مقالات خارجيّة

كيف تستهدف أميركا «حزب الله»؟

كيف تستهدف أميركا «حزب الله»؟
حسام مطر

ست سنوات على نهاية الحرب الإسرائيلية على لبنان والحرب التي حفرت عميقاً في الوعي السياسي - العسكري الإسرائيلي شكلت حافزاً لموجة من الدراسات والأبحاث العسكرية والإستراتيجية في تل أبيب وواشنطن، وكانت الخلاصة الأهم: لا يهزم حزب الله عسكرياً. من تلك الخلاصة تشكلت ملامح السياسة الجديدة: تغيير الملعب واللعبة والأدوات والقواعد. إنها سياسة الدمج بين القوة الناعمة والصلبة أو ما يحلو لجوزيف ناي تسميته «بالقوة الذكية»، وإن كانت عبارة ناي تلك غير موفقة تماماً فالأصح أنها «إستراتيجية ذكية»، أو كما عاد وأطلق عليه ناي «الإستراتيجية الليبرالية ـ الواقعية». إذاً هي ست سنوات من حرب جديدة، خلاصة تجارب ودراسات وأبحاث، مجبولة بالدم والهزائم والاستنزاف الاميركي - الإسرائيلي في العراق وأفغانستان ولبنان.

خيار القوة الناعمة: استهداف الحاضنة البشرية
القوة الناعمة ـ بحسب منظريها - من شأنها ترميم شرعية الولايات المتحدة في المنطقة وتحد من النزف الاميركي في الموارد والقدرات، وتفتح مسارات جديدة للتأثير والنفوذ، وهو ما يتيح لواشنطن إعادة إنتاج هيمنتها بما يتلاءم مع بنية القوة في الشرق الاوسط. لقد كان انطونيو غرامشي مدركاً ذلك منذ العام 1925 بقوله «إن إحدى العقبات الرئيسية أمام التغيير هي أن القوى المهيمنة تعيد إنتاج ايديولوجية الهيمنة». 

تستند فكرة القوة الناعمة إلى تغيير الأفكار والقيم والمعايير والتفضيلات لدى المستهدف بما يسمح لقوة الهيمنة بإعادة إنتاج هوية ومصالح المستهدف بالشكل الذي يلائمها. 
إذاً هي قوة لا تستند الى القهر والزجر بل الى ثلاث «وسائل تعاونية»: الجذب والإقناع وتحديد الاجندات (جوزيف ناي ـ كتاب مستقبل القوة، 2011). القوة هنا ليست أمراً «تملكياً» أي تحدد فقط بما يحوزه طرف ما من موارد (كما في القوة الصلبة) بل هي «علاقة تبادلية» أي ليس لها قيمة ثابتة بل متغيرة بحسب الخصم المقابل وإطار الصراع وزمانه ومكانه ووسائله. 
وعليه وإن كان يمكن قياس القوة الصلبة من خلال المدخلات، فإن القوة الناعمة تقاس مبدئياً بالمخرجات ولذلك يحتل المستهدف أهمية وازنة في تحديد هذه القوة. 
فالقوة الناعمة لا يمكن قياس نتائجها إلا بناء على المعاني والأفكار التي كوّنها المستهدف بُعيد إخضاعه لتأثيرات هذه القوة. 

إن فعالية القوة الناعمة تتحدد غالباً بمدى ما تحققه من قبول وشرعية وانجذاب عند المستهدف. 
تمتاز الإستراتيجية المتبعة منذ حرب 2006 بخصائص عدة وأهمها: أنها متمحورة حول السكان، وليس العدو بذاته، أي تستهدف البيئة الحاضنة للمقاومة على مختلف مستوياتها المحلية - الوطنية. ما فوق الوطنية، ثانياً يغلب عليها الجهد المدني - السياسي. ثالثاً، هي مركبة على مستوى الأدوات والفاعلين، ورابعاً تعتمد على معالجة «جذور» حالة المقاومة وليس ظواهرها. إلا أن الخاصية الأولى هي الأبرز فمنذ 2006 نقل المحور الأميركي جهوده الى المستوى المجتمعي، أي الى مستوى القيم والافكار واللغة والخطاب والمفردات والهوية، لإعادة تشكيل كاملة لحالة «المقاومة» وإنتاج صورة جديدة لها. 

وبحسب الدليل الأميركي فإن عزل المقاومة شعبياً يتحقق عبر: 
أ- قطع العلاقات المالية والايديولوجية وحالة الخوف بين المقاومة والسكان. أي أن الرؤية الأميركية تصنف العلاقة بين الطرفين بناء على دوافع ثلاثة: المنفعة الرضوخ والانتماء العقائدي. وعليه فالمطلوب هو برامج وسياسات تهدف الى تأمين جملة من الخدمات والمنافع سواء عبر أجهزة الدولة، أو عبر منظمات وأحزاب حليفة أو عبر برامج دعم وتوظيف خارجية حكومية وغير حكومية بما يحد من فعالية الدافع الاول ويخلق بديلاً اقتصاديا داخل البيئة الشيعية بالتحديد. 
يضاف الى ذلك السعي الى إضعاف البنية العقائدية والدينية في الوسط الشيعي، وأخيراً تشجيع حالة الرفض والتمرد على خيارات المقاومة السياسية تحت عناوين مختلفة.

ب - البحث عن خطوط التفسخ، أي حيث يكون تقاطع المصالح بين المقاومة وطرف مؤيد لها أو حليف هو الأضعف، ثم القيام بوضع إسفين في هذا الفسخ عبر استخدام أسلوب العصا والجزرة، وهذا ما تشجعه الولايات المتحدة من خلال استقطاب أو إخافة القوى الحليفة للمقاومة، لا سيما مع من تعتقد واشنطن ان علاقتهم بالمقاومة ظرفية أو هشة، وهو ما حاولته مع حركة أمل والتيار الوطني الحر وبعض القوى السنية، ويبدو من هذه الناحية أن نجاحها كان محصوراً الى حد كبير بالبيئة السنية لأسباب خاصة.


جدلية المقاومة والحكومة
تفترض الاستراتيجية الأميركية كما يظهر في الدليل المذكور، ان مواجهة المقاومة تقتضي تمتين سلطة الحكومة الشرعية، إذ إن نفوذ أحدهما مرتبط بالآخر، أي يتحركان آلياً بطريقة متعاكسة. إن كل جهد يعزز سلطة الحكومة يقضم من نفوذ المقاومة. بهذا المعنى تستند فعالية مكافحة التمرد/ المقاومة إلى تحقيق توازن دقيق بين بُعدين: بُعد «تدميري» لحركة التمرد/المقاومة وبُعد «بنائي» لحكومة شرعية وفعالة. ويستند قياس هذه الفعالية الى النقاط التالية:

- إذا أصبحت الحكومة تتمتع بالشرعية مع وجود مؤسسات فعالة على كل المستويات لتلبية حاجات السكان بما فيها من آليات لمواجهة المظالم التي كان يستغلها المتمردون/ المقاومة.

- إذا تم تهميش وعزل وفصل حركة التمرد/ المقاومة وقادتها عن السكان، وهذا يتم بصور مختلفة منها: إشاعة قيم وسلوكيات مختلفة عن عقيدة المقاومة الدينية والسياسية، شيطنة المقاومة بإظهارها ميليشيا مذهبية إجرامية غارقة في الفساد الداخلي ومتعطشة للعنف (حملة أحب الحياة)، الترويج لفكرة تبعيتها لجهات خارجية، إشاعة الشك حول صدقية قيادتها، وإبراز تناقض المصالح بينها وبين شرائح اجتماعية مختلفة.

- إذا تم حل أو إنهاء حال التعبئة أو دمج قوات المتمردين/المقاومة المسلحة بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولة، وهو «للمصادفة» ما تطرحه بعض قوى 14 آذار في سياق الحديث عن حل «لمشكلة» سلاح المقاومة، كالفكرة القائلة بدمجه بالجيش اللبناني.

استفادت واشنطن من الفراغ السياسي - الأمني الذي تركه الانسحاب السوري من لبنان لبناء حالة محلية هدفها استنزاف المقاومة وعزلها. بما أن المطلوب هو إظهار الحزب كميليشيا مذهبية خارجة على الشرعية الوطنية كان لا بد من وضعها في حال صدام مع السلطات الشرعية، لذا كان فوز 14 آذار في الانتخابات ضرورياً، وهو ما كان، لا سيما بعد الانقلاب على التحالف الرباعي ولاحقاً خروج الوزراء الشيعة من الحكومة. طوال تلك الفترة الممتدة من 2005 اعتقدت واشنطن أن بإمكانها عزل المقاومة عن السلطة كلياً تمهيداً للصدام معها، وفي سبيل ذلك قدمت واشنطن دعماً مادياً ولوجيستياً بارزاً للقوات الأمنية اللبنانية، لا سيما قوى الأمن الداخلي. ولكن التركيبة اللبنانية وقوة المقاومة السياسية ومروحة تحالفاتها السياسية حالت دون إقصاء الحزب وعزله، وبقي الصدام مع الحزب في أغلبه من داخل الحكومة وليس من خارجها. وبالنتيجة تحولت سياسة واشنطن نحو إغراق الحزب في الفوضى الداخلية، ولا سيما في السنتين الأخيرتين، أي محاولة إغراقه في فوضى السلطة، بفراغها وفسادها.
المعرفة والتأثير في الإستراتيجية الأميركية

إن استراتيجية التأثير يجب ان:

أ- تخاطب الدوافع العقائدية، والاجتماعية، والثقافية والسياسية التي تؤثر أو تولد حساً بالمصلحة العامة والهوية المشتركة لدى السكان المستهدفين والولايات المتحدة. في هذا السياق نستذكر تكرار 14 آذار لعبارة «تقاطع المصالح مع الولايات المتحدة» كما في مسألة سلاح المقاومة، والموقف من سوريا وإيران، ورفض مساندة المقاومة الفلسطينية وكل ذلك بحجج ظاهرها السيادة والحرية والاستقلال.

ب- كما يجب أن تسعى استراتيجية التأثير الى تهميش أيديولوجية المتمردين بين السكان وكذلك الى كشف التوترات في الدوافع داخل حركة المتمردين، وهو ما يجري من خلال بث أخبار وشائعات عن دوافع مالية، وإجرامية، ومذهبية، وسلطوية لمراكز القرار في حزب الله.

في سبيل رفع فعالية التأثير من الأفضل أن تتولى جهات محلية توجيه الرسائل المطلوبة للتأثير على السكان (مسؤولين رسميين, قوى سياسية، إعلاميين)، كما أن هذه الرسائل يجب أن تكون بسيطة، قابلة للرسوخ في الذاكرة. 
وهذا يستلزم «تحليلاً تفصيلياً للجمهور» لكل جزء متمايز من السكان (شيعة، سنة، مسيحيين..) بالإضافة الى مقاييس موثوقة لقياس هذه الفعالية. فمثلاً في الخطاب الموجه للمسيحيين يتم التركيز على الرسائل التي تبرز تناقض سلاح المقاومة مع مفهوم الدولة والشرعية، مع السنّة التركيز على الهيمنة السياسية والمذهبية للمقاومة، مع الشيعة على الأعباء والمخاطر التي ينتجها سلوك الحزب على الشيعة ككل. 

يعتبر الإعلام بكل تنويعاته هو الوسيلة الأبرز في توجيه هذه الرسائل. ولكن من التحولات التي برز في السنوات الأخيرة، الاعتماد الأميركي على وسائل إعلام محلية، لإيصال الرسائل، وذلك لكونها أكثر قدرة على محاكاة الخصوصيات، ولا تثير الشبهة والريبة واكثر وصولاً للمشاهد وكذلك أقل كلفة من تشييد وسائل إعلام أميركية تبث باللغة العربية. 
فمؤسسة راند الأميركية مثلاً أوصت بـ«أن راديو «سوا» و«الحرة» جرى تصورهما كأدوات للحكومة الاميركية، ورغم كلفتهما العالية إلا أنهما لم يحققا نتائج في تشكيل مواقف ايجابية تجاه الولايات المتحدة. إننا نعتقد أن التمويل المبذول لإذاعة سوا وقناة الحرة من الافضل أن يوجه الى وسائل الاعلام المحلية والصحافيين المحليين المؤيدين للديموقراطية والتعددية». (بناء شبكات إسلامية معتدلة، 2007). 

وفي تسريبات «ويكيليكس» يشير السفير الأميركي في السعودية الى تأثير أحد البرامج الأميركية التي تبثها MBC على المجتمع السعودي والمرأة تحديداً. وفي السنوات الأخيرة يمكن ملاحظة الكم اللافت من المواقع الإلكترونية والصحف والقنوات التلفزيونية اللبنانية والعربية التي تكرس جهداً وموارد للتركيز على «حزب الله» وهي تتصف بتمويل سخي وتقنيات عالية وقدرة متقدمة للوصول الى الجمهور.

وفي سياق «التأثير» ولكن من الجهة المقابلة يجب على استراتيجية مواجهة المقاومة - بحسب الدليل المذكور - أن «تمنع الخصم من جمع المعلومات وكذلك من استخدامها للتأثير على البيئة المعنية. ويجب ان تكون الرسائل الموجهة كردة فعل على رسائل الخصم سريعة لمنع رسائله من الرسوخ في ذهن السكان». 

لا يكاد ينهي الأمين العام لحزب الله خطاباً إلا وتتوالى الردود عليه خلال دقائق وعلى مدى أيام، والهدف التشويش على رسالة الخطاب ووضعها في متاهة الردود المتبادلة والصخب الإعلامي. في السياق ذاته يجري أحياناً التركيز على تفاصيل غير ذات أهمية رافقت ظهور السيد، مثلاً الضجة التي أثيرت حول وشم سيف ذي الفقار على معصم أحد مرافقي السيد نصر الله أثناء إطلالته العاشورائية المفاجئة على المنصة العام الماضي، حتى أن صحيفة «الشرق الأوسط» أفردت مقالاً خاصاً للحديث عن هذا الوشم وأثارته من زاوية مذهبية.
سعت الإستراتيجية الأميركية تجاه حزب الله خلال السنوات الست الماضية الى أربع غايات أساسية: تقليص شرعية المقاومة، تعميق الانقسام الوطني حول دورها، عزلها على المستوى الخارجي، وتقييد خياراتها السياسية وقدرتها على المبادرة. هذه الغايات من شأنها عند حد معين أن تجعل من هزيمة المقاومة عسكرياً أمراً واقعياً كما يعتقد الأميركيون. في الخلاصة، بدل «اصطياد» حزب الله تسعى واشنطن الى تلويث المحيط الذي يسبح فيه، أي جعل الحزب «جسماً غريباً» داخل البيئة الوطنية والإقليمية بحيث تنبذه تلك البيئة التي يتحرك فيها ومنها، وحينها فقط تصبح فرضية القضاء عليه عسكرياً متاحة. وعليه، في المقابل هناك حاجة ملحة لاستراتيجية شاملة مقابلة وليس فقط جملة ردود فعل عشوائية، والأهم أن المواجهة وأكثر من أي وقت مضى ليست مسؤولية الحزب كمنظمة فقط، بل مسؤولية كل فرد وجماعة - مهما اختلف موقعها - وقفوا في 14 آب 2006 وقالوا بالبسمة والدمع: انتصرنا.

كاتب وأكاديمي ـ لبنان
جريدة السفير


أضيف بتاريخ: 13/08/2015