع إلى مستواه، تريد أن تتّبعه. وبهذا المعنى، فإنّ من المهم أيضاً وضع جدول الأعمال (أي وضع البرنامج للآخرين) واجتذاب الآخرين في السياسة العالميّة، وليس فقط إرغامهم على التغيير بتهديدهم بالقوّة العسكريّة أو العقوبات الاقتصاديّة. فهذه (هي) القوّة الناعمة، جعل الآخرين يريدون ما نريد، نختار للناس بدلاً من ارغامهم"[3].
 إنّ هذا ما يأتلف مع الديمقراطيّة، كما يرى جوزيف ناي إذ يقول:" والقوّة الناعمة هذه ضروريّة للدول "الديمقراطيّة" المضطرّة إلى الإقناع بدلاً من القسر. فهي لهذا عنصر ثابت في السياسة الديمقراطيّة... (التي تعتمد مثلاً) الشخصيّة الجذّابة، الثقافة، المؤسّسات والقيم السياسيّة، السياسات التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنويّة أو أخلاقيّة..."[4]
لكنّها "أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجّة، كما تقضي الديمقراطيّة، بل هي أيضاً القدرة على الجذب، والجذب كثيراً ما يؤدّي إلى الإذعان".[5]
أمّا ما تتوسّله القوّة الناعمة فهو الجاذبيّة (حتّى الشخصيّة) والمثل السياسيّة التي تؤسّس لمشروعيّة التصرّفات في نظر المستهدفين من هذه القوّة، ممّا يؤدّي إلى انجذابهم إلى القيم المطروحة، وبالتالي إلى مسايرة الأغراض المرجوّة "دون حدوث أيّ تهديد.. (فعندما) يتقرّر سلوكي من خلال جاذبيّة يمكن ملاحظتها ولكنّها غير ملموسة، فإنّ القوّة الناعمة تكون شغّالة"[6]، من هنا يمكننا أن نعرّف القوّة الناعمة من الناحية العمليّة: "بأنّها امتلاك القدرات أو الموارد التي يمكنها أن تؤثّر على النتائج"[7]. وبناءً على ذلك (يمكن) اعتبار بلد ما قويّاً، إذا كان لديه عدد سكّان وإقليم جغرافيّ كبيران نسبيّاً وموارد طبيعيّة واسعة وقوّة اقتصاديّة وقوّة عسكريّة واستقرار اجتماعيّ"[8]. وهذا البلد يستطيع استخدام القوّة الناعمة بكفاءة.
إلاّ أنّ القوّة الناعمة بوسائلها المذكورة لا تستطيع تحقيق أغراضها إذا لم يتقبّلها من توجّه إليه، فيكون مصيرها الفشل، ما يعني "ألا بدّ لها من قبول المتلقّي، وقبول المتلقّي يرتبط بأن يطرح له ما يرغب به. "فعندها نقيس القوّة بمعايير تغيير سلوك الآخرين، فإن علينا أن نعرف أوّلاً ما هي الأشياء التي يفضّلونها، وإلاّ فسنكون مخطئين في تقويم قوّتنا". لكن بقصد الانطلاق منة هذا الذي يفضّلونه لبلوغ ما يفضّله المرسل (مستخدم القوّة الناعمة).
لكن إذا تعارض ما يرغب به المتلقّي مع ما يريده المرسل، فما الحلّ؟
 إنّ الحلّ هو بالتأثير لتغيير القناعات والمطالب وما يفضَّل. من هنا كانت ضرورة استخدام الأدوات المؤثّرة، وهذه الأدوات يمكن أن تكون وسائل الإعلام، أو الشراكات التي تقدّم برامج معيّنة خاصة ومدروسة للتأثير، أو إقامة العلاقات الشخصيّة مع أفراد أوجماعات أساسيّين، أو الوسائل المخابراتيّة، أو التمويل السرّيّ للحفاظ على السيطرة....
فالمؤسّسات الإذاعيّة والتلفزيونيّة التي يستخدمها المرسل لنشر الأخبار بلغة المتلقّي، والموسيقى الشعبيّة المحبّبة، واستخدام الوسائل الإعلاميّة التي ينشئها الآخرون هي خطوة في الاتّجاه الصحيح.[9] وكذلك فإنّ إنشاء مكاتب الدعاية، لا سيّما عندما يستطيع المرسلون إلهام أحلام الآخرين ورغباتهم بفضل الصور العالميّة المتقنة المقدّمة عن طريق الأفلام والتلفزيون[10] هي من الأشياء الأساسيّة.
على أنّه لا يمكن استبعاد نشر الأخبار الكاذبة ودفع الآخرين إلى نشرها، كما كان يفعل مكتب التأثير الاستراتيجيّ التابع للبنتاغون، الذي كان يقدّم موادّ إخباريّة "قد تشمل أخباراً مزوّرة إلى منظّمات إعلاميّة أجنبيّة في محاولة للتأثير على البلدان الصديقة وغير الصديقة على حدّ سواء". وكذلك فإنّ الشركات يمكن أن تؤدّي دوراً قياديّاً في رعاية مشاريع محدّدة للدبلوماسيّة العامّة، كشركة تكنولوجيا تعمل مع ورشات عمل... أو في الإنتاج المشترك لبرامج الأطفال...
كما تلعب الدور نفسه البعثات الدراسيّة في الاتّجاهين بين المتلقّي والمرسل، وكذلك تدريب الضبّاط...
 إنّ العلاقات طويلة الأمد مع شخصيّات. وهو أسلوب استخدمته أميركا بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث "اشترك سبعماية ألف شخص في المبادلات الثقافيّة والأكاديميّة الأميركيّة، وهي مبادلات ساعدت على تثقيف قادة عالميّين مثل أنور السادات وهيلموت شميدت ومارغريت تاتشر... (لقد) شارك في المبادلات المذكورة أكثر من مئتين من رؤساء الدول الحاليّين والسابقين، وأنّ نصف زعماء الائتلاف ضدّ الإرهاب كانوا ذات مرّة (أعضاء) في تلك المبادلات"[11].
كما أنّ "تبادل معلومات المخابرات مصدر مهمّ من مصادر القوّة الناعمة... إنّ تقاسم المعلومات السريّة قد يكون له تأثير مباشر وقويّ على السياسة، فالمعلومات... يمكنها في بعض الأحيان أن تغيّر سياسة حكومة ما"[12]، وإلى هذا فإنّ التمويل، عندما يتّخذ طابعاً سريّاً، يمكنه أن يتلاعب بالمثل وبالمدافعين عنها، كما فعلت المخابرات الأميركيّة في المرحلة الأولى بعد الحرب العالميّة الثانية".[13]
على أنّه [i]إذا خلقت الوسائل المختلفة أشخاصاً يحملونها ويروّجون للأهداف المبتغاة، فسيكون التأثير أمضى، ذلك "أنّ أكثر الناطقين باسم أميركا فاعليّة وتأثيراً ليسوا الأميركيّين، بل هم وكلاؤهم المحليّون من أهل البلاد الأصليّين الذين يفهمون فضائل أميركا وعيوبها.
إلاّ أنّ ما يعيق القوّة الناعمة هو اكتشاف كذب ما تطرحه من مثل أو قيم، وهذا ما تعاني
منه أميركا في توجّهها إلى شرائح واسعة جدّاً في العالم العربيّ والإسلاميّ. فقد روى أ. كروكر، الذي عمل سفيراً للولايات المتّحدة في عدة بلدان إسلاميّة، أنّه:"بينما كنّا نتحدّث عن حقوق الإنسان والتنمية الاقتصاديّة والديمقراطيّة وحكم القانون، لم تكن سياساتنا ولا توزيعنا للموارد يتمشّيان مع خطبنا الرنّانة، فلم نقم بتحدّي الحكومات في المنطقة من أجل التغيير ولا قدّمنا حوافز لهذا الغرض.
بل على العكس، وكما تقول دانييل بليكا من "معهد المشروع الأميركيّ":"إنّنا نظهر للعيان باعتبارنا ندعم هذه الحكومات (حكومات الاعتدال العربيّ) الحقيرة الخسيسة"[14]
على أنّ النتائج المتوخّاة من استخدام القوّة الناعمة يجب إلاّ تكون بالضرورة نتائج عاجلة، بل ربّما يستحسن أن تعطي ثمارها على المدى البعيد.
وإذا كانت تلك هي القوّة الناعمة، فهل هناك حرب ناعمة؟
 
لقراءة باقي المقال اضغط PDF

أضيف بتاريخ: 23/07/2015