مقالات داخليّة

البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة

 

البيئة المعرفية الإسلامية والمفاهيم الوافدة 

السيد علي عباس الموسوي *

رؤية في المفهوم القدوة

إذا كان الصراع قد احتدم بين مدرستين تبنّت إحداهما القول بأصالة الفرد والأخرى القول بأصالة المجتمع فإن الإسلام نادى بأصالتهما معا.
وهذا الصراع المرتبط بمعرفة الإنسان له تأثيراته على النظرة التي يملكها صاحب الرؤية عن دور الإنسان ومكانته في هذه الأرض وعن العوامل المكونة لهذا الإنسان. ونسعى في هذه الدراسة لتقويم دور المفاهيم لا سيما تلك التي تتحول إلى شعار تنادي به طائفة من الناس في داخل المجتمع في بناء الشخصية الإنسانية ولنعالج الخطر الذي يحدق بالإنسان المسلم جراء بعض المفاهيم الوافدة إلى مجتمعاتنا الإسلامية.

العوامل المكوِّنة للشخصية الإنسانية
لا يسع لإنسان أن ينكر أن هذه الشخصية الإنسانية والتي لها وجودها الحقيقي في الخارج هي وليدة عوامل عديدة تؤدي إلى خروجها بالصورة التي هي عليه.
نعم ما نؤكّد عليه هو أن هذه العوامل لا تسلب الإنسان حرية الاختيار او فقل لا تبرر له فراره من المسؤولية التي ألقاها الله عز وجل عليه وامره بأدائها وحدد له العقوبة او الثواب على ما يقوم به في سبيل ذلك.

إن نظرية الجبر الاجتماعي او غير الاجتماعي هي نظرية مرفوضة ومردودة في أبحاث العقيدة الإسلامية عندما أسس الكلام الإسلامي لحرية الاختيار الإنساني مؤكدا بالأدلة والبراهين على أن المحيط الاجتماعي بل وسائر العوامل المؤسسة للشخصية الإنسانية لا تصل في تأثيرها ولا في تأسيسها إلى درجة سلب الإنسان اختياره او حريته.

البيئة المعرفية كعامل مولد للشخصية الإنسانية
من العوامل المكونة للشخصية الاجتماعية ما يطلق عليه تسمية البيئة المعرفية. ونقصد من البيئة المعرفية هي مجموعة المفاهيم التي تحيط بهذا الإنسان والتي تتردد على الألسن المحيطة به فيؤدي ذلك إلى ولادة نسيج معرفي يكون له تأثيره المباشر او غير المباشر على سلوك الإنسان وعلى تصرفاته وعلى مواقفه وعلى آرائه وعلى مختلف ما يرتبط بحياته.

وتشتد أهمية هذه البيئة المعرفية ويعظم خطرها وتأثيرها متى ارتبطت بموضوع مصيري كتلك البيئة المعرفية المرتبطة بالرؤية الكونية أي النظرة إلى الكون وإلى الحياة وإلى وجود الإنسان نفسه والغاية من وجوده.

المفاهيم ودورها في تأسيس البيئة المعرفية
إذا كانت البيئة المعرفية هي عبارة عن مجموعة من المفاهيم المكونة لشخصية الإنسان فإن خطر هذه المفاهيم وأهميتها تظهر بملاحظة أهمية وخطر البيئة المعرفية.

والمفهوم وإن كان التعبير عنه يأخذ أكثر أنواع الاختصار ولكنه يختزن في داخله كما هائلا من المضامين المعرفية التي تحكي عن الإطار النظري للفكر الذي تنتمي إليه، يشهد لذلك الدلالات الكثيرة التي يحويها المفهوم على بساطته في التعبير بنحو يلتفت المتلقي لهذا المفهوم إلى هذه الدلالات بشعور منه او بغير شعور.

وتكمن أهمية المفهوم بأنّه يصبح القائد الذي تسير خلفه الناس، تتأثر به وتخضع له، وأهمية أي قائد لأي مجتمع ما تنبع من مدى قدرته على استخدام هذه المفاهيم في التأثير على الناس، وجعلها تسير خلفه، وتعلن الطاعة له.

وهذه المفاهيم المكونة للبيئة المعرفية اعتنى بها الاجتماع الإسلامي فسعى إلى الترويج لما يطلق عليه في المصطلح بـ (الشعائر) ووظيفة هذه الشعائر هي فرض هذه الحالة العامة من التعلق بالبيئة المعرفية للإسلام من خلال التأثير على عقلية الإنسان الذي يعيش في مجتمع المسلم بحيث يتقولب الفرد في هذا المجتمع ضمن ما تؤدي إليه هذه المفاهيم.

والذي يشهد بوضوح على دور المفاهيم في تكوين البيئة المعرفية ودور تبدل المفاهيم في تبدل الشخصية الإنسانية رواية فريدة في مضمونها ودلالاتها ومشهورة على الألسن وهي قول رسول الله في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام، قال : قال النبي صلى الله عليه وآله : كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له : ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال : نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له : يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال : نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا1.

إذا تغير مفاهيم المعروف والمنكر أي تبدل البيئة المعرفية للإنسان سوف يؤدي بوضوح إلى تغير سلوكه الاجتماعي في تعامله مع الظواهر وتصرفه وموقفه اتجاهها وهو ما تشير إليه الرواية بوضوح.

كيف تبنى المفاهيم
لو أردنا أن نسبر غور المفاهيم الموجودة في مجتمع ما فإننا نجد أن هذه المفاهيم على نوعين:
1ـ المفاهيم الوليدة: وهي عبارة عن المفاهيم التي تنشأ نتيجة المعرفة التي يملكها الإنسان، فإن تبني الإنسان للإسلام كدين سوف يفرض على الإنسان المسلم التعامل مع مجموعة من المفاهيم التي هي وليدة تلك العقيدة التي يحملها.
وخصوصية هذه المفاهيم هي أنها وليدة للاعتقاد الذي يحمله هذا الإنسان.

2ـ المفاهيم المستولدة: وهي عبارة عن المفاهيم التي لا تنشأ من اعتقاد مسبق وإنما هي مفاهيم تستولدها جماعات من الناس عن قصد ويراد منه أن تؤثر على فكر الإنسان لتقوم بعملية تغيير فيه بنحو يؤدي إلى تغيير سلوكه او موقفه او طريقة تعامله مع أي ظاهرة من الظواهر.
فهذه المفاهيم تسبق الفكرة في ذهن الإنسان، وهي في الغالب تكون مفاهيم مصممة عن سبق تصور للهدف الذي ترمي إليه من قبل صناعها.

المفاهيم القدوة
إذا كانت المفاهيم المستولدة ذات تأثير على شخصية الإنسان فإن هذه المفاهيم سوف تلعب دور القدوة في تحريك الإنسان ودفعه باتجاه محدد.
نعم ليس كل مفهوم يتحول ليشكل قدوة للسلوك الإنساني والاجتماعي، ولكن ثمة من المفاهيم ما يصبح شعارا يتم التداول به في المحيط الاجتماعي ويراد له أن يكون قدوة يستحضره الإنسان في كل سلوك يقوم به او موقف يسعى لاتّخاذه.

نماذج من المفاهيم القدوة قرآنيا
تعرض القرآن الكريم لمجموعة من المفاهيم التي كانت تشكل قدوة لبعض الأفراد جعلوها شعارا لهم في تبرير اتجاههم الذي يسيرون عليه ومن هذه المفاهيم ما تعرض له القرآن كنموذج سلبي ومنها ما تعرض له كنموذج إيجابي.

أ ـ اتباع الآباء أو السنن القومية
تتحدث آيات القرآن الكريم عن حجة المشركين في رفضهم لدعوة التوحيد التي جاءهم بها الأنبياء، وهذه الحجة كانت تقليد الآباء، او ما يطلق عليه اليوم في عنوانه الجديد (السنن القومية).

قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون (الزخرف، 21).
وهذا المفهوم ـ الشعار شكل في لغة كل أمة ترفض دعوة الأنبياء أساسا لتبرير رفض هذه الدعوة، بل واعتبر أساسا في نشر حالة الرفض بين الناس.

وهذا المفهوم الذي سعى الكفار لبثّه في مجتمعهم في سعيهم لثني الناس عن اتباع دعوة الأنبياء هو نفس شعار السنن القومية التي ينادي بها بعضهم اليوم لأجل مواجهة دعوة الإسلام التي تأتي ممن لا يرتبط بالقومية التي يصطلحون عليها2.

والقرآن يتحدث عن هذا كقاعدة عامة يتبعها الناس في كل أمة يرسل إليها رسول ليهديها إلى الحق ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (الزخرف، 23).

ب ـ اتباع الحق
أسس القرآن الكريم في مقام رده على المفهوم ـ الشعار المتمثل بتقليد الآباء لمفهوم اتباع الحق الذي يصل إليه الإنسان من خلال التفكير بعقله دون تقليد الآباء، فقال تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(الزخرف، 24).

نماذج معاصرة للغزو المفاهيمي
1ـ مفهوم السلام

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والذي شكل سقوطا للنظام الثنائي القطب عالميا، طرح الغرب الأمريكي شعار النظام الأحادي القطب، وابتدأ عصر الهيمنة الأمريكية على العالم، ورسمت السياسة الأمريكية سياستها للسيطرة على العالم، ومن ذلك العالم الإسلامي الذي كان ينأى بنفسه عن الصراع لاعبا على وتر الثنائية القطبية، ولكن المواجهة احتدمت والصراع أصبح مباشراً في ظل النظام العالمي الجديد.

سعت الولايات المتحدة الأمريكية لغزو العالم الإسلامي بكل الوسائل المتاحة، وتمثل الغزو الثقافي المفاهيمي عبر طرح شعار السلام.شعار السلام الذي أريد منه الخروج بإسرائيل الدولة المغتصبة من عزلتها قام على أساس حل المشكلة الفلسطينية، وسعى الغرب من خلال الترويج لمفهوم السلام إلى التوصل إلى مآربه.

السلام المطروح يتناسى كافة حقوق شعب أخرج من بلده، كما يتناسى تاريخا من المجازر التي ارتكبت في حقه.
يكفي لمن يقرأ المشهد السياسي والفكري والثقافي في العالم العربي بعد مؤتمر مدريد للسلام أن يشهد كيف تحول مفهوم السلام الغربي إلى مفهوم لا يمكن لأحد أن يتجاوزه او يرفضه، بل إن الكثير من النخب المثقفة في العالم الإسلامي أصبحت تراه ضرورة دون أن تدرك أبعاده، وأصبح رفض هذا المفهوم بالنحو الذي يروج له الغرب يعني الأصولية والتشدد، وهو مخالف لحالة الاعتدال. وتصدى الكثير من النخب للترويج لهذا المفهوم فكان بذلك خادما مخلصا للغزو المفاهيمي الغربي.

2ـ مفهوم الحرية
لعلنا لا نبالغ القول بأنّ هذا المفهوم هو من أكثر المفاهيم الغربية التي غزت عالمنا الإسلامي، فبعد قيام ما يسمى بعصر النهضة على أساس مفهوم الحرية، تم تصدير هذا المفهوم إلى العالم الإسلامي. ومفهوم الحرية في الغرب انطلق من نقطة رئيسة هي رفض الدين. فالحرية في الغرب هي حرية اتجاه القيود الدينية، وهي تحرر من قيود الكنيسة، وقد أريد لهذا المفهوم أن يكون بابا لجعل المسلمين يبتعدون عن دينهم كما ابتعد الغربيون عن دينهم.

توسع استخدام مفهوم الحرية في العالم الإسلامي، فتمسك به دعاة التحرر واستخدموه أداة لأجل رفض بعض التعاليم الدينية، ويعود الكثير من التفلت (لا التحرر) الذي عاشته المرأة في العالم الإسلامي إلى استغلال بعض المستغربين لهذا المفهوم لدعوتها إلى رفض الكثير من القيم الدينية التي كانت تعيشها، فأصبحت الحرية تعني ترك الحجاب، وتعني الاختلاط ودخول المرأة في المجتمع دون مراعاة لخصوصيتها التي جعلها الإسلام لها، وصانها من خلال بعض الأحكام التي فرض التعامل بها، والنظم التي جعلها في داخل المجتمع الإسلامي.

3ـ مفهوم عيش حياتك
أدى التفكك الأسري في الغرب، ثم التفكك الاجتماعي إلى رفض أي نوع من التواصل الاجتماعي بين أفراده او الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع، فأصبح الفرد في الغرب مسؤولا عن نفسه فقط، لا تحركه سوى مصالحة الفردية، وفرض النظام الرأسمالي بما يحمله من قوانين اقتصادية جشعا لا حد له، ومن المفاهيم التي طرحها الغرب للتأثير على أنماط التفكير مفهوم (عيش حياتك) الذي نراه يحتل مساحة في الترويج الإعلامي مستخدما كافة الأساليب للتأثير على المجتمع المسلم.

وهذا المفهوم يقف في النقطة المقابلة تماما للتعليم الإسلامي الذي ركّز على المسؤولية الاجتماعية فيما فرضه من تربية الأبناء في الأسرة، وتربية المجتمع من خلال فريضة التعليم، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الإسلام يرى أن صيانة المجتمع الإسلامي هو من الواجبات الكفائية التي تفرض على كل مسلم التفكير بمجتمعه وبأمته، وأنه جزء لا ينفصل عن المكون الاجتماعي العام، ولا يحق له إطلاقا الهروب من مسؤوليته، بل هو محاسب على أي تقصير في هذا المجال.

4ـ مفهوم (ثقافة الحياة) أنا أحب الحياة
من الأفكار التي تم الترويج لها للتأثير على السلوك الاجتماعي في الداخل الإسلامي مفهوم ثقافة الحياة، وأريد لهذا المفهوم أن يواجه ثقافة المواجهة والتحدي والإباء والرفض الذي سارت عليه حركات المقاومة في مجتمعنا المسلم أمام المشروع الصهيوني العالمي.

تم السعي من خلال هذا المفهوم واستخدام مختلف الأساليب لبثه في نفوس الناس إلى تصوير حركات المقاومة على أنها حركة تروج للموت، وإن الحياة لا قيمة لها لديهم، وأن الصحيح هو الموقف المقابل الذي يرغب في هذه الحياة ويرغب في العيش لا الموت.

5ـ مفهوم التنمية والتخلف
لهذا نجد مثلاً أن مفهومي (التنمية والتخلف) مرتبطان ارتباطا جوهرياً بالفضاء المعرفي الذي نشأ فيها.. فالتخلف يعني التأخر الزمني والحضاري عن الأمم الأوروبية.. والتنمية تعني وجود المظاهر الاقتصادية والاستهلاكية في المجتمع على شاكلة الدول الأوروبية.. وبهذا يصبح الناظم لدلالات المفاهيم هو الفضاء المعرفي والعقدي الذي نشأت فيه..

لهذا نجد أقطاب الفكر التنموي الغربي، يرون أن التحديث من الناحية التاريخية، هو عملية التحول نحو تلك الأنماط من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تطورت في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر.. ويرى (بارسونز وليرنرو باول) "أن التحديث عملية ثقافية تشمل تبني قيم ومواقف ملائمة للطموح العملي، والتجديد العقلاني وتجاه الإنجاز، بدلا من القيم السائدة في المجتمع التقليديًً. (راجع مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 39).

وهذا يعني أن النموذج الغربي، أصبح معيارا تقاس عليه بقية النماذج والشعوب.. والسبب في ذلك، تلك الاستعارة المصطلحية والمفهومية، وتطبيقها على واقع ومنظومة معرفية واجتماعية مغايرة للمنظومة التي ولدت فيها تلك المفاهيم والمصطلحات المستعارة3.

سبل مواجهة المفاهيم الوافدة
1ـ الترويج للمفاهيم الإسلامية الأصيلة

إن تأصيل المفاهيم الإسلامية في البيئة المعرفية لمجتمعنا المسلم هو الخطوة الأولى الكفيلة بتحصين هذا المجتمع من خطر المفاهيم الوافدة. فعندما يعيش الإنسان المسلم المفاهيم الإسلامية في كيانه ويعي دلالتها وأبعادها يتمكّن من مواجهة الخطر المحدق به جراء هذه المفاهيم.

ففي مقابل مفهوم الحرية الوافد من الغرب ليشكل قدوة للتحرر من قيود الدين، يمكن لمفهوم العبودية لله عز وجل إذا تعمق معناه في النفس الإنسانية أن يحد من تأثير مفهوم الحرية. فالمعرفة بالخالق وإدراك الإنسان لحقيقة نفسه أمام خالقه تدفعه إلى إظهار تمام العبودية للحق تعالى وبهذا يأمن من خطر التمسك ببعض المفاهيم الوافدة التي تدعوه إلى رفض هذه العبودية؛ لأنّ الحرية بمفهومها الوافد من الغرب تقوم في الأساس على رفض العبودية حتى لله عز وجل بل وإنكار وجوده.

2ـ توضيح التباسات بعض المفاهيم
إن الكثير من المفاهيم الوافدة، التي أريد لها أن تكون حرابا في الغزو الثقافي للعالم الإسلامي، تعتمد الالتباس المفهومي لكي يتم استغلالها في الوصول إلى الأهداف المطلوبة، فتبقى هذه المفاهيم بعناوينها القابلة للتقلب والتبدل خاضعة للمصلحة التي يراها مروجوها او السائرون خلفها، وكمثال على ذلك مفهوم الحرية التي أخذت مفعولها من الثورة الفرنسية وأحداث الانقلابات الجبارة في الدولة العثمانية والفارسية، والتأثير كله لإجمالها وجمالها السطحي الفاتن، وإلا فلا يستطيع العلم أن يحدها بحد معقول يتفق عليه. ومثلها كلمة " الوطن " الخلابة التي استغلها ساسة الغرب لتمزيق بعض الدول الكبرى كالدولة العثمانية. وربما يتعذر على الباحث أن يعرف اثنين كانا يتفقان على معنى واحد واضح كل الاتفاق يوم ظهور هذه الكلمة في قاموس النهضة الحديثة، فما هي مميزات الوطن؟

أهي اللغة أم لهجتها، أم اللباس، أم مساحة الأرض، أم اسم القطر والبلد؟ بل كل هذا غير مفهوم حتى الآن على وجه تتفق عليه جميع الناس والأمم. ومع ذلك نجد كل واحد منا في البلاد العربية يدافع عن وطنه، فلماذا لا تكون البلاد العربية أو البلاد الإسلامية كلها وطنا واحدا؟ 4

إن مواجهة هذه المفاهيم لا بد وأن تعتمد أسلوب بيان ما يكتنف هذه المفاهيم من التباسات وطرق الخصم في الاستفادة من هذه الالتباسات.

3ـ الدلالة على مواطن الضعف في المفاهيم المستولدة

إذا كان توسل أصحاب المفاهيم الوافدة بهذه المفاهيم لأجل مآرب خاصة، فإن هذه المفاهيم فيها نقاط من الضعف التي يمكن من خلال الإشارة إلى هذه النقاط من القضاء على مآرب هؤلاء.

فمفهوم ثقافة الحياة أو أنا أحب الحياة، هو من المفاهيم التي تُغفل عمدا الدلالة على نوع الحياة او نحو الحياة التي يريدها الإنسان، فهل هي حياة عزة وكرامة، او أن المطلوب أن يحيا الإنسان هذه الحياة ولو كان في موقف الذل والخنوع؟

لا يشير هؤلاء إطلاقا إلى نوع الحياة الذي يسعون للترويج له، بل يضعون الحياة مقابل الموت، لدعوة الناس إلى الموازنة بين الأمرين، ولكن هل يستطيع هؤلاء أن يجدوا في حياة الذل او في ظل الاحتلال والتعدي الذي تقوم به الدول المستكبرة نوع الحياة المطلوب.

الحذر اليقظة والوعي في مواجهة الغزو المفاهيمي
تشكِّل ثلاثية العناصر التالية: الحذر، اليقظة والوعي حصناً يؤمَن من خلاله على مجتمعنا الإسلامي من غزو المفاهيم الوافدة.
فالحذر عنصر مطلوب لأن الانسياق وراء بعض الشعارات الخلابة حتى من قبل بعض الأوساط التي تسعى لتحصين المجتمع يؤدي إلى تحويل هذه الشعارات إلى مفاهيم قدوة يسير الناس في ظلها مع عدم الأمن من المخاطر.

وأما العنصر الآخر فهو اليقظة والتنبّه للمخاطر التي تحاك من خلال ما يطلقه الغرب من مفاهيم، وهذه المفاهيم تدخل إلى مجتمعنا الإسلامي من أبواب مختلفة وبطرق متعددة، والغفلة عن المنافذ التي تدخل من خلالها سيفسح المجال أمامها للتأثير على فئات مختلفة من مجتمعنا الإسلامي.

وأما العنصر الثالث فهو الوعي، وهذا ما يجب أن تتمتع به النخب، فهي التي تستطيع بامتلاكها للوعي أن تلحظ ما لا يرصده الآخرون في الحراك الثقافي والفكري والاجتماعي.

 

*القدوة الأهمية وتحولات الدور, سلسلة الندوات الفكرية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


* باحث واستاذ في الحوزة العلمية.
1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 16 ص 122
2- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 14 ص 297
3- محمد محفوظ، مقالة بعنوان المصطلح والبيئة المعرفية، جريدة الرياض، العدد 144144- المنشور بتاريخ 11ـ ديسمبر، 2007.
4- المنطق - الشيخ محمد رضا المظفر - ص 116

أضيف بتاريخ: 30/11/2015