مقالات داخليّة

الإعلام الملتزم وتحدّيات المرحلة-عبد الله قصير

الإعلام الملتزم وتحدّيات المرحلة

عبد الله قصير *


{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا} (الأحزاب: 39)
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الفتح: 8). 
لقد كانت مهمة الأنبياء(ع) هداية الناس إلى طريق الحق، وتحذيرهم من سلوك طريق الباطل، وبذلك كانوا هم رسل الله للناس، أي للتأثير في الرأي العام الذي يمثله عموم الناس أو الأقوام في الأزمنة الغابرة.

* أدوات التأثير في الرأي العام
وإذا كانت وسائل الاتصال في تلك الأزمنة مقتصرة على الخطاب المباشر من المرسِل إلى المتلقي لإيصال الرسالة، فإن التأثير في صناعة الرأي العام كان متوقفاً على قوة الرسالة (المضمون) وقدرة وبراعة المُرسِل في التأثير على المتلقي. ورغم أن الرُّسل(ع) كانوا أصحاب منطق قوي ومتين وأصحاب معاجز ومكرمات مبهرة إلا أن الرأي العام بقي بعيداً عن التأثر؛ لوجود مصالح متضاربة أو أهواء شخصية تأبى الإذعان إلى كلمة الحق والمنطق وتوغل في طريق الضلالة والتيه. وهذا ما حدث مع نبي الله نوح (ع) الذي قال {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَ فِرَاراً} (نوح 5-6).
ومع تطور أدوات الاتصال، صارت الكتابة ـ إضافة إلى الخطابة ـ أداةً للتأثير في الرأي العام، فوُجدت الكتب والصحف والدوريات. ومع مطلع القرن العشرين صارت الإذاعة الوسيلة الأقوى للاتصال بالجماهير والتأثير بالرأي العام. وفي عصرنا الحاضر تنوعت أدوات الاتصال وتطورت بشكل هائل، فصار التلفاز والإنترنت وغيرهما من أدوات الاتصال كلها تستخدم لدى أصحاب الرسالة في إيصال رسائلهم المتنوعة والمبتكرة للتأثير على المتلقي وصناعة الرأي العام.
ولا تخفى اليوم أهمية الإعلام والإعلان في صناعة الرأي العام وتوجيهه اتّجاه القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية والسلوكية، حتى أن هذه الوسائل الإعلامية مع انتشارها الكبير ودخولها إلى كل منزل ـ نتيجة سهولة الحصول عليها ـ أصبحت من ضروريات الحياة وأداة التواصل مع العالم الخارجي إلى الحدّ الذي أفقدت فيه العائلة والمدرسة الكثير من قدراتهما في التأثير لصالح احتلال الإعلام والإعلان حيزاً أكبر في القدرة على التأثير في الرأي العام وصناعة السلوكيات في المجتمع. ولا يخفى ما للإعلام من دور وتأثير في هذا المجال فضلاً عن دور الإعلام في صناعة التوجهات وتحريك العصبيات أو إثارة النَّعرات أو إقناع الرأي العام بفكرةٍ معينةٍ أو بسلعةٍ أو بإشاعةِ سلوكٍ ما.
يعتبر الإمام الخامنئي "دام ظله" أن الحرب العالمية تُخاض اليوم في الساحة الإعلامية، وأنَّ الإعلام يشكِّل أحد أدوات الحرب الناعمة التي تطلق اليوم على مجموعة الفعاليات والضغوط التي تسعى لتحقيق مآرب سياسية وفكرية واقتصادية دون اللجوء إلى القوة العسكرية. لقد استبدلت الدول والقوى الكبرى الدبابات والطائرات الحربية والمدفعية والرشاشات بشاشات البلازما وصفحات الصحف والمقالات، وغدا الكثير من التغييرات السياسية يحدث عبر هذه الوسائل.
لقد رأينا كيف خاض الأميركيون حروباً استباقية في العراق وأفغانستان في ظلِّ إقناع الرأي العام بأحقية هذه الحروب وضرورة مواجهة «الإرهاب» وتحت يافطات تدّعي وجود أسلحة دمار شامل في العراق مثلاً أو وجود نوايا عند القاعدة لتكرار هجماتها على أميركا بعد حادثة 11 أيلول. 
* كسر الاحتكار الغربي للإعلام
مما لا شك فيه أن هذا التطور الهائل في دور الإعلام وقدرته على قلب الحقائق أو تشويه الصورة كان سلاحاً ماضياً في يد الغرب اتجاه العالم العربي والإسلامي، بل اتجاه كل المناطق المستهدفة في العالم من قبلهم للهيمنة أو لفتحها كأسواق استهلاكية أو كمصدر للثروات النفطية والطبيعية التي يحتاجها الغرب في صناعاته وتثبيت هيمنته وتسهيل مصالحه الاستراتيجية.
لقد وعى الغرب باكراً أهمية ودور الإعلام في صناعة الرأي العام والتأثير بالمجتمعات. ولأن التكنولوجيا في الاتصالات هي صناعة غربية، فإنَّ الغرب كان سبّاقاً في استخدام هذه التكنولوجيا في مجال الإعلام واحتكارها لفترة طويلة من الزمن. ويكفي أن نذكر أن الوكالات الكبرى الخمسة للأنباء (رويتر، اسوشيتدبرس، يونايتدبرس، الصحافة الفرنسية، PTN) تقدم روايتها إلى كل وسائل الإعلام في العالم، بل تسيطر على أكثر من 95 بالمئة من مساحة ما يكتب أو يذاع أو ينشر من معلومات أو صور في وسائل الإعلام العالمية، خلال الخمسين سنة الماضية (النصف الثاني من القرن العشرين).
وإن كسر هذا الاحتكار الغربي لمصادر المعلومات لم يتم إلا مع الطفرة الإعلامية التي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية منذ بداية التسعينيات (العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن 21)، بعد أن وعى المسلمون والعرب أهمية امتلاك مصادر للمعلومات وأهمية نشر روايتنا الخاصة حول الأحداث في منطقتنا العربية والإسلامية.
ولقد حققت بعض وسائل الإعلام ولا سيما الفضائيات العربية والإسلامية نجاحات نسبية وجزئية على الساحة العربية والإسلامية وحتى العالمية؛ مما أدى إلى بداية كسر للاحتكار الغربي لمصادر المعلومات (كالجزيرة والمنار والعالم والأقصى والقدس والجديد وغيرها من الفضائيات العربية والإسلامية) الأمر الذي دفع العدو الإسرائيلي خصوصاً والحكومات الغربية عموماً إلى:
1ـ ممارسة الضغوط والقمع على هذه الوسائل وصولاً إلى قصفها وتدمير مبانيها أو منعها من البث على الأقمار الصناعية وتصنيفها في لوائح الإرهاب وهذا ما حدث مع المنار والأقصى، وجزئياً مع العالم والجزيرة.
2ـ استحداث العشرات من القنوات الغربية الناطقة باللغة العربية أو الفارسية أو اللغات المحلية للمنطقة وتوجيهها للبث في منطقتنا للمنافسة على الرأي العام أو محاولة التأثير فيه.
وهذا الأمر إن دلَّ على شيء فإنَّما يدل على حجم الانزعاج الذي سبَّبته مثل هذه الفضائيات للغرب وإسرائيل، ويدل على حجم تأثير هذه الفضائيات في تكوين رأي عام مناصر لقضايا الأمة وفي مقدمها قضية فلسطين والمقاومة، وقدرتها على إيصال الكثير من الحقائق التي كان الغرب والصهاينة يحجبونها عن الرأي العام.
ولذا رأينا أن الغرب قد سعى عبر الكثير من المتعاونين معه لاستحداث المزيد من الفضائيات العربية التي لا تنتمي
 إلى العروبة والإسلام إلا بالشكل واللغة، أما المضمون فهو يخدم ثقافة الغرب وسياساته ويشيع سلوكيات تلك الثقافة الغربية، وهذا ما نجده مع الأسف في العديد من الفضائيات في منطقتنا كما نجده في عشرات المجلات والمواقع الالكترونية الناطقة باللغة العربية.
* التحدي في الساحة الإعلامية
إنَّ المتعمِّق في البحث عن خلفيات هذه الوسائل الإعلامية يجد أنها جاءت ضمن خطة خبيثة لخدمة الخط المعادي لثقافتنا وقضايانا الأساس، وخصوصاً قضية المقاومة وفلسطين.
أخيراً، إن ما نحن بأمس الحاجة إليه لنواجه هذه التحديات في الساحة الإعلامية هو:
1ـ  تأصيل الخطاب الإعلامي بكل أنواعه وأشكاله الفنية في الوسائل الإعلامية العربية والإسلامية.
2ـ الالتفات إلى خطورة ما تبثه القنوات ووسائل الإعلام ذات المضمون البعيد عن ثقافتنا الأصيلة وتفنيده وتبيان سلبياته.
3ـ كما أننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى مزيدٍ من الإنتاج الدرامي المستند إلى القيم الإسلامية الأصيلة، وهذا ما بدأت به الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتسعى إليه أيضاً بعض مراكز الإنتاج العربية الأصيلة.
4ـ المزيد من المهنية والاحتراف في أساليب العمل الإعلامي وأشكاله الفنية المختلفة يساعد على مواجهة ما يقدمه الإعلام المضاد الغربي والإسرائيلي ويحدّ من قدرته على التأثير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
5ـ إنشاء المزيد من الجامعات والكليات الإعلامية التي تخرج كادراً إعلامياً يحمل ثقافة أصيلة ويتسلح بمهنية إعلامية ذات مستوى وكفاءة عالية.
 {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105).

الهوامش:
 (*)مركز الأبحاث والدراسات التربوية-مدير عام قناة المنار سابقا"

المصدر: مجلة بقية الله العدد 235

أضيف بتاريخ: 29/03/2016