مقالات خارجيّة

من قرقعة السيوف الى الحرب الناعمة


من قرقعة السيوف الى الحرب الناعمة 
بقلم : عبد الجبار كريم 

ان حربا من نوع جديد تلوح في الأفق، لا تستعمل فيها الدبابات ولا الغازات السامة، بل أفكارا وتقارير وأبحاث، لتغيير واقع المجتمعات إلى الأفضل، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية. إنها «حرب الأفكار» التي تتنافس فيها الدول الغربية على مركز الريادة، لتفرض بها رؤيتها الخاصة عن العالم.

ستوكهولم/البديع ـ مشكلة البشرية انها على طول التاريخ كانت ولاتزال تفكر بمنطق القوة، وكيفية استعباد بني الانسان لبعضهم بمختلف الاساليب والفنون، وان متابعة أي نشرة انباء يلاحظ فيها انها تحمل كل مايتعلق بالموت والقتل واضطهاد الانسان لاخيه الانسان سواء على المستوى الفردي او مستوى الحضارات والدول.

فاذا كان القرن التاسع عشر مرتبط بظهور الاستعمار الاوروبي واستعمال القوة العسكرية، وتمثل القرن العشرين بالهيمنة الاقتصادية، فان القرن الحادي والعشرين تم تدشينه بالحرب الناعمة وحرب الافكار.
فما هو المقصود بالحرب الناعمة او حرب الافكار او ماشابه هذه المصطلحات التي دخلت الادبيات السياسية خلال العقدين المنصرمين، وقد يربط البعض هذه المصطلحات بما كانت عليه سابقا من الحرب الباردة او حرب العقائد بين اميركا والاتحاد السوفياتي سابقا، ولكن حتى لو تشابهت هذه المصطلحات من حيث المضمون ببعض ماكانت عليه من قبل، ولو في جوانب محددة، الا ان المصطلحات الجديدة وتحديدا الحرب الناعمة او القوة الناعمة ذات مداليل اوسع من السابق، وتشمل مجالات لم تعرف من قبل.

ان مصطلحات من قبيل القوة الناعمة والحرب الناعمة والحرب الصلبة مقتبسة ومستعارة من المجال الكمبيوتري ("سوفت وير" أي البرمجيات و"هارد وير" أي المعدات) الى نطاقات واسعة في الحياة بما فيها الحياة السياسية، فماذا يعني مصطلح القوة الناعمة سياسيا؟

قبل ان اراجع المصادر وماتم استحصاله عبر المرجع الاكبر (غوغل) فان تصوري الاولي هو ان القوة الناعمة تعني القوة المعرفية وليس القوة الجسدية، واذا استهدفت التغيير فانها تستهدف العقول وتغيير آلية التفكير فيها، وليس استهداف الكيانات والغاء وجودها.


بين القوة الناعمة والقوة الصلبة

وعند مراجعة موسوعة ويكيبيديا جاء في تعريف المصطلح كما تصورته، حيث يقول: القوة الناعمة (Soft power) هو نقيض مصطلح (Hard power) إي القوة الخشنة (القوة العسكرية) هو من المصطلحات السياسية العسكرية الحديثة. كان أول من ابتكره مساعد وزير الدفاع الأمريكي في عهد الرئيس بل كلينتون، جوزيف ناي.

واضافت الموسوعة: وتعني القوة الناعمة أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره .

وغالبا مايطلق هذا المصطلح على وسائل الإعلام الموجهة أو مايسمى بـ" الإعلام الموجة" لخدمة فكر ما ، وتعتبر القوة الناعمة من أفضل الأسلحة السياسية العسكرية إذ أنك تستطيع السيطرة على الآخرين وأن تجعلهم يتضامنوا معك دون أن تفقد قدراتك العسكرية.

حسب الدراسات المنجزة حول موضوعة القوة الناعمة او الحرب الناعمة وحرب الافكار والبرمجيات، فان حربا من نوع جديد تلوح في الأفق، لا تستعمل فيها الدبابات ولا الغازات السامة، بل أفكارا وتقارير وأبحاث، لتغيير واقع المجتمعات إلى الأفضل، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية. إنها «حرب الأفكار» التي تتنافس فيها الدول الغربية على مركز الريادة، لتفرض بها رؤيتها الخاصة عن العالم.

أسلحة هذه الحرب الجديدة مؤسسات فكرية تضم باحثين من فضاءات معرفية مختلفة: سياسة، ثقافة، اقتصاد، وعلم اجتماع.. ينشطون بانتظام لإنتاج دراسات وتقارير وأبحاث تستفيد منها جهات معينة كالأحزاب السياسية والحكومات والإدارات العامة.


هذا التقليد الجديد الذي ظهر منذ بدايات القرن الماضي في الدول الغربية جعل الساسة وأصحاب القرار يلجأون لخدمات النخبة والمثقفين من خبراء ومحللين لمساعدتهم على التخطيط للمستقبل وإدارة المشاكل. على أن «مراكز الفكر» تختلف عن «مراكز البحوث والدراسات» من حيث الغاية. فبينما تهدف الأخيرة إلى تحقيق غايات أكاديمية معرفية بحتة ملتزمة الحياد، ترمي الأولى إلى الانخراط في صنع القرار السياسي العام والوصول لأهداف استراتيجية.

البعض يطلق عليها تسمية «خزانات الأفكار»، وهي الترجمة الحرفية للمصطلح الإنجليزي «think thank»، أو «think factory» والبعض الآخر يسميها «مراكز التفكير» أو «مختبرات الأفكار»، وهي الترجمة العربية للمصطلح الفرنسي «سنتر دو ريفرلكسيون» أو «لابوراتوار ديه زيديه».

وقد تتخذ أحيانا شكل حلقات دراسية ونوادي تشاور للدفاع عن قضايا معينة أو ورشات تفكير وتأمل حول مشاريع مستقبلية فتسمى «نوادي التأمل»، أو «ورشات عمل».

عدد هذه المراكز أو الحلقات اليوم يفوق الخمسة آلاف مركز، معظمها في الولايات المتحدة (1800) والصين (425) وأوروبا (1200)، ودورها المتنامي خلق ديناميكية جديدة و«سوقا للأفكار» تتسابق فيها أقوى المؤسسات لعرض تصوراتها واقتراحاتها لحلّ المشاكل المجتمعية.


و«الحرب الناعمة» التي تستعمل فيها قوة الأفكار كمحرك لتوجيه القوى البشرية والثقافية للأمم لا تزال مستمرة، ونفوذ المراكز الفكرية في تنامي مستمر، حيث لم يعد سرا مثلا أن اجتياح العراق لم يكن أصلا فكرة لصقور إدارة بوش، بل هو المشروع الذي رّوج له لسنوات طويلة مركز فكري أميركي ذو توجه محافظ يدعى «بروجكت فور ذا نيو أميركان سانتوري» أو من أجل قرن أميركي جديد، وبأن أعضاءه من الخبراء والمحللين قد عرضوه أول مرة على الرئيس كلينتون منذ 1998 من دون أن يلقى أي صدى، إلى أن تبناه بوش وفريقه، تماما كما كانت فكرة تقديم أوباما كأول مرشح من أصول أفريقية هي لمركز فكري له ميول يسارية يدعى «سنتر أوف أميركا بروغراس» أو المركز الأميركي التقدمي، ومن قبله خطة مارشال (1947) التي كانت فكرة مؤسسة بروكينغز.

 وماتحدثت عنه اميركا مؤخرا من قيامها بمعية الكيان الصهيوني بتطوير فيروس كومبيوتري متقدم للغاية، سمياه «فلايم» ( أي لهب باللغة الإنجليزية)، قام بجمع معلومات استخباراتية استعدادا لعملية تخريب إلكتروني بهدف الاخلال بالمشروع النووي الايراني انما يعكس جانب جديد من صراعات المستقبل، ويؤكد مدى حرص اميركا على ضرورة نقل معاركه الجديدة من الحيز الواقعي الى الحيز الافتراضي، بل والتاكيد على عدم تجاهل او الاستخفاف بحيوية واهمية الساحة الجديدة للمعارك الاميركية، حيث دعا نائب الرئيس الاميركي جون بايدين الى ضرورة التركيز على التهديدات الجديدة التي تواجه السياسات الاميركية بما في ذلك تهديدات الانترنت.

ففي لقائه يوم 26 – 5 – 2012 بخريجي أکاديمية ويست بوينت العسکرية الذي وصفهم بجيل الحادي عشر من سبتمبر اشارة الى الضربة التي وجهت لمركز التجارة العالمي عام 2001، قال بايدن إنه يتعين على خريجي وست بوينت الاستعداد لتطويع ما حصلوا عليه من تدريب في مجال مکافحة التمرد ومکافحة الإرهاب وغير ذلک من طرق التدريب للتعامل مع آفاق جديدة تمتد من الفضاء الإلکتروني الى الفضاء الخارجي، كما تم استحداث قسم في الحكومة الاميركية مؤخرا بميزانية تقدر بعدة ملايين من الدولارات يقتصر مهمته على المعارك في اطار العالم الافتراضي (النت) الذي بات له حضورا واقعيا وعالميا اكثر مما كان يتوقع له.

ومن الضروري الاشارة هنا الى ان ماقامت به الجمهورية الاسلامية الايرانية من انزال طائرة اميركية بدون طيار وكذلك اتخاذها سلسلة اجراءات للتصدي الى الحرب الالكترونية التي تشنها واشنطن وتل ابيب ضدها، يؤكد وجود استعدادات قوية لدى طهران على هذا الصعيد من الضروري عدم االتقليل من اهميتها، واخذها على محمل الجد.


الحذر من التمويل الخارجي


تتبنى الحكومة الاميركية دعم وتمويل عددا كبيرا من مراكز التفكير في داخل اميركا وخارجها، وتقوم مهمة هذه المراكز بالبحث على سبل توظيف الافكار الصحيحة لصالح غايات الجهات الممولة والداعمة لها، وهي تختلف عن مراكز الابحاث الاكاديمية التي مهمتها تقتصر على البحث العلمي وضالتها الحقيقة العلمية اينما وجدت، وانما تتعدى ذك الى التفكير بسبل التوظيف والتنفيذ بما يحقق الاهداف التي تتوخاها القوى السياسية سواء في داخل البلد او خارجه.

ومن هنا فان مراكز الابحاث او بالاحرى مراكز التفكير الجهنمية بعضها منتمية او قريبة من جهات سياسية معينة مسبقا او تم انشاءها منذ البداية من قبل جهات معينة لتخدم اهداف وغايات الجهات المؤسسة، ولذلك لاغرابة ان تتعاون بعض هذه المراكز مع شخصيات اكاديمية ومراكز ابحاث في مختلف ارجاء العالم، وتعتمد على خبراء مختلف الدول وفي مختلف المجالات والتخصصات، ولقد راينا كيف تدخلت اميركا وبقوة لمساعدة المنظمات المصرية المدعومة اميركيا عندما تم محاكمتها، واستغلت فرصة اخراجها بكفالات مالية ضخمة، مهيئة طائرة خاصة لنقل المهمين منها الى خارج مصر.

وتبلغ عدد المنظمات المدعومة اميركيا في مصر وحدها 610 منظمة، وفي مختلف الاختصاصات والاهتمامات، وهنا تبدو حجم الكارثة ومدى اختراق المجتمع المصري عبر هكذا منظمات تبدو في ظاهرها انساني وتستغل اعمالها لاهداف بعيدة كل البعد عن الانسانية.

وليس بالضرورة ان تكون كل منظمة تستلم هكذا دعم تكون مشبوهة، ولكن اجمالا تقديم مساعدات مالية من جهات خارجية وبعيدة عن علم السلطة وخارج اطار معرفتها بالامر تبدو ان المسالة غير مقبولة.

ولذا لانريد التخوين بقدر ما ندعو الى الانتباه من هكذا شراك يمكن يمكن ان تنصبه جهات اجنبية لبعض الجهات قد تكون مخلصة وتقدم خدماتها لمختلف الاطراف.


ولاغرابة ان تتخذ هذه المراكز عناوين بحوثية او انسانية معينة او تكون بالفعل هكذا ولكنها ايضا تعتمد وتستلم دعم مادي مقابل خدمات تقدمها للجهات الداعمة، وقد لاتكون بالضرورة خدمات سياسية، وانما في مجالات مختلفة من الحياة وحتى ذات طابع علمي واكاديمي بحت ربما، ولكن اميركا هي التي توظف الافكار في مجالات لايمكن تصورها لصالح اهدافها المتنوعة والمتعددة لتشمل مختلف اوجه النشاط الانساني وحتى النشاط الطبيعي الكوني.


أضيف بتاريخ: 05/08/2015