الإسلام والإعلاموفوبيا
الإعلام الغربي والإسلام: تشويه وتخويف
تتعرض صورة العالم الإسلامي لكثيرٍ من التشويه والتحريف والتضليل، في أغلب وسائل الإعلام الغربية، التي تروج صورًا نمطية عن الإسلام والمسلمين؛ تثير الشك والريبة والخوف، وتُوجِد أسباب النفور من كل ما له صلة بالدين الإسلامي. ويواجه الإسلام اليوم جملة من التحديات تختلف عن كل الأشكال الأخرى من التحديات التي عرضت له في تاريخه؛ فهي تضع المسلمين أمام اختيار عسير يمس هويتهم وصورتهم ومكانتهم بين الأمم، ويهدد مستقبلهم ويعوق تحقيق أهداف رسالة دينهم ذات الأبعاد الكونية والحضارية.
ومن بين أخطر هذه التحديات انتشار ظاهرة التشويه الإعلامي لصورة الإسلام والمسلمين في العديد من وسائل الإعلام الغربية، مما أدّى إلى تحريف الحقائق وتضليل الرأي العام الغربي، وتأليبه ضد المسلمين في كل مكان، بمن فيهم المسلمون الذين يعيشون في المجتمعات الغربية، والمسلمون الذين هم من الأبناء الأصليين لهذه المجتمعات. ولقد صدر مؤخرًا عن دار الفكر في دمشق كتاب تحت عنوان: "الإسلام والإعلاموفوبيا.. الإعلام الغربي والإسلام: تشويه وتخويف"، للدكتور المحجوب بن سعيد، الخبير الإعلامي المغربي بالمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) في الرباط.
ظاهرة قديمة ومتجددة
ثمة تساؤلات تطرح نفسها عند دراسة ظاهرة الصراع مع الغرب مثل: منذ متَّى بدأ الصراع، هل مع بداية الفتوحات الإسلامية وهزيمة جيوش الروم في بلاد الشام؟ أم عندما غزى الفرنجة البلاد الإسلامية؟ أو مع الاستعمار الحديث؟ ربما كل ذلك..
وليس ثمة شك أنّ العلاقة حملت العديد من الصور والأفكار النمطية، بحيث أصبحت كلمة الإسلام مشحونة بكل صور الماضي، ولهذا فإنّ نشر الصور الكاريكاتيرية والمعلومات المشوهة عن الإسلام في الصحف والمجلات والمحطات الفضائية، ليس وليدًا للحظة الآتية، بل سبقته عمليات تشويه متعددة.
ومن ثم يرصد الكتاب علاقة الإسلام مع وسائل الإعلام الغربية، وكيف تم تشويه صورة الإسلام كدين، وصورة المسلمين، الذين يعتنقون هذا الدين، ويحاولون أن يعيشوا بسلام على هذه الأرض.
يرى الكاتب أنّ صنع الصور النمطية المسيئة إلى الإسلام والمسلمين وترسيخها في العقل الغربي ظاهرة قديمة ومتجددة، فالإسلام أكثر الأديان تعرضًا للإساءة في الغرب، كما أنّ المسلمين هم أكثر شعوب الأرض حظًا من التشويه والتجريح في المجتمعات الغربية. ويدل الرصد التاريخي لتطور تلك الظاهرة على أنّ ساسة الغرب وقادة الرأي فيه كانوا ينظرون ـ دائمًا ـ إلى الإسلام باعتباره يمثل تهديدًا لهم، فاللاهوتيون في العصور الوسطى كانوا قلقين مما أسموه تأثير القيم الإسلامية في القيم المسيحية تأثيرًا تدميريًا، ولذلك رأى هؤلاء أنّ حماية المسيحية من الإسلام لا تكون إلا بضربه عسكريًا، والاستيلاء على أرضه وإقناع معتنقيه باتخاذ المسيحية دينًا. وقد كان هدف الحملات العسكرية الصليبية في المرحلة التالية مواجهة ما أسموه (التهديد الإسلامي) قبل أن يغزو ديار الغرب.
ولم يختلف موقف الغربيين من الإسلام في حقبة الاستعمار، في مطلع القرن العشرين، عن مواقفهم في الحقب السابقة، فقد كانت حركة الاستشراق في مجملها أداة من أدوات مواجهة التهديد الإسلامي المزعوم. وكان المطلوب من هذه الحركة استكشاف معالم العقلية الإسلامية وفهمها فهمًا جيدًا؛ لتسهيل عملية استعمار الشعوب الإسلامية، واستغلال خيرات البلاد الإسلامية. وفي المرحلة المعاصرة، تتسق نظرة الغربيين إلى الإسلام مع تلك المنظومة من الرؤى المعادية الّتي ورثها العقل الغربي. فالإسلام يمثل تهديدًا للغرب كما هو واضح من نظرية زبجنيو برجنسكي عن هلال الأزمات، مرورًا بنظرية برنارد لويس عن عودة الإسلام، وانتهاء بنظرية صاموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات. ونهضة الإسلام بالنسبة إلى هؤلاء جميعًا؛ تعني نهاية الحضارة الغربية، لا باعتبار الإسلام مجرد منافس أيديولوجي فحسب، بل لأنّه أيضًا يمثل تحديًا حضاريًا بالغ الخطورة.
لكل ذلك، فإنّ الكاتب يؤكد أنّ العالم الإسلامي والمسلمين اليوم ليسوا إزاء حالة عداء غربي محدود النطاق والتأثير، بل إنّ الواقع المعاصر يشهد ما أسماه الباحث البريطاني فرد هاليداي ظاهرة معاداة الإسلام، إذ يرى أنّ الاتجاه المعادي للإسلام أخذ يتسع في العالم، وليس في الغرب وحده، مع آواخر الثمانينيات من القرن العشرين، نتيجة لعدد من العوامل، منها انتهاء الحرب الباردة، وذيوع فكرة حلول الإسلام عدوًا للغرب، عوضًا عن الشيوعية التي أفل نجمها بانهيار الاتحاد السوفييتي، ثم أخيرًا صعود التيار اليميني المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. فالغرب لم يعد قادرًا على التعرف على نفسه، بعد انهيار خصمه الشيوعيّة، إلا من خلال تنصيب الإسلام آخر جديدًا، فهو يصنعه صنعًا ليضمنه جميع أنواع السلب أو النفي، التي تمكنه من تحديد هويته هو أي الغرب إيجابيًا. وهكذا يصبح الإسلام وعاء لكل ما لا يرغب فيه الغرب، ولكل ما يخاف منه.
إنّ عودة الإسلام إلى مسرح الأحداث من خلال الصحوة الإسلامية تشكل نقطة بداية إعادة تفعيل خطاب يخيف من الإسلام، يقوم بإنتاجه خبراء الإسلام في الغرب، وتتولى وسائل الإعلام الترويج له وتقديمه وفق نموذج نمطي، تتكثف فيه وحدات ذهنية ضاربة في القدم، تشكلت مع الخطاب الكنسي حول الإسلام في القرون الوسطى.
الصحافة الفرنسية نموذجًا
ولقد اختار الكاتب الصحافة الفرنسية عينة للدراسة، ودرس خصائص رؤية الإعلام الفرنسي للشخصية المسلمة من خلال تحليل مضمون الأعداد الصادرة عن المجلتين الفرنسيتين نوفيل أوبسرفاتور وليكبريس، خلال الفترة من 2001 إلى 2004، لأنّ فرنسا برأيه من أبرز الدول الأوروبية الّتي تتجسد فيها تناقضات العقل الغربي إزاء الإسلام، وتتبلور فيها ـ بجلاء ـ التفاعلات والارتباطات القوية والمستمرة لصيرورة بناء الصور النمطية عن الإسلام والمسلمين. فقد وصل الأمر بالصحافة الفرنسية مؤخرًا إلى حد أنّها ألقت على عاتق المسلمين بأسباب الأزمة الاقتصادية والبطالة، واختلال الأمن والعمليات الإرهابية، وأصبح الناخبون الفرنسيون، في مواقع عدة، يصوتون لأكثر المرشحين عدوانية ضد الإسلام والمسلمين، كما أنّ المجلات الّتي تخصص أعدادًا تدور محاورها حول الإسلام، ترتفع معدلات مبيعاتها 15%.
ويرى الكاتب أنّ الرؤية الفرنسية للإسلام ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإشكالية الحوار الإسلامي في الغرب، التي تتصل بإشكالية كبرى؛ هي إشكالية المغايرة أو الآخرية (نسبة إلى الآخر). فالمغايرة مفهوم حاضر في كل الثقافات، وقائم على أساس ثنائية الاختلاف بين الأنا والآخر. وعلى هذا الأساس فإنّ الرؤية الفرنسية للإسلام هي محصلة تراكمات تاريخية غذتها ـ ولا زالت ـ مجموعة من المواقف القَبْلية الجاهزة والقوالب المشوهة، مما جعل مقاربة الإسلام في فرنسة تراوح مكانها، بل إنها تتنافس مع المقاربة اللاهوتية في لغتها ومحتوياتها.
كما يرى أنّ الرؤية الفرنسية للإسلام تستند إلى أربعة مكونات أساس، أولها الخطاب القروسطي، وهو من إنتاج المؤسسة الدينية التي ظلت تعتبر الإسلام كارثة طبيعية مدمرة، وثانيها الخطاب التنويري، والذي تجسده فلسفة الأنوار، التي تمثل أحد أهم الأركان المؤسسة للفكر الغربي المعاصر، وهي تجمع بين مدح الإسلام وذمه، والإعجاب به واستهجانه، والانبهار به والسخرية منه. وثالث هذه المكونات هو الخطاب الاستشراقي، الذي يصور العرب والمسلمين على أنهم متخلفون ذهنيًا وغير متحضرين وخاملين تتحكم بهم عيوب فطرية، تمنعهم من التطلع، وتجعل حركيتهم مراوحة في المكان نفسه. أما رابع هذه المكونات فهي خطاب الكتاب المدرسي، وهو امتداد للصورة التاريخية التراكمية السلبيّة لهذا الدين وحضارته وأتباعه.
ثلاث محطات
ويذكر الكاتب ثلاث محطات أساسية، مرت بها صورة الإسلام في الإعلام الفرنسي، أولها مرحلة الأحداث المهمة، وتتحدد هذه المرحلة زمنيًا خلال السنوات (1978 ـ 1989م)، فقد كان الإسلام حتى بداية عقد السبعينيات من القرن العشرين بالنسبة إلى الرأي العام الفرنسي دينًا غريبًا، لكن منذ الثورة الإيرانية عام 1979 أصبح موضوعًا للنقاشات العائلية بفعل تغطية إعلامية مكثفة لحدث الثورة الإيرانية، الّتي كان قائدها الإمام الخميني منفيًا في الديار الفرنسية. وبدأت تتبلور ملامح صورة أخرى عن الإسلام، تزامنت مع بروز ظاهرة الهجرة من بلدان المغرب العربي، إذ أولى الإعلام الفرنسي اهتمامًا بالغًا للمهاجرين المغاربة، وجعل الفرنسيين ينظرون إليهم على أنهم تهديد للمجتمع الفرنسي.
أما المحطة الثانية فهي مرحلة ضبط الأقليات والجاليات المسلمة في فرنسا، والتي تمتد من سنة 1990 إلى 2000م، وخلال هذه المرحلة تراجعت صورة إيران، بوصفها ممثلاً للإسلام، لتحل محلها صورة العراق والجزائر. وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين ـ وهي المحطة الثالثة ـ عادت قضية الهجرة لتحتل الواجهة الإعلامية، وتداولت المنابر الإعلامية الفرنسية مصطلح انتفاضة الضواحي لتوصيف حالة المهاجرين المسلمين القادمين من دول المغرب العربي، الذين قاموا بمظاهرات عنيفة واشتباكات دموية مع رجال الشرطة، احتجاجًا على انعدام شروط الحياة الكريمة في أحيائهم الهامشية، فوصف الإعلام الفرنسي هذه الأحياء بالمناطق الخارجة عن القانون.
الحادي عشر من سبتمبر.. مرحلة جديدة
فيما تبدأ المرحلة الرابعة بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، والتي أفرزت تداعيات خطيرة على المسلمين، حيث استفحلت ظاهرة الحقد والكراهية، وسيطرت العقلية الأمنيّة داخل الدولة الفرنسية في تعاملها مع المسلمين، فمنذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر دخل الفرنسيون مرحلة جديدة في التعاطي مع الإسلام والمسلمين، فقد أصبح الحديث الرائج عبر وسائل الإعلام هو المؤامرة الّتي تستهدف أبناء الجاليات المسلمة في فرنسا، من طرف تنظيم القاعدة، مما أدّى إلى سيطرة العقليّة الأمنيّة داخل الدولة الفرنسية، في تعاملها مع المسلمين، فأصبحت المساجد والخطب ولقاءات المسلمين وجمعياتهم خاضعة لرقابة شديدة من طرف وزارة الداخلية ورجال المخابرات. وفي هذا السياق أقدمت الحكومة الفرنسية في ديسمبر 2002م على إنشاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وبذلك انطلقت مرحلة جديدة في تاريخ الجاليات والأقليات المسلمة في فرنسا؛ إذ أصبح يُنظر إليهم على أنهم مسلمو فرنسا، وليس المسلمون في فرنسا. ومما لا شك فيه أنّ الغاية من وراء ذلك كانت هي احتواء العمل الإسلامي في فرنسا من منظور أمني صرف.
وبيَّن الكاتب أنّ ما يميز مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر 2001، الانتشار الواسع لثقافة الخوف من الإسلام، أو ما اصطلح عليه بالإسلاموفوبيا، مما زاد في تعميق الصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين، وترويجها بواسطة أحدث تقنيات الإعلام والاتصال، من فضائيات وصحف ومجلات وإنترنت ووسائط متعددة.
وفي مجال الإعلام المكتوب، ساهمت الصحافة الفرنسية (المجلات والجرائد) بدور فاعل في صناعة صورة الإسلام في الإعلام الفرنسي؛ حيث ركزت الصحافة اليومية والأسبوعية على تناول مواضيع ذات صلة بالإسلام والمسلمين، بنوع من الإثارة والجاذبية والتشويه والتحريف والافتراء.
ويخلُص الكاتب إلى أنّ لخطاب الخوف من الإسلام في وسائل الإعلام الغربية؛ دوافع دفينة في الرغبات، لا يريد الخطاب الغربي التعبير عنها صراحة، وتنبع من حاجات أشبه بالحاجات البيولوجية بالنسبة إلى اللا شعور الفردي، مثل الحاجة إلى البترول والرغبة في استمرار السيطرة عليه، والحاجة إلى المهاجرين ـ المتناقضة مع الرغبة في التخلص منهم ـ تحت ضغط هواجس اقتصادية أو عنصرية، والحاجة إلى بقاء العالم الإسلامي قائمًا كآخر لا بد منه، والرغبة في أنّ يظل مشتتًا ومتخلفًا وتابعًا.
ويتزامن إصدار هذا الكتاب، الذي هو في الأصل أطروحة جامعية أعدها الكاتب؛ لنيل شهادة الدكتوراه في الإعلام سنة 2007، مع اتساع دائرة النقاش السياسي والفكري، الذي تشهده ـ حاليًا ـ العديد من الدول الأوربية؛ حول مشروعية النقاب وارتباطه بحقوق الإنسان واحترام التنوع الثقافية.