مقالات خارجيّة

ثقافة الاستهلاك وتحديث العالم العربي (الجزء الثاني)


ثقافة الاستهلاك وتحديث العالم العربي (الجزء الثاني)


من خلال ما تقدم تتضح إشكاليات وتساؤلات مهمة، ويبدو أن السؤال الأكثر أهمية لدى صانع تلك الثقافة ومروجها هو. كيف يمكن خلق ثقافة عالمية موحدة بين الناس تزيدهم رغبة وميلا وطموحا نحو اقتناء كل ما هو مصنع ومتداول فى الأسواق وما السبيل لتاسيس "اتفاق وظيفى جمعى" قادر إلى تبديل الثقافة التقليدية التى تحكم الأسواق بنوع آخر من الثقافة الحديثة التى تجرد الشعوب - تدريجيا - من أفكارهم وهويتهم، وتلغى مسألة الخصوصية الثقافية والتاريخية؟ (9).

وتبقى الإجابة لدى صانع تلك الثقافة مرهونة بمدى قدرته على ابتكار وسائل أكثر ترغيبا وأعظم تأثيرا وأقوى قدرة على "غسل أدمغة" البشر وتفكيك أفكارهم واختراق عقولهم بهدف تصنيع ثقافة استهلاكية قابلة للتعميم والانتشار وهنا تأتى إشكالية من نوع آخر لدى متلقى هذه الثقافة، الذى يجد نفسه غير قادر على المساهمة فى الإنتاج العالمى بعجزه عن تصنيع ما يمكن تسويقه أو طرحه فى سوق المنافسة. وهنا يقف أمام تساؤلات مثل ما تأثير ذلك على المجتمعات الأقل تطورا وما مستقبل التنمية فى المجتمعات العربية التى ينتمى إليها وكيف يمكن الحد من انتشار ثقافة الاستهلاك لدى معظم الشرائح الاجتماعية فى تلك المجتمعات وهل يمكن التحكم فى تسارع انتشار تلك الثقافة فى زمن السماوات المفتوحة وتكنولوجيا الاتصال؟ (10).

إن الإجابة عن تلك التساؤلات المثارة، والإشكاليات المطروحة مرهونة بقدرة هذه الشعوب على امتلاك وسائل المعرفة، والوعى بالثقافة الكامنة والظاهرة الموجهة فى عصر العولمة، أى الوعى بكل من ثقافة الأنا وثقافة الآخر، بالإضافة إلى العمل على وضع إستراتيجية متكاملة قادرة على مواجهة تحديات العولمة والحد من خطورة الاختراق الثقافى الداعم للاستهلاك الترفى (11). ويتطلب ذلك بالضرورة:

أ- توصيف أزمة الواقع العربى والوقوف على الإختلالات الهيكلية فيه.

ب- رصد أنماط الاستهلاك الترفى فى العالم العربى فى ظل متطلبات النظام العالمى المعاصر، موضحين شيوع ثقافة الاستهلاك فى ارتباطها بحضارة السوق الدولى من ناحية، والمال النفطى من ناحية ثانية، والتحولات البنائية من ناحية ثالثه.

ج- استشراف مستقبل التنمية فى البلدان العربية فى ضوء العلاقة الجدلية بين العالمية والمحلية، مركزين على قضايا تكنولوجيا الإعلام والتعطش إلى الاستهلاك. وقد يكون من المفيد - فى هذه الدراسة أن نعرض لبعض الاعتبارات الأساسية التى تلقى الضوء على قهم وتحليل عوامل تشكل ثقافة الاستهلاك وتغلغلها بين الجماهير على اختلاف أوضاعهم ومستوياتهم الاجتماعية.

ثالثا- الواقع العربى والاختلالات الهيكلية:

تؤكد كثير من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية أن العالم العربى يعيش أزمة يصفها البعض بكارثة "التخلى عن صناعة الحضارة" حيث تكتفى البلدان العربية بالنظر إلى "الآخر" باعتباره صانع الحضارة والتاريخ. وترصد بعض الدراسات حالة الاقتصاديات العربية فتشير إلى أنه رغم أنها حققت خلال الفترة التى سميت بعصر النفط نموا لا بأس به بسبب الموارد النفطية مقارنة بعقد الستينيات حيث زاد نصيب الدول النفطية من هذا الناتج على حساب نقص نصيب الدول غير النفطية. إلا أن الاستثمار قد اتجه فى تلك الدول إلى قطاعات بعينها، هى التمويل (البنوك والتأمين) والبناء والتشييد، والنقل والمواصلات والصناعات الاستخراجية. ولهذا - وكما يشير رمزى زكى - لم يواكب هذه المعدلات المرتفعة للاستثمار تغيير يعتد به فى هيكل الاقتصاديات العربية حيث ظلت تتسم بغلبة الإنتاج الأولى وبضعف الصناعات التحويلية وصناعة الآلات ومعدات النقل. كما ارتبط تنفيذ هذه الاستثمارات بتزايد نشاط الشركات متعددة الجنسيات التى قامت بتنفيذ الشطر الأعظم منها (12). ويمكن رصد الآثار الناتجة عن ضعف عملية الإنتاج فى التالى:

* رغم التحسن الذى طرأ على أوضاع الموارد البشرية ونوعية الحياة إذا ما قورنت بالسنوات التى سبقت هذا العصر إلا أن الفروق الصارخة فى توزيع الدخل والثروات بين الشرائح الاجتماعية شكلت تناقضا حادا فى ملامح الخريطة الطبقية حيث ظلت فئات وطبقات على هامش التحسن كما تدهورت أحوال شرائح أخرى فى تلك البلدان (13).

* صاحب عصر النفط حدوث تغيرات شتى فى الأنماط الاستهلاكية لدى الجماهير حيث زاد ميل معظم شرائع المجتمع نحو الاستهلاك الترفى، وامتد هذا الميل ليشمل كافة الطبقات الاجتماعية، إما بالاستهلاك الفعلى أو النزوع إلى الاستهلاك فى معظم البلدان العربية.

* بالرغم من الفروق الصارخة بين البلدان النفطية وغير النفطية إلا أن النزعة الاستهلاكية شكلت نوعا من الثقافة انتشرت بصورة واضحة فى كافة البلدان العربية، وساعد على ذلك خروج العمالة الفنية وغير الفنية هن البلدان غير النفطية للعمل فى بلاد الذهب الأسود (14).

* زادت تطلعات الشعوب العربية نحو استهلاك السلع الكمالية المعمرة وغير المعمرة، مما أدى إلى استنزاف النقد الأجنبى مما أثر سلبا على اقتصاديات الدول العربية ككل، وبصورة خاصة على الدول غير النفطية (15).

* لم يكن النمو الذى شاهدته مختلف البلدان العربية إبان سنوات فوران أسعار النفط، يمثل نموا متكافئا بل كان هشا إلى حد بعيد، بسبب اعتماده على عوامل خارجية يصعب التحكم فيها، مثل أسعار النفط وعوائده والتحويلات الخارجية والقروض الأجنبية، ولذلك تأثرت اقتصاديات البلدان العربية بصورة واضحة فى السنوات الأولى من الثمانينيات (16).

* ظهرت بوادر الأزمة فى البلدان العربية بسبب التباين الحاد فى مستويات الثراء، ونمو النزعات القطرية والانكفاء على الذات، وبروز التكتلات العربية الإقليمية (مجلس التعاون الخليجى، دول الاتحاد المغاربى، والاتحاد العربى الرباعى بين مصر والعراق والأردن واليمن) وأخيرا بسبب كارثة احتلال العراق للكويت واندلاع حرب الخليج الثانية وتصدع النظام العربى الإقليمى (17).

* زادت تبعية البلدان العربية للعالم الخارجى وزاد التكامل والاندماج غير المتكافئ مع السوق الرأسمالى العالمى على حساب التكامل العربى، وتحول سوق النفط من سيطرة البائع إلى هيمنة المشترى، كما تم احتواء الفوائض النفطية العربية بإعادة تدويرها إلى مراكز النظام الرأسمالى العالمى. وتفاقمت الديون الخارجية المستحقة على البلدان العربية، وتفاقم الانكشاف الغذائى والأمنى للعرب، وضعفت التجارة العربية البينية ودخلت البلدان العربية فى أزمات اقتصادية حادة انتهت بها إلى الخضوع لشروط برامج التثبيت والتكيف الهيكلى التى نقلت عملية صنع القرار الاقتصادى عن مستواه الوطنى/ المحلى إلى المستوى الدولى (المنظمات الاقتصادية الدولية والدائنين) (18).

* انعكست الأزمة الاقتصادية فى الكثير من البلدان العربية، خاصة متوسطة الدخل وغير النفطية والأقل نموا، على مجموعة مهمة من المؤشرات، حيث بدأ نمو العجز فى الموازنات العامة بسبب ضعف موارد الدولة السيادية الناجم عن حالة الركود وكثرة الإعفاءات الضريبية، فضلا عن تعاظم حالات التهرب الضريبى، ونمو الإنفاق العسكرى والأمنى، وعدم ترشيد الإنفاق العام المحلى والخارجى مما أدى إلى حالة التضخم. ومع ذلك زادت قوة الاستهلاك الترفى، وضعفت معدلات الادخار المحلى، وتدهورت معدلات الاستثمار، وانخفضت معدلات النمو الاقتصادى، وزادت الطاقات العاطلة، وأرتفعت معدلات البطالة، وزاد العجز فى موازين مدفوعات تلك الدول نتيجة لتفاقم العجز التجارى فيها وهروب الأموال منها وارتفاع معدل خدمة ديونها الخارجية (19).

وفيما يتعلق بالإنفاق يتضح إنه فى الوقت الذى ينفق فيه العرب مليارات الدولارات على أجهزة الهاتف الجوال سنويا، فإن هناك 62 مليون عربى، أى ما نسبته 22% من جملة السكان، يعيشون على دولار وأحد فقط فى اليوم، بينما يعيش 145 مليون عربى أى ما يقرب من 2% من تعداد السكان العرب، على دخل يومى يتراوح بين 2 و5 دولارات، وفقا لإحصاءات التقرير الاقتصادى العربى الموحد الصادر عام 2001.

ويظهر التناقض عندما ننظر مثلا إلى الدخل القومى فى للمنطقة العربية فى عام 2000- على سبيل المثال - (بدون عائدات النفط) الذى يبلغ حوالى 70 مليار دولار، وهو رقم يقل عن الناتج القومى لبلدان مثل فنلندا التى يبلغ عدد سكانها 5.5 مليون نسمة. وإذا أضفنا عائدات النفط إلى الدخل القومى للعالم العربى فنجد أنه يصل إلى 234 مليار دولار، فى الوقت الذى بلغت فيه صادرات سنغافورة وهونج كونج وحدهما خلال نفس العام نحو 250 مليار دولار، أى ما يتجاوز الناتج القومى للمنطقة العربية بأكملها (20).

وتشير بيانات رقمية أخرى إلى مسألة الديون والموازين التجارية حيث تضاعفت الديون الخارجية للدول العربية فى العقدين الماضيين بمعدل تسع مرات ليصل حجمها إلى 325 مليار دولار عام 2000، بعد أن كانت لا تتجاوز 49 مليار دولار عام 1980 إلى 18.4 مليارا فى عام 1998، كما ارتفع عجز الموازين التجارية للبلدان العربية غير النفطية فى الفترة نفسها من 8 و14 مليار دولار إلى 7.24 مليار. بالإضافة إلى ما يهدر من مليارات الدولارات التى تنفق فى المنطقة العربية على سلع غير ضرورية مثل حفلات الزفاف، وتدخين الشيشة، وأطعمة الكلاب والقطط.

أما المديونية العامة الداخلية القائمة فى ذمة الدول العربية فقد بلغت مع نهاية عام 2000 حوالى 304 مليارات دولار، وارتفع هذا الدين عن حجمه فى عام 1919 بمقدار 1.28 مليار دولار، أى أن وضع المديونية الداخلية للدول العربية شهد ارتفاعا نسبيا فى عام 2000، حيث ازداد حجم الدين الداخلى بنسبة 1.1% مقارنة بعام 1999 (21).

وبتحليل ما سبق يتضح ما يلى:

* إن ما ينفق من أموال فى المنطقة العربية لا يعنى ارتفاع مستوى المعيشة بقدر ما يعنى البحث عن سلع كمالية للاستهلاك بقصد التباهى وحب الظهور وتعويض نقص اجتماعى لدى أبناء تلك المنطقة.

* أصبحت السلع المعروضة فى الأسواق تثير لعاب المستهلك العربى لأنها تمثل لديه رمزا ثقافيا يدل على ارتفاع مكانته الاجتماعية وسط جماعته.

* تغير السلوك الاستهلاكى لدى الجماهير بفعل التحولات الرأسمالية المعاصرة ولذلك أصبح تفضيل اقتناء السلعة يتم بصورة عشوائية، حسب ما يمثله ذوق المصمم أو حسب لغة ونصوص الخطابات الإعلانية المنتشرة فى الوسائل الإعلامية على اختلاف مستوياتها.

* يصبح الاستهلاك الترفى ضربا من ضروب الفاقد الاقتصادى وهدرا لإمكانات وقدرات الشعوب القادرة - إذا ما أتيحت لها الفرصة على صنع التاريخ والحضارة.

* تشير الدراسات الاجتماعية والسيكولوجية إلى أن النزعة إلى الاستهلاك تتأصل لدى الطفل منذ الصغر، مما يساعد، بفعل عوامل موضوعية، على ترسيخ ثقافة استهلاكية تشيع بين كافة شرائح المجتمع فتتوغل بدرجات متفاوتة فى عقول البشر وتتحول إلى ثقافة معممة (22).

* تشير بعض الدراسات إلى أن ما ينفق على السجائر والتدخين والمقاهى والفنادق وجراحات التجفيل والملابس وقص الشعر وتغيير لونه. تفوق دخول الأفراد فى بعض الدول العربية.





10) Edgar, et al, key Concept in Cultural Theory, New York, Rutledge, 1999

11) سعد محمد رحيم، العولمة والإعلام ثقافة الاستهلاك. استثمار الجسد وسلطة الصورة، الحوار المتمدن، العدد 1275 http://www.ahewar. org/debat/show. art.asp?aid=42345

12) The Global Oil & Gas Industry Articles. Middle East Oil Field De- velopment.

(Access Date: 2008/3/30)www.oilgasarticles.com/categories/oil-field-development/middle-east-oil- fi.

13) Alexander Doug, Facing The Water Barrier, Facing The Water Barrier International Development Research Center, (Access Date: 2008/3/30) www.idre.ca/en/eg-45739-201-idotopic.html

14) Camarota Steven A , Immigrant From The Middle East a Profile The Foreign-born Population from Pakistan to Morocco, Center for Immigration studies . (Access Date: 2008/3/30) www.cis.org/articles/2002/back.602html

15) وليد الحارثى، مشيرا إلى !ن "ثقافة الاستهلاك " هى المسيطرة. العودة. المجتمعات الخليجية مجتمعات استهلاكية غير منتجة، الإسلام اليوم.

http://www.islamtoday.net/pen/ show_articles_content.cfm?id=64&crtid=195&artid=8901.

16) محمد الجعفرى، ثقافة الاستهلاك والانتاج إحدى المعالجات لقضية ارتفاع الأسعار، سبتمبر، العدد 1340 http://www26.sep.net/newsweekarticle.php?ing=arabic&sid=34072.

17) Promoting Truth, Undi , Iraan and Nuclear Geopolitics in The Middle East.

(Access Date: 2008/3/30) www.american-Iranian.org/publication/articales/ 10/2007/iran-and-nuclear- geopolitices

18) حبشى رشدى، ثقافة الاستهلاك تبتلع الدخل الأعلى فى العالم، الوطن، العدد 4595

http://www.al-watan.com/data/20080327/innercontent.asp?val=local5_1

19) نورة خالد السعد، ربيع الحرف .الثقافة الاستهلاكية، الرياض، العدد 14062.

http://www.alriyadh.com/24/12/2006/article.211662html

20) وزارة الخارجية الأميركية، تحديات العولمة، مكتب برامج الإعلام، 2006.

http://www.annabaa.org/nba28/mowagaha.htm

21) سامية الساعاتى، الطفل العربى فى منظومة ثقافة الاستهلاك، ندوة الطفل العربى فى مهب التأثيرات الثقافية، الإسكندرية، المجلس العربى للطفولة والتنمية، سبتمبر 2005.

22) سمير أمين، الراسمالية، الامبريالية، العولمة، ندوة الآثار الاقتصادية للعولمة فى العالم الثالث وأوربا الغربية: يا رأسمالى العالم اتحدوا، القاهرة، دار الطباعة المتميزة، 1999.

أضيف بتاريخ: 27/01/2016