مقالات خارجيّة

الحرب الناعمة في الإطار الفكري والتاريخي والعلمي

 

الحرب الناعمة في الإطار الفكري والتاريخي والعلمي 



أولاً: الحرب الناعمة احد وجهي العملة لثنائية العقل السياسي الأميركي
منذ تبلور العقل الأميركي المؤسس على نظريات ومدارس التفكير البراغماتية والنفعية والواقعية والتجريبية والسلوكية والكثير من الأفكار ويتجاذبه ثنائيتان اثنتان يتركب منهما، الصلابة والنعومة، تماما كما يتألف جهاز الكومبيوتر من قسمين وجانبين ناعم وصلب software وhardware كما أسلفنا، بحيث مثلت عقيدة الصدمة والترهيب ونظريات القوة والتفوق جانب الخشونة والصلابة في هذا الفكر وهي عقائد يتبناها بقوة تيار المحافظيين الجدد وقادة الحزب الجمهوري، وهذا التيار له فروعه وامتداته ورموزه في مؤسسات ومراكز صناعة القرار الأميركي، في حين مثلت العقيدة الناعمة واللينة الجانب الذي يتبناه التيار الليبرالي وقادة الحزب الديمقراطي الأميركي، وهي أيضا عقيدة متغلغلة في كافة الفروع والامتدادات الأميركية، فكلاهما يغلب ناحية على أخرى، والخلاف والتمايز بينهما يظهر في الارجحيات والأسبقيات، فلا الحزب الجمهوري يؤمن فقط بالجانب الصلب على إطلاقه، ولا الحزب الديمقراطي يؤمن بالجانب الناعم على إطلاقه، فالخلاف في النهاية يدور فقط حول ترتيب الأولويات والأهداف الحاكمة، وأساليب تنفيذ هذه الأهداف والسياسات، وتحديد أيهما ينبغي أن يحكم الاستراتيجيات والسياسات الخارجية والدولية لأميركا، والحزبين في صراع على هذه الأساس، وقد انبثقت من خلالهما عقائد وسياسات يتم تجريبها بدول وشعوب ونظم العالم الثالث خاصة.. ولهذا من الطبيعي أن يصدر عن دونالد رامسفليد وزير الدفاع الأميركي الجمهوري الانتماء تصريح ينسجم مع المنطق العسكري ومنطق الصدم والترهيب الذي يقود الحزب الجمهوري والمحافظين الجدد فنراه يقول " أن الضعف يحرض عليك العنف " في حين تعبر القيادات الديمقراطية عن منطق القوة الناعمة كما في أفكار جوزيف ناي صاحب نظرية القوة الناعمة هو من مفكري الحزب الديمقراطي، كلك الأمر بالنسبة لجون برينان مساعد أوباما لشؤون مكافحة الإرهاب الذي قال بأننا " سنحارب التطرف بالقوة الناعمة " ولعل من الطريف أن نقرب الأمر للأذهان بشكل محسوس أن نضرب مثل الشعارات والرسوم التي يتبناها كلا الحزبين في إعلامهما، فالحزب الجمهوري شعاره الفيل كناية عن القوة والضخامة والهجوم، في حين يتبنى الحزب الديمقراطي شعار ورسم الحمار كناية على الصبر وطول النفس 1...

ثانياً: عوامل الانتقال من أدوات التأثير الصلبة HARD إلى الناعمة SOFT

تعتبر الاستخبارات الأميركية CIA ووزارة الدفاع البنتاغون أول من بدأ برعاية أبحاث ومحاولات لتطوير وسائل وتقنيات مادية ( كيمياوية / الكترونية / كهرمغناطيسية /...) للسيطرة على الدماغ والعقل البشري والإدراك الحسي لتجنيده وتوجييه وضبط سلوكه وفقا للأجندات التي تخدم المشاريع والأهداف الأميركية، وجربت في البداية عمليات لبرمجة وعي وسلوك المجندين والعملاء والجواسيس الذين سيعملون مع CIA،وعلى أسرى العدو بهدف انتزاع المعلومات، وتحويلهم إلى عملاء مزدوجين، وذلك بهدف ضمان أعلى درجة من الوثوق، واستمرت هذه المحاولات لفترة طويلة منذ الأربعينات وحتى السبعينات مستعينة بأمهر الأطباء وعلماء النفس، وشارك فيها أكثر من 44 جامعة و12 مستشفى، وبقيت طي الكتمان حتى العام 1977 حين كشفت عنها صحيفة النيويورك تايمز على غلاف صفحتها الأولى تحت عنوان صادم "CIA تسعى لأسر واستعباد العقل البشري" وقد أثارت هذه القضية آنذاك ضجة كبيرة في الأوساط الأميركية والعالمية، وقد عطلت مجموعة عوامل سير هذه الأبحاث، ومنها كلفتها المالية والبشرية العالية وعدم ضمان وموثوقية نتائجها، والمعارضة الشديدة التي واجهتها بعد انكشاف أمرها، فانتقلت هذه المحاولات نحو البحث في حقول التأثير والبرمجة بالوسائل النفسية وما فوق النفسية عبر استغلال آخر ما توصلت إليه وسائل الاتصال والإعلام والمعلومات..

وقد قدمت على أثرها دراسات وأبحاث اعتمدت أحدث انجازات مناهج علم النفس وخاصة مبادئ المدرسة السلوكية الأميركية التي ترتكز على عقيدة تقول أن خلق بيئة محددة من القيم يعطي نتائج محددة من السلوكيات، كما ساعد تطور علوم البرمجيات اللغوية والعصبية والبارابسيكولوجي وما توصلت إليه تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي بلغت ذروتها في العقدين الأخيرين في هذا الانتقال2 .

كما توسعت الأبحاث نوعيا، كذلك توسعت كميا من برمجة عقل شخص أو مجموعة أشخاص إلى مستوى برمجة وتضليل وخداع رأي عام وعقل جماعي ونظم وشعوب بكاملها، وكذلك استهداف جيوش ودول وأحزاب ومنظمات...

كما استعيرت بعض التقنيات والوسائل التي تعتمد في الاستجوابات العسكرية وجرى تطبيقها في الحرب الناعمة، لأن منطق وعقيدة الصدمة والترهيب تغلغل إلى العقل الأميركي وامتدت تأثيراته إلى كافة فروعه سواء السياسية منها أو الاقتصادية أو الإعلامية أو العسكرية أو الاستخباراتية3 فكما يؤخذ الشخص الخاضع للاستجواب من قبل الجهة المستجوبة عبر مهاجمته بألوان وأصناف المؤثرات والصدمات والتهديدات الحسية والصلبة، وكذلك ألوان وأصناف المؤثرات والإغراءات والاغواءات الناعمة عبر جرعات تتناسب مع مراحل التحقيق لأجل" شل جهازه الفكري وتحطيم معنوياته والمس بمعتقاداته الإيمانية والدينية وتشتيت قدرته على المقاومة والتركيز والوعي وسلبه لإرادته وهذا ما يؤدي إلى الانهيار تحت ضغط الاستجواب المتواصل " كما جاء في النصوص الحرفية لوثيقة وكراس بند الاستجوابات لدى وكالة الاستخبارات الأميركية 4....

فان الشيء نفسه يحدث في حالة السعي للسيطرة على حالة جماهيرية أو شعبية عامة سواء كانت تابعة لدولة معادية او لتنظيم معادي، عبر أسرها وأخذها رهينة، ومهاجمتها دفعة واحدة بكل الوسائل بغية العبث بوظيفته الطبيعية وتوجيهها نحو السلوك المستهدف وتسمى هذه العملية ببرمجة الوعي والسلوك، فيتم توجيه مجموعة مؤثرات متناسبة مع مقتضى الحال وظيفتها الفعلية " إزالة ومحو وتنظيف المكونات الذهنية والنفسية السابقة للفرد أو الجماعة، وتفكيك الشخصية، عندها تبدأ عملية القيادة النفسية والفكرية عبر التلاعب بالمشاعر العامة وتضليل العقل الجمعي العامة وهزم الروح الجمعية العامة" ..

ومن ينظر بدقة وعمق إلى حالة جمهورنا العربي والإسلامي مع الإعلام ووسائل الاتصال وبرامج التأثير الناعم يكتشف أن العدو يعمل وفق نفس الآليات المطبقة في حالات الاستجواب، فوسائل الإعلام أصبحت تداهم حواس وعقول ونفوس الجماهير بعيدا عن أي سيطرة لأي نوع من المرجعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية سواء كانت دولاً أو أحزابا أو نخبا فكرية أو حتى العائلات والأسر، وأصبحت الناس تؤخذ على غفلة من أمرها، ولا داعي في ظل هذه الأوضاع من استعمال القوة الصلبة ما دام أن القوة الناعمة أكثر فعالية وأقل كلفة..

وهل نحتاج إلى دليل على تعرض الإسلام والمسلمين وخط أهل البيت عليهم السلام ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران والمقاومة وحزب الله وقوى المقاومة في المنطقة وسائر العالم الإسلامي إلى عمليات استجواب وبرمجة يومية ومتواصلة منذ 30 سنة ؟؟..

ثالثاً: التشريح العلمي لتقنيات الحرب الناعمة التي تدخل عبر المنافذ الحسية

تعني برمجة الوعي بالمعنى التقني كجزء من الحرب الناعمة " التأثير والتلاعب بالوعي بهدف السيطرة عليه والتحكم بتصرفاته وسلوكياته ومواقفه أو توجيهه نحو أفكار ونماذج وسلوكيات جديدة، وعلى أقل التقادير إحداث نوع من الاضطراب النفسي وبلبلة الأفكار المفضية إلى حالة من التقاعس والتشويش والاضطراب النفسي والسلوكي".

فأحداث وخلق بيئة فكرية ونفسية مضطربة لدى عينة من الإفراد والجماهير هي شرط لتحضير وتهيئة الأرضية الضرورية لتقبل النماذج والسلوكيات المصممة مسبقا طبقا للمدرسة السلوكية التي تشكل جوهر العقل الأميركي5 ..

وكي تحدث هذه البرمجة يجب تعريض الجمهور لمواد ومعطيات ومعلومات إعلامية مركزة على منافذ التلقي الذهني والنفسي التي تعتمد حسب الأبحاث العلمية بنسبة 80 % على المصادر الحسية البصرية والسمعية6 كما وتشارك هذه المعطيات الحسية المختزنة عبر تفاعلها في الذاكرة وفي عمليات صناعة المعرفة الذاتية عبر الوعي واللاوعي في النسبة 20% الباقية، وإذا كان الجهاز المعرفي والإدراكي للإنسان هو جهاز حسي بنسبته الغالبة، وربطاً بذلك فإن الجهاز العصبي الذي ينفذ أوامر الجهاز الإدراكي ينفعل ويتفاعل مع المعطيات والمواد الحسية أشد الانفعال ويترك بصماته الفيزيولجية والبيولوجية على الدماغ....والدماغ يركز على أخر المعلومات والمعطيات المختزنة، وهذا ما يمكن هذه الوسائل من فرض جدول أعمالها وتوجيهاتها على الجمهور..ولنا أن نتخيل كم يتم برمجة رأينا العام وجمهورنا وتغذيته بأفكار وسلوكيات وميول لا علاقة لها لا بالمعقول ولا بالمنقول.

ولكي نقارب القضية من وجهة نظر فكرية إسلامية سنورد نصا رائعا وعظيما من تراث الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) تحدث فيه عن الطبيعة الحسية للجهاز المعرفي للإنسان، مؤكداً أن الترقي الروحي يحدث في سويعات ولحظات محدودة7 يقول " الإنسان خلق حسياً أكثر منه عقلياً خلق يتفاعل مع حسه أكثر مما يتفاعل مع عقله، يعني أن النظريات والمفاهيم العقلية العامة في إطارها النظري هذه المفاهيم حتى لو آمن بها الإنسان إيماناً عقلياً حتى لو دخلت إلى ذهنه دخولاً نظرياً مع هذا لا تهزه ولا تحركه ولا تبنيه ولا تزعزع ما كان فيه ولا تنشئه من جديد إلا في حدود ضيقة جداً. على عكس الحس فان الإنسان الذي يواجه حساً، ينفعل بهذا الحس و ينجذب إليه، وينعكس هذا الحس على روحه ومشاعره وانفعالاته وعواطفه بدرجة لا يمكن أن يقاس بها انعكاس النظرية والمفهوم المجرد عن أي تطبيق حسي.

وليس من الصدفة أن كان الإنسان على طول الخط في تاريخ المعرفة البشرية أكثر ارتباطاً بمحسوساته من معقولاته وأكثر تمسكاً بمسموعاته ومنظوراته من نظرياته.

فإن هذا هو طبيعة التسليم الفكري والمعرفي عند الإنسان وليس من الصدفة أن قرن إثبات أي دين بالمعجزة وكانت أكثر معاجز الأنبياء معاجز على مستوى الحس لأن الإنسان يتأثر بهذا المستوى أكثر مما يتأثر بأي مستوى آخر..أي عبر هذا المستوى من الانخفاض من المعرفة أكثر مما هو متفاعل مع المستوى النظري المجرد عن المعرفة وهذا يعني أن الحس أقدر على تربية الإنسان من النظر العقلي المجرد ويحتل من جوانب وجوده وشخصيته وأبعاد مشاعره وعواطفه وانفعالاته أكثر مما يحتل العقل" المفهوم النظري المجرد" وبناء على هذا كان لا بد للإنسانية من حس مربي، زائد على العقل والمدركات العقلية الغائمة الغامضة التي تدخل إلى ذهن الإنسان بقوالب غير محدودة وغير واضحة.

إضافة إلى هذه القوالب كان لا بد لكي يربى الإنسان على أهداف السماء على مجموعة من القيم والمثل والاعتبارات كان لا بد من أن يربى على أساس الحس وهذا هو السبب في أن كل الحضارات التي يعرفها تاريخ النوع البشري إلى يومنا هذا إلى حضارة الإنسان الأوروبي التي تحكم العالم ظلماً وعدواناً كل هذه الحضارات التي انقطعت عن السماء رباهاً الحس ولم يربها العقل، لأن الحس هو المربي الأول دائماً فكان لا بد لكي يمكن تربية الإنسان على أساس حس يبعث في هذا الإنسان إنسانيته الكاملة الممثلة لكل جوانب وجوده الحقيقية كان لا بد من خلق حس في الإنسان يدرك تلك القيم والمثل والمفاهيم ويدرك التضحية في سبيل تلك القيم والمثل إدراكاً حسياً لا إدراكاً عقلانياً بقانون الحسن والقبح العقليين
" ...

رابعاً: المحفزات اللاشعورية واللاوعية من أخطر تقنيات البرمجة الناعمة

نشير في بداية هذه الفقرة إلى أننا وكي لا نذهب بعيدا في اعتماد مقولات علم النفس الحديث وتقسيمه للعقل بين وعي ولا وعي وشعور ولا شعور ولكي لا ندخل في إجابات حاسمة والجدل بشأنها، سنقرب الفكرة بما ذكره الباحث العراقي علي الوردي لجهة مقارنتها بما ورد في علم الأخلاق الإسلامي وما أشار إليه صاحب كتاب جامع السعادات العلامة النراقي من أن" الخاطر ما يعرض في القلب من أفكار فان كان مذموما سمي بالوسوسة وإذا كان ممدوحا داعيا للخير سمي إلهاما ".

ولو ذهبنا نحو المزيد من التشريح الدقيق ودائما بحسب الأرقام والأبحاث العلمية نشير إلى أن العقل والدماغ البشري يستقبل المعطيات الحسية والمواد والرسائل الإعلامية عن طريق وسائل الاتصال والإعلام المختلفة ( تلفزيون / إذاعة / فضائيات / صحف ومطبوعات ومجلات / مواقع انترنت / إعلانات / أجهزة الاتصال الفردية الخلوي / الخ) بمعدل يصل إلى مليوني معلومة وجزئية في الجرعة الواحدة) مليوني Beta باللغة العلمية) يدخل منها إلى الوعي نسبة قليلة جدا تقل عن 10% ويذهب القسم الباقي أي 90% إلى اللاوعي محدثا أثاره البطيئة عبر عمليات التأثير وعبر فتح قنوات وآليات الاتصال والتفاعل بين اللاوعي والوعي في أروقة وعوالم العقل الباطن..

بمعنى آخر فأن المنظومة الدماغية والعصبية تسيطر ليس فقط على حركة الجسم وإنما أيضا على إفرازات الهرمون والمعايشة والتفكير والوعي والسلوك وفهم العالم والذات. في نفس الوقت ليس كل ما يتحكم فيه الدماغ يخضع لرغبتنا الواعية، بل أن بعض الوظائف يقوم الدماغ بإدارتها بدون الحاجة إلى قرارات واعية.

وبناء على ما سبق، فان الإنسان في تواصله وتلقيه المعرفي والثقافي والترفيهي وحتى الاجتماعي أصبح مدين وتحت تأثير هذه الوسائل وخاصة التلفزيون والانترنت، ولا يحتاج هذا الأمر إلى كثرة استدلال، يكفي أن نشير إلى إحصائية علمية تكشف إن الجمهور يتعرض لوسائل الإعلام بمعدل 3- 4 ساعات يوميا، أي ما يوازي 1000 ساعة سنوياً، مقابل 800 ساعة يقضيها التلاميذ والطلاب في المدارس أو الجامعات، وهناك إحصائيات تقول أن المتلقي العربي يتعرض ل ـ 6 ساعات يومياً و1500 ساعة سنوياً من مختلف أنواع الوسائل الإعلامية.

هذا التعرض (المشاهدة التلفزيونية أو الاستماع والسماع الإذاعي أو التصفح الالكتروني الانترنتي) سيؤدي إلى حدوث أثار ومضاعفات هائلة في صوغ وتشكيل وتشويش أذهان الناس وتوجيه ميولها النفسية والجمالية والاستهلاكية والأخطر من كل هذا برمجة وعيها الثقافي والديني والسياسي وخاصة الشرائح الرخوة الأكثر عرضة للتأثير - الأطفال والمراهقين والشباب...

وكما هو معروف فان اللاوعي نظام تخزيني وترميزي هائل في الذاكرة، ومن الناحية التقنية تحصل عمليات التفريغ والاستبدال لمعطيات ومكونات الوعي بما يشبه تقنية الأثقال البصري المعروفة والتي تقوم على تحميل الوعي كمية معطيات ومواد بصرية وسمعية أكثر من قدرته على الاحتمال لدرجة الإفاضة فيقوم بتصديرها بالضرورة إلى اللاوعي مضخما إياه بأجزاء ونتف من المعلومات والصور والأفكار والآراء التي لم يجري معالجتها وتصنيفها وتصريفها بحكمة ورشد ووعي، وكلما امتلئ العقل الباطن بها زادت نسبة تشوش الجهاز الفكري والنفسي للفرد، فالعقل الباطن والعقل الظاهر يتعاكسان في الطبيعة وكلما اشتدت فعالية احدهما ضعفت فعالية الأخر، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى عدم الانسجام والتوازن بل والصراع بين العقل الباطن والعقل الظاهر، فينتج عنه سلوكيات مزدوجة كالنفاق والرياء والتناقض بين الأقوال والأفعال8 ، الأمر الذي يشاهده بالعيان في سلوك أغلبية الناس هذه الأيام، حيث اللايقين واللامبالاة إزاء قضايا مقدسة وكبرى وأمواج من الضياع والتيه والتشتت الفكري والروحي والنفسي والتفسخ القيمي والاجتماعي وتبرير وتقبل للباطل بسهولة منقطعة النظير واقتحام للمعاصي والجريمة بألفة واستأناس ..!! .

ولهذا، فالعقل الإنساني لا يستطيع محو أثار المعطيات المختزنة بدون أن تترك بصماتها وتشوشاتها عليه، وقد يستطيع استقبال وإضافة معلومات صحيحة وجديدة وضمها إلى المعلومات المغلوطة القديمة، ولكن التفاعل والتسرب سيحصل بين اللاوعي والوعي بصورة حتمية لاإرادية، ومهما حاول الإنسان ضبط وعيه وشعوره فان اللاوعي واللاشعور سيطلقان بالحد الأدنى محفزات وإيحاءات ذاتية يصعب التفلت منها، ولوا في حالات الاسترخاء والنوم والأحلام، وهذا التحول يحدث بأسلوب تدريجي جرعة اثر جرعة قد يحصل في غضون أسابيع وأشهر وليس في ساعات......

مثال على ذلك فيما لوا بثت 10 قنوات تلفزيونية حملة مركزة على مدى شهر كامل وبشكل متكرر أمام جمهور محدد مجموعة من الرسائل والمقولات والمغالطات من مثل (ولاية الفقية هي ديكتاتورية دينية / ولاية الفقيه تقمع الحريات وتمنع الديمقراطية / ولاية الفقيه ضد الإبداع / ولاية الفقيه تصادر العقول / ولاية الفقيه هي احتكار للسلطة من قبل رجال الدين / الولي الفقيه فوق القانون/ الولي الفقيه يتحكم بشؤون البلاد والعباد).... فان الوعي أما آن يتقبلها وإما أن يرفضها، فإذا قبلها دخلت وركزت في الوعي وفق عملية تسمى بالإرساء حسب مصطلحات علم البرمجة اللغوية والعصبية وأصبحت معتقدا، وإذا رفضها ذهبت إلى اللاوعي، وهناك كلما ازدادت كميتها أطلقت في النفس محفزات ووسوسات لاواعية ولاشعورية، وبالطبع ليس كل الناس على درجة واحدة من التأثر والتفاعل، فكلما كان الشخص يقظ الوعي نافذ البصيرة راسخ الإيمان صلب الإرادة، كلما منع هذه السلبيات من أن ترسي في وعيه ونفسه، ولكن الخطورة تبقى في الفئات الرخوة ( الأطفال / الشباب / الأميين ) فهؤلاء كالأوراق البيضاء التي يمكن أن يكتب على صفحاتها كل شيء ..

واستطراداً، فلوا فرضنا أننا قمنا بعملية برمجة إعلامية مضادة العادة فرد آو جماعة تعرضت لضخ إعلامي سلبي فليس من السهل أخراجها من هذا المستنقع بدون مضاعفات، هذا إذا قطعت الخطوات المطلوبة وتابت وعادت إلى رشدها، لان محو المعطيات والمواد المغلوطة والمزورة من الدماغ والعقل البشري ليس بالسهولة التي قد يتصورها البعض، وعندها تكون الأغلبية من هذا الجمهور قد سقطت وغرقت في وحول الكفر واللايمان وسقطت على الطريق أو في منتصف الطريق قبل أن تتلقفها يد الهداية الإلهية.

ومن هنا خطورة الإدمان والتعرض السلبي لوسائل الإعلام، فالتكـــــرار والتــــوكيد يصنعان التصورات والمعتقدات خاصة إذا ما شحنا بجرعات عاطفية ومؤثرات بصرية ايحائية كما يقول الباحث الشهير غوستاف لوبون.

 

*الحرب الناعمة المفهوم - النشأة - وسبل المواجهة , سلسلة الندوات الفكرية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- فقرة الحياة السياسية الأميركية، موقع وزارة الخارجية الأميركية على الانترنت vog.america.www
2- برمجة الوعي . سامي الموصللي . دار شعاع 2008 ص . 85 .
3- نعومي كلاين . عقيدة الصدمة / شركة المطبوعات للنشر والتوزيع ط. 2009 . ص 31 وص42.
4- المصدر السابق . ص 32 .
5- برمجة الوعي . سامي الموصلي . دار شعاع 2008 ص 85.
6- مقالة بعنوان " التربية والإعلام . مواجهة مرشحة للتزايد" للدكتورة نهوند القادري عيسى / إذاعات عربية / المجلة الدورية الصادرة عن اتحاد إذاعات الدول العربية عدد 2005 .
7- أهل البيت عليهم السلام تنوع ادوار ووحدة هدف . الشهيد السيد محمد باقر الصدر .. ص 48.
8- خوارق اللاشعور . علي الوردي الوراق للنشر . ط. 2 عام 2008. ص 222 .

أضيف بتاريخ: 04/02/2016