تكنولوجيا: ألعابٌ... قاتلة!
تحقيق: نانسي عمر-مجلة بقية الله
انتشرت على شبكة الإنترنت في السنوات الأخيرة ألعاب إلكترونيّة تروِّج للتشويه والتعذيب والانتحار، وتُلحق بمستخدميها أضراراً بالغة وصلت إلى حدِّ الانتحار. وفي حين كان الأمر محدوداً في الدول الغربيّة، انتقل في الآونة الأخيرة إلى مجتمعاتنا العربيّة، لتنشر هذه الألعاب الرعب في نفوس الأطفال وأهاليهم على حدّ سواء.
* إنّها ليست مجرّد لعبة
تستهدف هذه الألعاب الطفل بالدرجة الأولى، كونه يفتقد الوعي الكامل والرقابة الذاتيّة، ويتلقّى الأوامر ويُنفّذها خوفاً من تهديدات اللعبة له ولعائلته، دون أن يعي أنّها مجرّد لعبة، وأنّ بطلها هو شخص أو "حيوان افتراضيّ" لا وجود له في عالم الواقع، ذلك أنّ المشاهد المرئيّة تؤثّر في ثقافة الطفل بنسبة 40 في المئة، فكيف إذا ترافقت مع مؤثّرات صوتيّة ترهيبيّة كالتي تعتمدها تلك الألعاب.
لم تسلَم الدول العربيّة كغيرها من هذه الظاهرة الخطيرة. فقد تسبّبت هذه الألعاب، وفي مقدّمها لعبة "الحوت الأزرق"، في انتحار عدد من الأطفال والمراهقين، وتأذّي بعضٍ آخر في مصر والجزائر والسعوديّة وحتّى في لبنان، وقائمة الضحايا تبقى مفتوحة طالما أنّ الدول لم تُسارع إلى احتواء الظاهرة عبر قوانين وضوابط وحملات احترازيّة وتوعويّة.
* ألعاب تؤدّي إلى الموت
من هذه الألعاب لعبة "غو بوكيمون" (pokemon-go )، التي ظهرت عام 2016م، واستحوذت على عقول الملايين عبر العالم. وعلى الرغم من التسلية التي تحقّقها هذه اللعبة لمستخدميها، إلّا أنّها تسبَّبت في العديد من الحوادث القاتلة بسبب انشغال اللاعبين بمطاردة والتقاط شخصيّات البوكيمون المختلفة خلال سيرهم في الشوارع.
وكذلك هناك لعبة "جنّيّة النار"، وهي لعبة تشجّع الأطفال على اللعب بالنار، حيث توهمهم بتحوّلهم إلى مخلوقات ناريّة؛ باستخدام مواقد الطبخ، وتدعوهم إلى التواجد منفردين في الغرفة حتّى لا يزول مفعول كلمات سحريّة يردّدونها، ومن ثمّ يصل بهم الأمر إلى حرق أنفسهم بالغاز، ليتحوّلوا إلى "جنيّة نار". وقد تسببّت هذه اللعبة في موت العديد من الأطفال حرقاً أو اختناقاً بالغاز.
* الحوت الأزرق: الخطر في المهمّة الأخيرة
ولكنّ أكثر الألعاب انتشاراً وخطورةً هي لعبة "الحوت الأزرق"، التي ابتكرها الروسيّ "فيليب بوديكين" عام 2015م، وهو طالب علم نفس طُرد من جامعته لابتكارهِ اللعبة، وقد قال إنّ هدفه من ابتكارها هو "تنظيف" المجتمع من خلال دفع الناس إلى الانتحار. ومنذ ظهورها تسبّبت هذه اللعبة في انتحار ما يفوق الـ100 شخص عبر العالم، أغلبهم من الأطفال. تعتمد هذه اللعبة على تصوير المهام الموكلة إلى اللّاعب للتأكّد من صحّة تنفيذها، وهو ما يزيد من نسبة خطورتها، فلا يمكن للّاعب أن يدّعي أنّه رسم الحوت مثلاً إذا لم يُصوِّر الرسم ويرسله إلى البرنامج، وعندها فقط يُسمح له بالانتقال إلى المرحلة التالية.
تُجبر لعبة "الحوت الأزرق" المستخدمين على مشاهدة أفلام الرعب يوميّاً، وتدفعهم إلى تشويه أجسادهم، باستخدام آلات حادّة، وتحثّهم على الاستيقاظ في ساعات متقطّعة من الليل وتصوير أنفسهم، مضافاً إلى تقطيع قطع صغيرة من أجسادهم. وكلّما نفَّذ الطفل مهمّة وصوَّر نفسه ينتقل إلى المرحلة التالية، حيث يتلقّى تشجيعاً وثناءً من القائمين على اللّعبة، ويوهمونه أنّه بطل. وفي اليوم الخمسين من ممارسة اللعبة، تكون المهمة الأخيرة للّاعب أن يُقدِم على الانتحار!
* لعبة مريم ترهيب للطفل
في المقابل، انتشرت مؤخّراً في الدول العربيّة لعبة "مريم"، التي طوَّرها المبرمج السعوديّ "سليمان الحربي" عن نسخة أجنبيّة مشابهة.
تشهد هذه اللعبة انتشاراً كثيفاً في مجتمعاتنا العربيّة وعلى رأسها الخليجيّة، وأبرز ما يميّزها هو الغموض والإثارة، والمؤثّرات الصوتيّة والمرئيّة المخيفة التي تسيطر على طبيعة اللعبة. تقوم هذه اللعبة على وجود طفلة صغيرة تشبه الشبح تاهت عن منزلها وتُدعى "مريم"، وعلى المشترِك أن يساعدها في العودة إليه. وأثناء اللعب تطرح عليه مجموعة أسئلة شخصيّة عن حياته وأخرى سياسيّة، وعادةً ما تطلب من الطفل إطفاء الضوء والبقاء منفرداً في الغرفة. وعند الوصول تطلب "مريم" من الطفل دخول الغرفة معها لمقابلة والدها، وترافق الأجواء الغامضة والألوان السوداء التي تتّسم بها اللعبة موسيقى مخيفة تؤثّر سلباً على الطفل، وتجعله يخاف من عدم تنفيذ أوامر "مريم" والاستجابة لها. مضافاً إلى ذلك، تعتمد لعبة "مريم" على ترهيب الطفل من خلال تهديده بالوصول إليه وإيذائه أو إيذاء أفراد عائلته، فهي تعرف عنوانه وكلّ تفاصيل حياته.
* تحذير قوى الأمن
مؤخّراً، أصدرت قوى الأمن الداخليّ في لبنان بياناً حذّرت فيه من تحميل لعبتَي "الحوت الأزرق" و"مريم"؛ لما لذلك من خطورة على حياة الأطفال والمراهقين، خاصّة بعد رواجهما بين هاتين الفئتين، وتسبّبهما في نتائج سلبيّة أقلّها الرعب والاكتئاب، وصولاً إلى الانتحار.
* جزء من الحرب الناعمة
تعتبر "ناديا هاشم" (مختصّة في العلاج النفسيّ والسلوكيّ عند الأطفال): "أنّ هدف هذه الألعاب ليس بريئاً، بل هي جزء من الحرب الناعمة التي يتعرّض لها الجيل الجديد. فمَنْ وضع اللعبة يعلم جيّداً أنّ أطفالنا استبدلوا الألعاب الرياضيّة واليدويّة والكتب بالألعاب الإلكترونيّة التي تأخذ اليوم حيِّزاً كبيراً من وقتهم. وهذا لا ينفي، في المقابل، أنّ من طوَّر اللعبة شخص مريض يعاني من اضطراب نفسيّ معيّن، يجعله يتلذَّذ ويستمتع بأذيّة الآخر وموته".
وتؤكّد "هاشم": "أنّ هذه الألعاب بما تحتويه من مؤثّرات صوتيّة وبصريّة تهدف إلى عزل الطفل عن محيطه، فتجذبه بالموسيقى المرعبة والألوان القاتمة والأصوات العالية، وتطلب منه أن يجلس في الغرفة وحده ويطفئ النور حتّى لا يلتفت إلى أيّ شيء آخر، وعندها يمكنها التأكّد من أنّه سينفّذ المهام المطلوبة دون تردّد. والمخيف في هذه الألعاب، أنّها تجعل مفهوم القتل لدى الطفل سهلاً جدّاً. فبمجرّد أن يهزّ الهاتف مثلاً يقتل العدوّ الموجود في اللّعبة، وبعد محاولات عدّة سيجد القتل الحقيقيّ سهلاً، وسيُنفّذ أوامر الإيذاء والجرح والحرق دون خوف، وصولاً إلى رمي نفسه من مكانٍ عالٍ والانتحار. والنقطة الأخرى هي أنّ مطوِّري اللعبة متابعون لما يجري خارجها، وهم يُطوّرون ويُغيّرون الأسئلة بحسب اللاعب والظروف والأحداث الجارية، وهذا أمر خطير يستدعي التنبّه إليه".
* طفلة خائفة من تهديد لعبة
وتضيف: "من الحالات التي واجهتني، طفلة ذات ثماني سنوات، قد لوحظت تغيّرات كبيرة في سلوكيّاتها. فهذه الطفلة التي كانت متفوِّقة في الدراسة تدنَّت علاماتها بشكل صادم، وبدأت تعاني من الكوابيس وفقدان الشهيّة، وأصبحت عدوانيّة وانعزاليّة وتعاني من الاكتئاب. بعد ثلاث جلسات استطعتُ أن أحصل على ثقة الطفلة، فاعترفت لي بأنّها تلعب لعبة "مريم"، التي هدّدتها بأنّها إن أخبرت أحداً فسوف تأتي إليها وتؤذيها". وتتابع: "استغرق الأمر جلسات عديدة حتّى تمكّنت من علاج الطفلة وجعلها تنسى اللعبة وتعود إلى حياتها الطبيعيّة، ولم يكن ذلك بالأمر السهل أبداً".
* مَن مِنَ الأطفال يحمّل هذه الألعاب الافتراضيّة؟
أمّا عن الأخبار الشائعة من أنّ اللعبة تسبّب الانتحار فتؤكّد "هاشم" أن: "لا دراسات حتّى اليوم تعيد سبب الانتحار إلى اللعبة في حدِّ ذاتها، بل إنّ الانتحار يكون ناتجاً عن أسباب نفسيّة ومشاكل اجتماعيّة يعاني منها الطفل أو المراهق قبل تحميل اللعبة، فتأتي بعدها اللعبة لتكمل طريق الاكتئاب وتؤدي به إلى الانتحار. لهذا، يعمل الأطباء على دراسة الوضع النفسيّ والعائليّ والاجتماعيّ للطفل ليحدّدوا سبب تحميله للّعبة.
وفي الصدد نفسه ترى "هاشم" أنّ الأطفال الذين لا يعانون من مشاكل نفسيّة لن يُحمّلوا اللعبة أصلاً، وإنْ فعلوا فلن يتابعوا اللعب بها ولن يصدّقوها أو ينفّذوا أوامرها. فهذه اللعبة تعتمد على التواصل، فيجد الطفل فيها طرفاً يمكنه التحاور معه، يسأله فيجيب، يعطيه معلومات ثمّ يسأله إن صدّقها. وهذا قد يكون تعويضاً عن نقص في التواصل لدى الطفل. فعندما لا يجد الطفل في بيئته من يستمع له ويحاوره، يجد في هذه الألعاب تفريغاً لطاقة التواصل، ويضع ثقته في لعبة افتراضيّة يصدّقها وينفّذ أوامرها، بدلاً من أن يكون الأب أو الأم مصدر الثقة الذي يلجأ إليه الطفل.
* لا بدّ من بناء الثقة
من هنا، فإنّ النقطة الأهمّ التي يجب على الأهل التنبّه إليها هي بناء الثقة بينهم وبين أطفالهم عبر التواصل الإيجابيّ والحوار الهادئ البنّاء، والاهتمام بكلّ تفاصيل حياة الطفل ويوميّاته ومصادقته، والابتعاد عن الانفعالات واللامبالاة والصدّ. فعندما يثق الطفل بوالديه سيخبرهما بكلّ ما يعانيه وسيصدّقهما بدلاً من تصديق لعبة افتراضيّة. كما يجب أن تحدّد أوقات معيّنة للألعاب الإلكترونيّة تحت رقابة مشدّدة من الأهل، ليتمكّنوا من منع الطفل من تحميل أيّ لعبة مؤذية، ولكن بطريقة ودِّيَّة، وبعد أن يُفهّم الطفل جيّداً سبب المنع. فالأطفال معروفون بحشريّتهم وحبّ الاستكشاف لديهم. لذا، علينا أن نحرّك هاتين الخصلتين في الاتجاه السليم، ونشجّع أطفالنا على الاكتشاف الآمن عبر المواقع الآمنة والمخصّصة لأعمارهم وأدمغتهم الصغيرة.