مقالات خارجيّة

دور مراكز الأبحاث والدراسات في صناعة القرار.. أميركا نموذجًا



دور مراكز الأبحاث والدراسات في صناعة القرار.. أميركا نموذجًا

هادي قبيسي

من بين الأطراف المؤثرة في تركيبة السياسة الخارجية الأمريكية، يعد دور مراكز الأبحاث الأهم والأكثر فعالية، حيث رسمت هذه المراكز سياسات التدخل الأمريكي في الخارج طوال المئة عام المنصرمة (1).

تعد أمريكا مهد المجتمع الأكثر ضجيجًا بالنقاش السياسي، حيث يعلو ضجيج الآراء المتناقضة والمختلفة حول كيفية إدارة شؤون البلاد (2). جايمس ماكغان، مدير معهد أبحاث السياسة الخارجية، ومؤلف كتابي "مراكز الابحاث والمجتمع المدني"، و"مراكز الأبحاث، السياسات، والسياسات العامة".

بفعل تعدد قضايا القرار السياسي وتشعب مهام الدولة الحديثة، وخصوصًا الدول التي تمتلك سياسة خارجية فاعلة، وتعتبر نفسها معنية بشكل جاد بما يحصل خارج حدودها بحيث تؤثر وتتأثر فيه، فقد لجأت تلك الدول إلى إتاحة المجال لمراكز الدراسات والأبحاث برفدها التحليلات والاستشارات والتوصيات التي تمثل نتيجة عمل الخبراء في الميادين المختلفة الواقعة محل اهتمام القيادة، بحيث تحول بعض تلك المراكز في بعض الفترات إلى وزارة خارجية في "الظل"، تمارس دورًا وتأثيرًا كبيرين. ويعتبر ريتشارد هاس أنّ "مراكز الدراسات تقوم بسد الفجوة بين النطاق الأكاديمي من جهة، وبين مؤسسات الحكومة من جهة أخرى. ففي الجامعات يتم القيام بالأبحاث بخلفية نظرية ومنهجية بعيدًا عن المشكلات السياسية اليومية. أما في داخل الأجهزة الحكومية، يغرق الموظفون في المتطلبات اليومية لصناعة السياسات، بما يصعّب عليهم العودة خطوة إلى الوراء للأخذ بعين الاعتبار المشهد الواسع للسياسة الأمريكية. فتقوم المراكز بدور سد الفجوة بين الفكر والتطبيق" (3).

ويؤكد على أنّ "الأفكار المطروحة من قبل مراكز الدراسات تقوم بدور بناء مفاهيم جديدة للمصالح الأميركية القومية، التأثير في ترتيب الأولويات، توفير خرائط الطريق اللازمة لتنفيذ السياسات، تحريك التحالفات السياسية والبيروقراطية، وبناء تصميم جديد للمؤسسات المتهاوية". (4)

ويحاول هاس رسم تحديد دقيق لوظائف مراكز الدراسات في الولايات المتحدة الأميركية، فيلخصها في خمس أساسية:
- تنشر الأفكار وأنماط التفكير الجديدة بين صانعي السياسات.
- توفر الخبراء للعمل في الأجهزة الحكومية والكونغرس.
- تفعل الحوار السياسي بين صانعي القرار.
- تثقف الشعب الأمريكي حول ما يحصل في العالم الخارجي.
- توفر اتجاهًا ثالثًا بين الحزبين المتنافسين. (5)

ولا بد من الإشارة إلى أنّ المراكز البحثية في الولايات المتحدة الأميركية تتمتع بخصائص مميزة عن مثيلاتها في العالم، فعلى صعيد الحجم "يوجد في الولايات المتحدة 2000 منظمة منخرطة في عمليات التحليل السياسي، مقابل 2500 منظمة مماثلة في العالم ككل" (6)، أما على صعيد التأثير فيشير ابلسون إلى أنّه "وفي حين أصبحت مراكز الدراسات ظاهرة عالمية في السنوات الأخيرة، غير أنّ مراكز الدراسات الأمريكية تتميز عن مثيلاتها في الدول الأخرى بقدرتها على المشاركة بشكل مباشر وغير مباشر في صناعة السياسات، وبتوجه صانعي السياسات الأمريكية نحو تلك المراكز لاستشارتها في مختلف القضايا (7)، وأما في ما يخص العلاقات البنيوية بين مراكز الدراسات والأجهزة الحكومية، فيعتبر هاس أنّ "الباب الدوار بين المراكز البحثية والمؤسسات الحكومية والذي يتيح تبادل الخبرات والخبراء بينهما، فهو يعد خاصية مميزة للسياسة الأميركية وأحد مصادر قوتها. ففي البلاد الأخرى، نجد فصلًا حادًا بين الموظفين الحكوميين وبين المحللين المستقلين، لكن ذلك غير موجود في الولايات المتحدة" (8)، أما على صعيد التمويل يقول أبلسون: "بعيدًا عن نموذج المنظمات المختلفة، لا يتم تقييم نجاح مركز الدراسات عبر إنتاجها المالي، بل بمقدار تأثيرها في صناعة السياسات والرأي العام" (9)، ويضيف مفصلًا: "من بين الـ2000 مركز في الولايات المتحدة الأميركية، هنالك 25% منها فقط تعتبر مستقلة وحرة".(10)

أما الأسباب البنيوية لتنامي تلك الظاهرة بشكل لا نظير له في الولايات المتحدة، فيحاول آبلسون حصرها في ثلاثة أسباب قائلًا: ان اللاتمركز العالي الكثافة في النظام السياسي الأمريكي، مضافًا الى فقدان الانتماء الملزم الى الأحزاب السياسية، وتوفر التمويل الهائل من قبل المؤسسات الرعائية، كل ذلك قد تقاطع لانتاج هذه الشبكة المترامية من مراكز الدراسات في الربع القرن الأخير" (11)، ويشير آبلسون الى أربعة أجيال تشكل المسار التاريخي لتشكيل شبكة مراكز الابحاث الأميركية، ويعرفها بالتالي: 
- الجيل الأول: مراكز الدراسات كمؤسسات سياسية بحثية
- الجيل الثاني: نشوء المراكز المتعاقدة مع الدولة
- الجيل الثالث: صعود نجم المراكز كمؤسسات تقدم الاستشارة
- الجيل الرابع: نشوء المراكز بفعل الإرث الفكري للشخصيات التاريخية في السياسة الأمريكية. (12)

وقد لجأت تلك المراكز، سعيًا خلف توسيع مدى تأثيرها ليشمل النخب والرأي العام ووسائل الاعلام المعاصرة والمختلفة والمتنوعة، إلى نشر جزء كبير من إنتاجها الفكري والسياسي، مع الإبقاء على جزء آخر تحت درجة السرية، قد يكشف لاحقًا. وبفضل ذلك المسار غدا لمراكز الدراسات دورًا كبيرًا في بناء الرأي العام النخبوي وغير النخبوي، وبالتالي شكلت قوة ضغط كبيرة وفعالة في توجيه القرار. ويعتبر هاس أنّ ثمة حاجة جوهرية لاندفاع تلك المؤسسات البحثية نحو الإعلام للاستفادة منه كطريق لتحقيق أكبر مجال ممكن للتأثير، فيقول: "لم يكن من السهل جذب انتباه صانعي السياسات المشغولين دائمًا والمغرقين أصلًا في سيل المعلومات. ولتخطي تلك العقبة، احتاجت مراكز الدراسات إلى النفاذ في القنوات العديدة للإعلام والاعتماد على استراتيجات تسويقية لطروحاتها من قبيل: نشر المقالات والكتب والأبحاث المتزامنة مع طرح القضايا، الظهور بشكل دوري على قنوات التلفاز، الكتابة في صفحات الرأي العام، والظهور في المقابلات الصحافية، وإنتاج أوراق بحثية سهلة القراءة وأوراق العمل، وإنشاء مواقع الانترنت، وكذلك تقديم المحاضرات العلمية أمام لجان وأعضاء الكونغرس بما يشكل مدخلًا هامًا للتأثير في صناعة السياسات". (13)

بنيويًا، تتشكل هذه المراكز بفعل سعي قوى الضغط وتجمعات المصالح نحو منهجية تأثيرها في السياسات الداخلية والخارجية للدولة، وتحصل هذه المراكز على دعم مالي من قبل الدولة بشكل منظم، ولا تستطيع هذه المراكز تحصيل تمويلها من خلال بيع منتجاتها إلا بشكل جزئي لا يكاد يذكر. ويشير البروفسور في جامعة وسترن أونتاريو، دونالد آبلسون إلى أنّه "وبالرغم من بعض الفوارق الأساسية بين مراكز الدراسات وتجمعات المصالح، فإنّ التمييز بين خصائص كل منهما قد أصبح غير مجديًا مع مرور الوقت". (14) 

إذن، مراكز الدراسات بنية مركبة من تقاطع حاجات المؤسسة البيروقراطية الرسمية مع مصالح القطاعات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والإيديولوجية في المجتمع، ولذلك فإنّ تقييم ما يصدر عنها يحتاج إلى مجموعة من المحددات التي تأخذ بعين الاعتبار ذلك التركيب، وكذلك ما يفرض نفسه من معايير بنيوية ترتبط بقدرات كل مركز على حدة.
 
مصادر: 
 

  

أضيف بتاريخ: 11/08/2015