مقالات خارجيّة

ثقافة الاستهلاك وتحديث العالم العربي (الجزء الاول)



ثقافة الاستهلاك وتحديث العالم العربي (الجزء الاول)




"بعد اختراق الدعاية الأمريكية لعقول البشر، استطاعت أمريكا أن تشعر الجميع بالجوع إلى المتعة" ايناسو راموتيه، فى كتابه أمريكا والعقول فى ظل متغيرات عالمية غير مسبوقه فى تاريخ الأمم، تطورت آليات السوق وتغيرت قواعد التجارة وتبادل السلع والمنافع وأصبحت الثقافة آليه من آليات الهيمنة والسيطرة بفضل عالم لا يعترف بغير القوة فى التعامل مع الآخر، عالم يصطنع أصحابه المساواة ويعلن شعارا" براقا" يحلو له تسميته بـ "جيران فى عالم واحد" إلا أن الواقع يثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه عالم لا يعرف المساواه بين الدول أو الشعوب، عالم تغيرت فيه موازين القوة وقواعد السلطة لصالح أطراف وضد أطراف أخرى.

وتشير الوقائع إلى تزايد حدة التباين بين الدول، والتناقضات السائدة بين الأنظمة، والتمايزات الواضحة بين الشرائح والطبقات الاجتماعية على الصعيدين العالمي والمحلي، وترتب على ذلك انقسام الدول إلى فريقين فريق يدفع شعوبه نحو العمل المنتج فيصنع التاريخ والحضارة، وفريق آخر يقف متلقيا لما ينتجه الأول ويكتفى بالنظر إلى من يصنعون تلك الحضارة، تمايزات تعرف طريقها فى ظل منافسة غير متكافئة وقواعد غير متوازنة يصكها "بارونات" العالم الجديد.

وفى ظل هذا المناخ العالمى غير المتوازن تحولت سلوكيات البشر - خاصة فى الجزء الجنوبى من "القرية الكونية" - إلى أفعال تميل بصورة كبرى نحو الوجدان والعاطفة التلقائية فى التعامل مع السلع المعروضة أو المعلن عنها، حيث ينزع المتلقى (المستهلك) نحو الرغبة فى الامتلاك، والارتباط العاطفى بالسلعة دون إدراك أو وعى بمدى حاجته إلى تلك السلعة. وعليه تبدلت قيم العمل والإنتاج وتحولت إلى قيم استهلاكية تنزع نحو الرغبة فى التملك أو ما يعرف بـ"النزعة الاستهلاكية" حيث تخلق رموزا ومعانى تثير التعطش إلى الاستهلاك والجوع إلى المتعة فى التملك، وهنا يصبح امتلاك السلعة هو هدف فى حد ذاته يضفى على الفرد مكانة ومركزا اجتماعيا يصنعه لنفسه أو يتوقعه من الآخرين داخل الجماعة التى ينتمى إليها لقد تشكلت نزعات استهلاكيه ترفيهية، وهرول الناس نحو الأسواق، أو هرولت الأسواق إليهم، وأضحى التسوق فى حد ذاته هدفا يسعى إليه أفراد بعض المجتمعات، راغبين فى الحصول على ما يتم الإعلان عنه، مترقبين بشغف الحصول على السلع التى يعلن عنها، أو ما يسمعون عن طرحها فى الأسواق.

والسؤال المثار، كيف يحدث ذلك وكيف تتحول ثقافة الإنتاج، فى مجتمعاتنا العربية، إلى ثقافة استهلاكية تتسم بمتعة التسوق ونزعة الامتلاك ومن المستفيد من نشر ثقافة الاستهلاك فى تلك الدول وماذا حدث فى الواقع العربى من تغيرات شملت كافة الأنساق الاجتماعية رغم التباينات بينها، وما موقفنا من قضايا الإنتاج والاستهلاك والتنمية والتحديث وكيف نواجه تحديات الاستهلاك الترفى فى ظل عالم غير متوازن يدعم من ثقافة الاستهلاك ويعممها على كافة الشرائح الاجتماعية؟ للإجابة عن التساؤلات المطروحة، والتى تعبر عن إشكاليات مثارة يعانى منها أبناء شعوب العالم، وعلى الأخص فى الدول العربية أو ما يحلو للبعض تسميتها بمصطلح "أشباه الدول"، رأينا تحليل ظاهرة تنامى الاستهلاك فى ظل عالمنا المعاصر والتى تعكس سيادة ثقافة من نوع جديد تأثرت بها الشعوب العربية قاطبة، هى نزعة نحو الاستهلاك التفاخرى أو الترفى فى علاقتها بقضايا التنمية والتحديث فى واقعنا العربى، باعتبارها نوعا من الثقافة المصاحبة للعملية الاستهلاكية تضفى عليها دلالات ومعان تخترق نمط الحياة اليومية وتتأصل فى ثقافة المواطن بل تحدد مكانته ومركزه الاجتماعى بين أبناء الجماعة التى ينتمى إليها.

أولا- تساؤلات أولية وإشكاليات مثارة:

بتحليل الواقع المعاصر وأسلوب حياة البشر يتضح ما يمكن إيجازه فيما يلى:

1- فى ظل عولمة اليوم وتحدياتها الثقافية تزايدت النزعة الاستهلاكية بصورة واضحة، وتحول الاستهلاك إلى سلوك مرضى وإلى ظاهرة سلبية تؤثر على حياة الشعوب (1)

2- تحول الاستهلاك من عملية ترتبط بالإنتاج ومكملة لها، إلى حالة تشبه الإدمان، حيث أصبحت تعبر عن ثقافة مفروضة على البشر بدلا من ثقافة اختيارية تخضع لمعايير عقلانية من أجل إعادة الإنتاج واستمراريته لصالح المجتمع.

3- تحول الاستهلاك إلى هدف فى حد ذاته حيث أصبح يعبر عن رمز لمكانة الشخص، فكلما زاد الاستهلاك لدى الفرد زادت مكانته بين أبناء جماعته. ومن هنا زاد الطموح الاستهلاكى الذى ارتبط بالتفاخر.

4- تتحدد قيمة السلعة لا بقيمتها الحقيقية المتمثلة فى جودتها، بل بقدرة صانعيها على تحويلها إلى ثقافة ترغيب وتشويق لدى المستهلك فأصبح الإعلان عن السلعة أهم من السلعة ذاتها.

5- هناك فارق كبير بين النزعة الاستهلاكية فى دول العالم المتقدم، وبين الاستهلاك فى دول العالم الأقل تطورا، ففى الحالة الأولى تعمل فى صالح صنع الحضارة والتنمية، بينما تعمل فى الحالة الثانية فى صالح التخلف فالدول الأولى تستهلك ما تنتجه فتزيد من عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج، بينما تستهلك فى الدول الأخيرة السلع التى ينتجها "الآخر" فتسهم فى زيادة تخلفها وهدر إمكاناتها وكذا قدرات أبنائها (2).

6- أصبح الفن الاستهلاكى أى صناعة ثقافة الاستهلاك هو الإطار الحاكم لاختراق الشعوب ومن الطبيعى أن يكون الأقوى فى عالم اليوم هو صانع تلك الثقافة ومروجها (3).

ثانيا- ثقافة الاستهلاك: الدلالة والمضمون:

لعبت المتغيرات الدولية دورا بارزا فى ترسيخ ثقافة استهلاكية من نوع خاص لدى كافة شرائح المجتمع فى العالم العربى وأثارت قضايا على جانب كبير من الأهمية، ويمكن حصر أهم تلك القضايا فى التالى.

1- أدت التطورات العالمية فى مجال تكنولوجيا الاتصال إلى تقدم هائل فى التقنية الإعلانية والتى أضحت متحكمة فى العملية الإنتاجية من حيث أنماط التسويق والعرض والاستهلاك، معتمدة فى ذلك على خبراء متخصصين يضعون إستراتيجية قائمة على مبدأ "المتعة فى التملك والتعطش إلى التسوق".

2- التخلى عن القواعد التجارية التقليدية التى كانت تحكم العلاقات التبادلية بين الدول، ففى ظل النظام العالمى الجديد دخلت الشركات متعددة الجنسيات بقوة حلبة الصراع والمنافسة بين من يملك مقومات العملية الإنتاجية ومن يفتقد إليها، وهنا تأثرت كافة الشرائح الاجتماعية فى الدول المتلقية للسلع بتنامى الشره الاستهلاكى وسيطرته عليها (4)،
 3- تحول السلوك الاستهلاكى تدريجيا بسبب عوامل خارجية (قاهرة) وأخرى داخلية (متقبلة) إلى ثقافة عامة تتحول إلى سلوك جمعى يشمل كافة الطبقات الاجتماعية التى تأثرت بسياسات الإنتاج الجماهيرى الموسع mass proudaction التى اتخذتها القوى الاقتصادية العلاقة فى العالم كسياسة توسعية تعمل على تعميم وتنويع أنماط السلع لتشمل كافة الأذواق بهدف نشر ثقافة الاستهلاك متخذة أساليب مدروسة ومخططة ووسائل تقنية فائقة الدقة تبدأ دائما بالترغيب وتنتهى عادة بالإجبار (5).

4- تحول مضمون الإعلان وهدفه من فكرة خلق الاهتمام لدى المستهلك بفائدة السلعة وجودة مكوناتها وقيمتها الفعلية، كما كان سائدا فى الخطاب الإعلانى التقليدى، إلى عملية تسهيل الحصول على السلعة ودعم النزعة الاستهلاكية للجماهير، ودفع المواطن للهرولة إليها وامتلاكها بغض النظر عن مبدأ الجودة أو القيمة الحقيقية للسلعة المعلن عنها، ومن هنا كان إصرار أصحاب الشركات والمؤسسات الإنتاجية الكبرى التخطيط لامتلاك المؤسسات الإعلامية والسيطرة على وكالات الإعلان القادرة على القيام بوظائف الترغيب والتشويق والتسويق بل وتحويل النزعة الاستهلاكية إلى أسلوب حياة of life style يقترب من حالة الإدمان (6).

5- ترتكز ثقافة الاستهلاك، التى تم تصنيعها والترويج لها بذكاء تقنى، على قاعدة ثابتة تشير إلى أن الناس فى كل مكان قادرون على الاستهلاك، وهى ثقافة خطط لها بوعى وتم دعمها بأساليب متنوعة وبفكر عملى وبعقلانية ربحية ظهرت بوضوح فى توسيع دائرة الإنتاج وتعميم ثقافة التعطش لاقتناء كل ما هو معروض من سلع، وهى ثقافة تحمل رموزا وأفكارا وقيما كفيلة بتبرير وتدعيم النزعة إلى الاستهلاك والرغبة فى البحث - بشغف - عن كل ما هو متداول فى الأسواق. إنه نظام معرفى مخطط يهدف إلى تغيير الفكر لتقبل مخرجات السوق والسلع المتداولة فيه، بالاعتماد على وسائل عدة من أهمها المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال والوسائط الإعلامية المسموعة والمرئية إلى جانب دراسة الثقافة والشخصية للجمهور المستهلك (7).

وهنا تتحدد ملامح ثقافة الاستهلاك وأهدافها لتشير إلى أنها:

* من صنع قوى تملك الوسائل الدعائية للتأثير والترويج والترغيب.

* تخلق جوانب المتعة فى الشراء وحب التملك والتعطش إلى التسوق والبحث عن مكانة اجتماعية مفقودة.

* تستخدم المعانى والصور والرموز، كالموسيقى والغناء والفيديو كليب، بهدف نشر ثقافة الاستهلاك وإسباغ أسلوب مميز عليها يرسخ النزعة نحو الاستهلاك والرغبة فى الشراء، وهى فى ذلك تتجاوز الدرس الاقتصادى التقليدى الذى كان يركز على معايير الجودة والثمن كشرطين أساسيين فى فهم عمليات الإنتاج والتسويق.

* تخدم حضارة السوق والقوى الرأسمالية العملاقة، وتشكل تحديات كبرى ومؤثرا سلبيا على اقتصاديات الدول المعتمدة على استيراد السلع المنتجة فى الدول المتقدمة * تخلق تطلعات ونزعات استهلاكية بلا حدود معتمدة فى ذلك على الترغيب والتشويق، وكذا الإجبار والقهر كأساليب تستند على مقولة "محاكاة الغير والرغبة فى تقليد الآخر"، وتوظيف الخصوصيات الثقافية الكامنة والراسخة فى عادات الشعوب وتقاليدها.

* تعمل على تقديم نوع من الإحساس بالتميز والتفوق للمستهلك فيصبح الهدف هو امتلاك السلعة بغض النظر عن الحاجة إليها، وتدريجيا يتعود المستهلك على متابعة حركة السوق والرغبة فى الشراء ويبحث عن أقصر الطرق للحصول على كل ما هو جديد من سلع معروضة أو معلن عن طرحها فى الأسواق فيهرول إليها مما يؤدى إلى إصابته بحالة تشبه الإدمان.

* تعمل على تسكين وبقاء المستهلك فى دائرة الاستهلاك والجوع إلى التسوق
 * تملك وسائل عدة للضغط، وأساليب متباينة للقهر، مما يجعل المتطلعين إلى الاستهلاك راغبين فيه وباحثين عنه ومتعطشين إليه (8).



المصادر:

1) جلال أمين، العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأرعونى، 1789، 1998 بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية 1999.

2) Browesel James, What Plant is Rudolf Giuliani, International Middle East Center.

(Access Date: 2008-3-30) www.imemc.org/article/50044 3) السيد أحمد مصطفى عمر، إعلام العولمة وتأثيرة فى المستهلك، المستقبل العربى، السنة الثالثة والعشرون، العدد 256، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 0 0 30، ص ص 71-489) انظر ذلك فى - Kassman Laurie, Sumer 2006 Edition of The Middle East Journal features Impact of Globaliztion and Western Economic Policies, Middle East Institute (Access Date: 2008/3/30) www.mideasti. org/press-release/summer-2006-edtion-middle-east-j ournal- fea.

Colder Lendol, Financing The American a Culture History con, Princeton university Press. (Access Date: 2008/3/30) www.press.princenton.edu/title/.6555html حنان زهرالدين، ثقافة الاستهلاك، جريدة تحولات، العدد التاسع مارس 2006.

http://www.tahawolat.com/cros/article.php3?id_article=380 5) أحمد زايد، فتحى أبوالعنيين، السلوك الاستهلاكى للطفل العربى الخليجى، مجلة الشئون الاجتماعية، لعدد 47/ السنة 12، خريف 1995، 1416هـ ، ص ص 5-36.

6) زيد الرمانى، ثقافة الاستهلاك والتسوق، جريدة الجزيرة، العدد 10276.

http://www.al-jazirah.com.sa/2000jaz/nov/16/ec. I6htm (7 هانس بيرمارتن وهارلو شومان، فخ العولمة الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، عالم المعرفة (338) الكويت، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، 1998 حتى 245.

8) Rubin Barry, Globalization and The Middle East: part one, Yale Center for Study of Globalization. (Access Date: 2008/3/30) www.yaleglobal.yale.edu/display.articles?id744

أضيف بتاريخ: 25/01/2016