مقالات خارجيّة

القـــدوة ضرورتهــــا وتحولاتهــــا-الجزء الاول: القدوة التربوية

 

القـــدوة ضرورتهــــا وتحولاتهــــا
الجزء الاول: القدوة التربوية

الدكتور طلال عتريسي*
لم تترك القدوة الإنسان وحيداً. فما ان يتفتح وعيه منذ سنواته الأولى حتى يجد أمامه قدوة هي الوالدين ينشدّ إليها ويتأثر بها ويعتقد أنها أفضل ما يراه وما يبحث عنه. ومن خلال هذه القدوة تتشكل الصور الأولى للطفل عن العالم فيراه هانئاً منسجماً أو قاسياً مضطرباً. لذا توافقت كل الدراسات التربوية والنفسية على أهمية وجود الأسرة بالنسبة إلى الإنسان،في حين تقدم الإسلام خطوة إضافية في هذا المجال عندما أكد على ربط وجود هذه الأسرة بشروط اختيار الزوجين،وليس كيفما اتفق، (تخيروا لنطفكم..إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه...).

ولا يختلف الباحثون حول أهمية الأسرة وأهمية ما يجري فيها وتأثيراته القوية على شخصية الإنسان اللاحقة. لكن قدوة الوالدين المهمة جداًبالنسبة إلى الطفل،لا تبقى غالباً على حالها في مراحل العمر اللاحقة.

فمن المؤكد أن الإنسان عندما يصبح اكبر سناًً وأكثر تجربة وأوسع اطلاعاًً ستتغير نظرته إلى القدوة، والى شروطها ومواصفاتها، التي كان يتطلع إليها. فالطفل الذي يتخذ والديه أول قدوة له في سنوات عمره الأولى سينتقل لاحقاًً إلى قدوة أخرى قد تكون معلم المدرسة أو رفيق الصف، أو أي شخصية أخرى رياضية أو سياسية وفقاًً للبيئة التي سيعيش فيها أو يتأثر بها...كما أن هذا الاختيار قد يتغير أيضاًً في مراحل "النضجًً الأخرى بحيث تصبح القدوة فكرة أو عقيدة، أو حزباًً ينتمي إليه الإنسان... ما يزيد من أهمية "القدوةًً ومن ضرورة متابعة تحولاتها وتأثيراتها المختلفة على الإنسان في مراحل عمره المختلفة وفي أدواره المتعددة في المجتمع.مع الالتفات إلى أهمية هذه القدوة والى أهمية تأثيراتها بحسب كل مرحلة من مراحل العمر.

ولذا لا يمكن أن يقتصر الاهتمام بالقدوة كما يحصل عادة على البعد التربوي فقط على الرغم من أهمية هذا البعد خصوصاًً في طفولة الإنسان...بل يفترض أن يكون هذا الاهتمام أكثر اتساعاًً وشمولاًً من خلال الدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والفلسفية والثقافية والانتروبولوجية التي يمكن أن تقدم زوايا نظر مختلفة ومهمة ومتعددة لدور القدوة ولتأثيراتها على مستوى بناء الفرد التربوي وعلى مستوى تشكيل اتجاهاته الفكرية والاجتماعية والسياسية... وصولاًً إلى أدوارها المحتملة على بنية المجتمع وتأثيرها على مصادر قوته وتماسكه...

تشترك معظم الدراسات الغربية التي تناولت موضوع القدوة ومعها الأدبيات العربية المترجمة عنها أو المتأثرة بها،في أهمية القدوة وفي تأثيراتها على الإنسان خصوصاًً في مرحلتي الطفولة والمراهقة. لكن قلة هي الدراسات التي التفتت إلى شروط القدوة ومواصفاتها.ويكاد هذا الأمر يقتصر على الاتجاه الديني الذي اهتم كثيراًً بالجوانب الاخلاقية للقدوة منذ مراحل العمر الأولى.لذا دعا الاسلام على سبيل المثال الى تجنب رفاق السوء والابتعاد عن مواضع التهم ومصاحبة اهل العلم خصوصاًً في مرحلة الشباب انطلاقاًً من المعرفة الأكيدة بصعوبة تغيير ما نكتسبه في هذه المرحلة.ولذا نلاحظ ان معظم العلماء وخصوصاًً اهل العرفان منهم يؤكدون على التمسك المبكر بالفضائل وعلى الابتعاد عن المعاصي حتى الصغيرة والبسيطة وعلى عدم تأجيل هذا الأمر الى المراحل اللاحقة من العمر لأن القدرة على تغيير العادات والسلوك تصبح أكثر صعوبة نظراًً لتمكن هذه العادات من نفوسنا وطباعنا... اي ان المنظور الاسلامي للقدوة لا يكتفي بالحض على بعدها الايجابي فقط، بل يريد في الوقت نفسه ان نتجنب السلبيات التي قد تنجم عن القدوة السيئة.لأن الانسان بحسب الرؤية القرآنية المعروفة هو على استعداد للانحراف مثل ما هو على استعداد للرقي والتكامل. وهذا الأمر منوط بالبيئة التي يعيش فيها وبالتربية التي يتلقاها فإما ان تأخذه هذه التربية ومعها القدوة المرتبطة بها بعيداًً نحو الانحراف واما ان تدفعه قدماًً نحو الرقي والتقدم والتكامل...

القدوة فكرة
من المهم ان نلاحظ ان القدوة ليست دائماًً شخصاًً نقتدي به، قد يتغير بحسب الظروف والمراحل. فهي قد تكون ايضاًً فكرة دينية أو سياسية يحملها الانسان ويتأثر بها ويحاول تقليدها والعيش وفقاًً لمقتضياتها. وقد يتبناها الانسان ثم يتخلى عنها الى فكرة أخرى، فيغير طريقته في التفكير،وفي التصرف.من ذلك على سبيل المثال من يقتدي بالفكرة السياسية التي تدعو الى الاحتجاج السلمي والى التظاهر والى المشاركة في الانتخابات وغير ذلك مما نعرف عن معظم الأحزاب والحركات السياسية في عالمنا المعاصر.وما يشيع في اوساط المنتمين الى هذه الحركات من عادات مشتركة ومن زي متشابه ومن طريقة في السلوك وفي العلاقات بين الجنسين وفي احياء المناسبات السياسية والاجتماعية... وبين من يقتدي باتجاهات سياسية اخرى دينية او غير دينية تدعو الى العنف او الى التكفير وتفرض على اتباعها العزلة عن المجتمع وزياًً خاصاًً يتمايز به اتباع هذه القدوة عن غيرهم... وقد تكون القدوة بيئة ثقافية غير محددة المعالم،(يبدو التعرف عليها اكثر صعوبة واكثر تعقيداًً) مثل ما تفعل وسائل الاعلام التي تبث طوال اليوم ومن دون توقف كل ما يمكن ان يشكل عناصر هذه البيئة الثقافية بمضامينها الفنية والاخلاقية والترفيهية والاجتماعية وسواها...وهي بيئة يصعب حصر اولها من آخرها وضبط ما يدور فيها...اذاًً القدوة ليست دائماًً شخصاًً أو نموذجاًً محدداًً يمكن ان نتعرف عليه ونشير الى مواصفاته المحددة،على الرغم من أهمية الشخص/القدوة ودوره التاريخي في كل المجتمعات دون استثناء.بل هي أكثر من ذلك ايضاًً. فهي فكرة وهي بيئة وهي اطار يحيط بالانسان.وما يزيد من اهمية ومن خطورة هذه الفكرة او هذه البيئة انها باتت بفضل وسائل الاعلام الحديثة غير محددة المعالم تماماًً،وتتوجه الى أكثر من جيل، والى اكثر من فئة اجتماعية في وقت واحد...فباستطاعة وسائل الاعلام اليوم ان تتوجه الى كل افراد الاسرة في وقت واحد. وهي تتوجه اليهم في كل ساعات اليوم.وبات بمقدور الاغنياء والفقراء ان يشاهدوا الافلام والمسلسلات نفسها والنماذج القيمية والثقافية التي تبثها الفضائيات ومواقع الانترنت المختلفة من دون تمييز بين من يقدر على تقليد ما يدور فيها وبين من لا يجد قوت يومه لاشباع عياله... ما يجعل "القدوةًً التي تبثها تلك الوسائل "قدوة عالميةًً على مستوى الزي والأفكار والثقافة والسلوك والعلاقات...تتجاوز الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لهذا البد أو ذاك..بحيث نشهد الاعلانات نفسها حول مساحيق التجميل وحول عروض الازياء والعلاقات بين الجنسين والفنانيين والممثلين..من الولايات المتحدة الى الصين وصولاًً الى بنغلادش وأفريقيا وباقي الدول الاسلامية...

المراهقة والقدوة
تختلف ما اصطلح على تسميته مرحلة "المراهقةًً عن ما سبقها من مراحل لاسباب معروفة في الادبيات التربوية والنفسية،خاصة ما يتعلق بالادوار الجديدة التي يتوقعها المجتمع من المراهق والتي يتوقعها المراهق من نفسه...إن المهم هنا هو كيف سيتعامل المجتمع مع هذه المرحلة وكيف سيقبل التغيرات التي يمر بها الانسان في هذه المرحلة. لأننا نعتقد ان المشكلة ليست في التغيرات الفيزيولوجية نفسها،بل في استعداد المجتمع أو في عدم استعداه لتوفير الفرص لدمج المراهق من دون أي تأخير أو تردد... عندما يخرج المراهق من نطاق العائلة الى نطاق المجتمع يجد امامه خيارات كثيرة: القدوة التربوية تتحول تدريجاًً من الوالدين الى شخصيات اخرى. لماذا يختار المراهق قدوة له،شخصاًً لم يلتق به ولم يسبق ان تحدث اليه مباشرة؟ ولماذا يتعلق بشخص موجود في بلد آخر. قد يذهب الى قدوة سياسية او دينية او فنية او رياضية... ما يجعل القول بمواصفات نهائية للقدوة في مرحلة المراهقة امراًً صعباًً. فقد يعتبرالبعض ان الاسلام هو القدوة التي يبحث عنها،فيحاول ان يقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام وبسواه من الائمة والمصلحين. وقد يعتبر آخر ان فكرة العدالة أو مواجهة الظلم او الاحتلال التي تنادي بها حركات سياسية او اجتماعية هي تلك القدوة.فيقلد رموز وقادة تلك الحركات... هكذا سيكون غاندي الزعيم الهندي رمزاًً يٌقتدى به وبحركته السلمية في مواجهة الاحتلال والظلم. كما سيكون المناضل غيفارا الذي عاش في الغابات في اميركا اللاتينية وقاتل القوات الاميركية رمزاًً وقدوة لكثير من الشباب في الزي وفي السلوك..في حين سيجد كثيرون في بطولات المقاومة لبنان او في فلسطين التي عبر عنها الشهداء أو تجلت في الانتصارات،قدوة تثير الاعجاب والتقدير...وهذه مسألة مهمة جداًً في واقعنا المعاصر،بحيث لا نستطيع ان نفصل غالباًً بين الفكرة وبين من يعبر عنها.

ما يمكن ملاحظته ايضاًً ان الشخص نفسه قد يكون قدوة في جوانب مختلفة من شخصيته.فهذا يتخذه قدوة بسبب وسامته وآخر لشجاعته وثالث لدماثة اخلاقه،أو لأفكاره ونظرياته، وهكذا... ونادراًً ما تجتمع مواصفات عدة في شخص واحد. وهو ما يطلق عليه "الكاريزماًً التي تلخص حضور هذه الشخصية الطاغي والمحبب في جوانبها كافة. الجانب الآخر لهذه المسألة الذي لا يقل خطورة وأهمية هو ما نسمية القداسة التي تسبغ على القدوة التي يتخذها الانسان نموذجاًً له بحيث يفقد في هذه الحالة أي حس نقدي تجاهها، بحيث لا يرى لتلك القدوة أي خطأ، ولا يرى في سلوكها أي نقص. من هنا ذلك التأثير القوي للقدوة على اتباعها.ومن هنا ضرورة الاهتمام بالقدوة المناسبة التي يفترض الاقتداء بها.

القدوة التربوية
لا شك ان التدخل التربوي او التوجيهي من جانب الاهل أوالمربين يفترض اعتماد الطريقة الملائمة وفي الوقت المناسب لتقديم "القدوة الايجابيةًً او التمهيد للإبتعاد عن "القدوة السلبيةًً. والاسلوب المعروف هو الحوار والاقناع.وما ينبغي مناقشته هنا هو الاسلوب التربوي الشائع في كثير من المؤسسات التربوية والعائلية حتى قبل مرحلة المراهقة.إذ ينبغي بالنسبة لنا ان ندمج بين الحوار مع الطفل او حتى المراهق وبين الحزم لتنفيذ ما يطلب منه. لأن الحوار في مرحلة الطفولة هو لتنفيذ الأمر تحت سقف الحزم وليس تحت سقف استمرار الحوار الى ما لا نهاية،حتى يقتنع الطفل بما سيقوم به.فماذا نفعل على سبيل المثال لو لم نتمكن من إقناع الطفل بالقيام بما ينبغي؟ الحزم هو الذي سيساعد على تنفيذ الأمر في هذه المرحلة كما سيساعد على تقبل التوجيه نحو القدوة الايجابية في مرحلة لاحقة. لذا نحن لا نستطيع ان نترك المراهق يفعل ما يشاء او ان ينجرف خلف تجربة كل شئ. التدخل ضروري لمنع هذه الانجراف من جانب الاهل ومن جانب كل من هو في موقع المسؤولية والقدوة.

يمكن ان نلاحظ ايضاًً على المستوى التربوي كيف تتشكل القدوة كفكرة او كمثال اعلى من خلال ما هو مألوف من تشجيع الاهل والمعلمين الابناء والتلاميذ على الاقتداء بالناجحين.لأن ما يريده هؤلاء في هذه المرحلة من العمر هو النجاح المدرسي والتفوق. وهذا أمر ايجابي ولا يمكن الاعتراض عليه او مخالفته. لكن الوجه الآخر لهذه المسألة لا يكمن فقط في احتقار الفشل والابتعاد عنه بل في ما يدعو اليه البعض من احتقار الفاشلين انفسهم الذي لم يتمكنوا من النجاح والتفوق. في هذه الحالة تخسر قدوة النجاح الكثير من مضمونها الاخلاقي.لأن المطلوب في حالة مماثلة ان يفهم الابناء والطلاب شروط النجاح وان يعرفوا شروط الفشل. وأن يطمحوا الى ان يكونوا من الناجحين وان يبذلوا الجهد حتى لا يكونوا من الفاشلين. لكن ذلك لا يفترض ان يؤدي الى احتقار الفاشلين على المستوى الانساني والاخلاقي. فللفشل اسباب كثيرة قد تكون خارجة عن ارادة الانسان،مثل الفقر والمشاكل العائلية وضعف القدرات الذهنية،وسواها... ولذا ينبغي ان نربي الاولاد ليس فقط على قيم النجاح بل وعلى قيم مد يد العون لمن هوبحاجة الى المساعدة لأنه لم يتمكن من النجاح مثلنا. وهذه الفكرة هي قدوة نضعها امام ناظري الابناء والتلاميذ.وبهذا المعنى ان ما تفعله الكثير من المدارس حول اعلان نسب النجاح التي تبلغ عادة نسبة المائة في المائة هي حافز وقدوة سواء للمدارس الأخرى في إطار التنافس الايجابي وفي اطار تشجيع الطلاب على النجاح كقيمة وقدوة لا يمكن التفريط بها في المراحل الدراسية كافة. لكن الوجه السلبي لهذه القدوة هو ما يجري في بعض تلك المدارس عندما تقوم بمنع الطلاب ذوي المستويات المتوسطة من تقديم الامتحانات الرسمية مع اقرانهم المتفوقين.او عندما تعزل هؤلاء في صفوف خاصة وتفصلهم عن رفاقهم الذين قضوا معهم سنوات طويلة خلال المراحل الدراسية.بحيث نصبح امام تمييز واضح بين القوي والضعيف. فنعزل الضعيف ونترك القوي في مواقعه.القدوة هنا هي في هذا السلوك الذي تقوم به المدرسة التي تساهم من حيث لا تدري في وأد روح التعاون بين المستويات المعرفية-الدراسية المختلفة (المتفوق والمتوسط والضعيف...).أي ان على القوي –المتفوق- بحسب هذا المنطق الا يلتفت الى الضعيف والا ينتظره والا يفكر بما سيفعله لأنه لن يراه امامه.فما هي القدوة التي نربي الاولاد عليها في مثل هذه الحالة ؟ هل هي قدوة التفوق فقط ام هي ايضاًً وفي الوقت نفسه قدوة الترفع والتعالي والابتعاد عن الضعيف وعن من يحتاج الى مد يد المساعدة؟ فأي قدوة يقدم الصف ومن خلفه ادارة المدرسة لتلامذته في هذه الحالة؟وماذا يمكن ان نتوقع من هؤلاء ان يفعلوا في المجتمع؟ سوف يكونوا على الارجح الى جانب الاقوياء وسوف يبتعدوا عن الضعفاء بدلاًً منأن يكون نجاحهم وتفوقهم فرصة لمساعدة الآخرين ولمد يد العون الى الضعفاء والى الوقوف بجانبهم. إن القدوة التي تقدم في هذه الحالة ليست شخصاًً او فرداًً بل هي فكرة وهي بيئة من التصرف ومن الممارسة وهي قيم سلبية نربي الاولاد عليها،ولكن تحت راية وقدوة النجاح والتفوق...! وهذا احد اوجه القدوة بوجهيها السلبي والايجابي من الناحية التربوية.ولعل ما يجري على هذا المستوى متأثر بتلك القدوة /الفكرة المهيمنة التي نشرتها العولمة المعاصرة والتي جعلت البقاء للأقوى ثم تحولت عنه الى البقاء للأسرع. بمعنى اننا نقتدي هنا بفكرة القوة التي لا ترحم والتي تسحق من هو اضعف والتي لا تعترف بأي بعد أخلاقي أو بأي رحمة في العلاقات بين الناس أو بين القوي والضعيف... القدوة الفكرة أكثر خطورة لأننا لا نرى من نقتدي به. في حين ان القدوة الشخص أكثر وضوحاًً، ويمكن ان ننتقل منه الى شخص آخر عندما يخيب أملنا من هذا الشخص. لكن القدوة الفكرة أكثر تعقيداًً وليس من السهل ان نلاحظ كيف تصبح هذه الفكرة قدوة لنا،ولا كيف تمارس نفوذها علينا، ولا كيف يمكن التخلص منها والانتقال الى سواها...

إن خطورة القدوة واهميتها في الوقت نفسه تكمن في مرحلة الشباب. ففي الطفولة على سبيل المثال ستقتصر القدوة على الوالدين،ثم على المدرسين لاحقاًً. ونادراًً ما يتعرض الطفل لقدوة سلبية في هاتين المرحلتين الأسرية والمدرسية.وحتى عندما يحصل ذلك فإن الأثر السلبي سيقتصر غالباًً على الطفل نفسه.أما في مرحلة الشباب فإن التعرض للقدوة بوجهيها السلبي والايجابي هو أوسع بكثير واحتمالاته متنوعة ومتعددة: من الأصدقاء الى المؤسسات التعليمية ومن المؤسسات الثقافية والسياسية،الى المؤسسات الدينية والفنية وغيرها...بحيث يتجاوز أثر القدوة الفرد الشاب الى المجتمع بأسره، خصوصاًً وان الشباب هم أهم قوة تغيير في أي مجتمع من المجتمعات...

القدوة السلبية:
تتشكل هذه القدوة غالباًًمن خلال البيئة التي تحيط بالشاب، ومن خلال القيم التي ترتبط بهذه البيئة.فمن المعلوم ان كل بيئة مهما كان نوعها سياسية او دينية او فنية او رياضية تنتج غالباًً قيماًً خاصة بها.

وتتحول هذه القيم الى قدوة يلتزم بها اعضاء هذه البيئة او المؤيدين لها. بهذا المعنى قد يكون للمراهق اكثر من قدوة في وقت واحد. ومن الملاحظ ايضاًً في مجال الدراسات ذات الصلة بالمراهقين والشباب في هذه المرحلة شدة تأثرهم برفاقهم وبمن حولهم...لذا قد يلتحق المراهق بنموذج سلبي في السلوك وفي التفكير وفي العلاقات مع نفسه ومع الآخرين. ومن المؤكد ان أغلب حالات الانحراف مثل الادمان والجنوح وحتى السرقة وسواها لا تتم الا في بيئة جماعية. بمعنى ان الانحراف او تعاطي المخدرات لا يمكن تفسيره من خلال البعد الفردي فقط (أي من خلال مشكلة نفسية او عائلية...) بل ينبغي الالتفات ايضاًً الى بيئة الرفاق والى الجماعة التي يمضي فيها الشاب أوقات فراغه وتسليته بعيداًً من رقابة الاهل او مؤسسات المجتمع الأخرى.ما يعني ان الانحراف هو حالة جماعية وهو نتيجة لقدوة سلبية تشكلت في بيئة جماعية من الرفاق الذين يشجعون على تعاطي المخدرات او على التدخين او على السهر بعيداًً عن المنزل او على ترك المدرسة والذهاب معاًً الى اماكن اللهو أو التسلية وسواها...إذاًً القدوة السلبية هي نتاج بيئة جماعية.وهذا يفترض في كثير من الاحيان ان نبدأ بتغيير هذه البيئة، وتفكيك القيم والقدوة المرتبطة بها،قبل تغيير سلوك الافراد انفسهم.

عندما يكون البيت قدوة سلبية (مشاكل بين الزوجين، اضطراب العلاقات العائلية...) سيهرب المراهق الى قدوة اخرى.قد تكون غالباًً قدوة سلبية لأنها ستكون مجرد بديل من دون التدقيق في محتوى هذا البديل اذا كان ايجابياًً او سلبياًً. كما ان الشاب او المراهق قد لا يملك القدرة او حتى الاستعداد للتمييز بين السلبي والايجابي في القدوة اذا كا الهدف هو الهروب من قدوة عائلية...لذا هو يحتاج دائماًً الى الاهتمام والمتابعة والرعاية.

* استاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.

أضيف بتاريخ: 05/02/2016