دراسات ثقافية

سلسلة كتب "التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة" في لبنان والمجتمع المدني

باسمه تعالى

سلسلة كتب "التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة" في لبنان والمجتمع المدني
تربية وطنيّة أم تنشئة تفكيك اجتماعي؟

 د. زينب الطحان

ينتشر مصطلح "المجتمع المدني" انتشارًا كبيرًا في بداية الألفيّة الجديدة، وهو مرتبط بتحوّلات ثقافيّة عميقة يشهدها العالم. وبالنظر إلى الأهمية الاستثنائيّة لهذا المصطلح، لا بدّ من التساؤل عن مسارات التطوّر التي يعبّر عنها، والدّلالات المختلفة التي أعطيت له، والشروط التاريخيّة التي تحيط بتكوينه وتطوّره، ونتساءل بخاصة عن مدى تجسيد مفهوم هذا المصطلح في واقع المجتمع اللبناني، وفي ما يخصّ تحديدًا تعامل الحكومة اللبنانيّة – وزارة التربية- مصطلحًا ومفهومًا، عبر كتب "التربية الوطنيّة والتشئة المدنيّة"، وذلك لِمَ لهذا التعامل من انعكاس على وعي الجيل الناشئ، والذي هو بحكم الواقع، جيل المستقبل.

تحرص وزارة التربية في لبنان، ومنذ عقود طويلة، على الاهتمام بمجموعة مفاهيم تتعلّق بالمجتمع المدني والأمم المتّحدة وما ينتج عنهما من تصوّرات ورؤى ذات صلة بالتربية والتنشئة الاجتماعيّة. لذا، تجدُ في مقرّرات مادة "التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة"[1] عدة دروس تهتم بهذا الجانب على نحوٍ لافت. مع ذلك، هي لا تتناول هذه المفاهيم في جميع المراحل التعليميّة (التعليم الأساسي إلى التعليم الثانوي)، إنّما تختار صفوفًا معينّة، مثل: السنوات الرابعة والسادسة والتاسعة من مرحلة التعليم الأساسي، والسنة الأولى والثانية من التعليم الثانوي[2].
أولًا- في توضيح المصطلح وتطوّره
حمل مفهوم "المجتمع المدني" في طيّاته تغيرًا وتطورًا في معناه ودلالاته منذ ظهوره عند الرومان ثمّ اختفى ليعود بعد ذلك في منتصف القرن السابع عشر، مع الفيلسوف الإنكليزي "جون لوك"(1632 – 1704)[3]، ثمّ توالى على دراسته واستقصاء أبعاده عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسّاسة الغربيين، فكانت ولادته في ظل التحوّل الجذري الذي اجتاح أوروبا والانتقال من عصر الظلام إلى عصر الدّولة الحديثة. وفي القرن الثامن عشر، عرّفه الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو"(1712 - 1778)، بقوله: "هو مجتمع صاحب السيادة، باستطاعته صياغة إرادة عامة يتماهى فيها الحكّام والمحكومون"[4]، بذلك اكتسب معنى مغايرًا كونه يشير إلى موقعه الوسيط بين مؤسسات السلطة وبقية المجتمع. والاتجاه نفسه عند الفيلسوف الفرنسي "مونتسكيو" الذي ربط المجتمع المدني "بالبنى الأرستقراطيّة الوسيطة المعترف بها من السلطة القائمة بين الحاكمين والمحكومين"[5]. من هنا، اقتربت فكرة "المجتمع المدني" بالميدان الليبرالي السياسي نقيضًا للفكر القروسطي[6]، وهي جزء من الدّولة الحديثة، والدّولة هي آلة تتجه لضبط سلوك الأفراد وحماية أمنهم وسلامتهم بحسب "توماس هوبز"، والذي كان يعطي للدولة بعدًا أرضيًا بإنزال مفاهيم السماء إلى الواقع عبر الحق الإلهي.

أما المفكّر الشيوعي الإيطالي "أنطونيو غرامشي"(1891- 1937)، رأى أنّ "المجتمع المدني" مجموعة من التنظميات الخاصة، والتي ترتبط بوظيفة الهيمنة وبصفتها جزءًا من البنية الفوقيّة عن طريق الثقافة والإيدولوجيا والسيطرة والإكراه، فلم يعد هذا المجتمع فضاءً للتنافس الاقتصادي أي للصراع الطبقي، بل هو فضاء للتنافس الأيدولوجي[7]. وحول وظيفة هذا المجتمع، يؤكد "غرامشي"، على خصوصية العلاقة في المجتمعات الغربيّة منذ مطلع القرن العشرين بين الدّولة والمجتمع المدني. ففي ظلّ دولة مترنّحة في المجتمعات البرجوازيّة الغربيّة غداة الحرب العالمية الأولى، سرعان ما أُكتشفت بنية قوية للمجتمع المدني، ولم تكن الدّولة غير خندق متقدّم يشكّله هذا المجتمع المدني ويحمي الدّولة "البرجوازيّة".

ليس "الخندق المتقدّم" للدولة غير تلك المؤسسات، وهي بمثابة "أجهزة الهيمنة" وفاعليتها في "خدمة الدّولة". لذا، هو "مستوطنة" – إن صح التعبير- لترويض الطبقات المغلوبة من أجل قبول هيمنة الطبقات السائدة والسلطة القائمة، أو بخلق الاعتراض على هذه الهيمنة واستبدالها بهيمنة نقيضة[8]. وحين شهدت الثمّانينيات، في القرن المنصرم، انتصارًا ملحوظًا لإيديولوجيا النيوليبراليّة في البلدان الرأسماليّة المتقدّمة، ومع سقوط جدار برلين (1989) وانهيار المعسكر الشرقي، عاود مفهوم المجتمع المدني الظهور في سياق تصاعد تدريجي في تشكيل جمعيات باسم "منظّمات المجتمع المدني".

ترافقت هذه العودة مع أزمة النماذج السياسيّة والاقتصاديّة التي طبعت بطابعها مرحلة العولمة النيوليبراليّة ورُفع في هذه المناطق لواء المجتمع المدني في مواجهة الدّولة. إذ قامت النيوليبراليّة، مستغلّة العولمة، على محاور ثلاثة متكاملة: أولها، تحرير أسعار السلع والخدمات؛ ثانيها، خصخصة كلّ مجالات الاحتكارات الحكوميّة؛ وإعادة النظر في دور الدّولة لجهة إلغاء دورها في رعاية المواطنين وتخلّيها عن معظم مهامها الاجتماعيّة والاقتصاديّة من جهة، وإلغاء دورها في ضبط الأسواق وتوسيع مجالها بفتحها وإطلاق حرية تبادل السلع والخدمات وانتقال الأفراد بلا قيود في الداخل والخارج من جهة أخرى. إزاء هذا الصعود للمجتمع المدني، اتسم مفهومه بدلالات مفتوحة، إذ يصفه "غوتييه پيرُت"[9] في مقاله "مفهوم المجتمع المدني في سياسات وممارسات التنمية" هذا المفهوم بأنه "ظرف فارغ يُملأ بمعانٍ معينة تبعًا للجهات التي تستخدمه وسياقات استخدامه الاجتماعيّة والثقافيّة"[10]. ويرى، في المقال نفسه، أنّ المجتمع المدني "مفهوم دائم التكوين".
  
ثانيًا- مفهوم المصطلح ودلالاته في كتب التربية الوطنيّة
أ‌- المفاهيم الواردة في مرحلة التعليم الأساسي

في السنة الرابعة من التعليم الأساسي، يحمل عنوان الدرس الثاني "ما هو المجتمع المدني؟"، يلي العنوان الرئيس عنوانٌ فرعيٌّ "أهداف نعمل لها"، وتحوي الآتي:
·  التعرّف إلى الحياة المدنيّة والمشاركة فيها.
·  تعزيز المجتمع المدني من خلال معرفتنا دوره الاجتماعي.
·  تطوير مؤسسات المجتمع المدني، كالصليب الأحمر ودور الأيتام والجمعيات الرياضيّة..

أهداف الدرس بيّنة، فهي تسعى إلى أن يدرك التلميذ، في هذه المرحلة العمريّة، ماهية المجتمع المدني بمفهومه الحسي الميداني البسيط، مشجعًا على الانخراط فيه. وهذا التشجيع يتجلّى حقيقة من منطلق أساسي لنصّ الدرس على مبدأ يتمحوّر حول قناعة راسخة بعدم قدرة الدّولة على تقديم كامل الحقوق للمواطن وتأمين مستلزمات الحياة المعاصرة، لذا يطالعك النصّ بما يلي :"هل تستطيع الدّولة تأمين كافة احتياجات المواطنيين الثقافيّة والصحيّة والمعيشيّة، والتعليميّة، والرياضيّة..."[11]. هذا السؤال هو سؤال العارف بالجواب المسّلم به سلفًا، في المجتمع اللبناني، حول عدم قدرة الدّولة اللبنانيّة على توفير مستلزمات الحياة كافة. وهي مقدّمة حتميّة لاقناع التلميذ بأن مفهوم الدّولة – السلطة (الحكم) تبقى عاجزةً دومًا على ممارسة وظائفها كلّها، وأنه لا بدّ لها من رديف معاون يكمل الدور عنها أو معها، وهذا الرديف هو مؤسسات "المجتمع المدني".

في ترسيخ هذه القناعة، عند الجيل الناشئ، تتأكد المقولة الفلسفيّة التي تقوم عليها فكرة "المجتمع المدني"، وهي دور الوسيط بين مؤسسات السلطة وأبناء المجتمع، تاليًا يعني أنّ هذا الوسيط الفاعل يملك قدرة غير عاديّة على أن يصبح مجتمعًا مستقلًا صاحب السيادة، "باستطاعته صياغة إرادة عامة يتماهى فيها الحكّام والمحكومون". خطورة تشي بها ترسيخ فكرة "المجتمع الوسيط" هو بناء جدار دائم يعزل الدّولة عن القيام بمهامها كافة، ويجعلها رهينة لمجموعات تمتلك سلطة مجتمعيّة كفيلة بأن تحقّق مصالح روّادها بعيدًا عن مصلحة المجمتع العام. فالصياغة اللغوية لتقديم الفكرة في كتاب التربية هذا، تنطلق من إطلاق حكم قطعي على أن الدّولة، أي دولة، غير قادرة على تأمين أحتياجات المواطنين كافة، وهذا يسهم بخلق ثقافة الحاجة المستمرة إلى جسم من خارج الدّولة. وكذلك يضرب عميقًا مفهوم الدّولة القادرة إذ شئت، بمعناها الإيجابي، خصوصًا حين يختم ذلك النص المدرسي تسويغه بفكرة "التعاون" بالقول :"والتعاونيّة تخفّف أعباء المعيشة على الناس. والنقابة العماليّة تدافع عن مصالحهم ومطالبهم الاجتماعيّة"[12].

يغلّف المفهوم الذي يقوم عليه "المجتمع المدني" بصيغة "التعاون" و"الحماية" وهما صفتان يفترض بالدّولة/ السلطة أن تشيعهما في الثقافة المدنيّة لتبني جسرًا قويًا مع مواطنيها، فإذ بهما صفتان تلازمان مهام "المجتمع المدني". ثمّ يأتي التساؤل الأخطر في صيغة "تدافع عن مصالحهم..."، تدافع أمام من؟!.. من الدّولة التي يبدو أنّ الصيغة تفترض وكأنّ هؤلاء المواطنيين بحاجة لمن يحمي مصالحهم من الدّولة لتحقيق مطالبهم الاجتماعيّة. أو ليس يفترض أن التعاون هو القائم بين "المجتمع المدني" والدّولة؟..فهذا افتراض صارخ أنّ الدّولة قد تكون خصمًا دائمًا للمواطن، فيستجدي بمنظّمات المجتمع المدني لتحصيل حقوقه من دولته.

النص أيضًا ينتهي بشيء من التناقض، حين يقول:"للدولة دور تجاه هذه المؤسسات، فهي تسمح بإنشائها وتقدّم لها العون والمساعدة، حتّى يتفاعل الناس بإراداتهم، ويشكّلوا مجتمعًا مدنيًا تعمل فيه تلك المؤسسات من أجل الخدمة العامة". قد يكون طبيعيًا سماح الدّولة بإنشاء الجمعيات، ولكن تعميم مسألة أنّ دورها هو تقديم المساعدات للجمعيات والمؤسسات، أمر يثير الإرباك في فهم المعنى الأساسي من دور الدّولة وقدرتها. إذ إن النص، في بدايته، اتكئ في تسويغه على مشروعيّة تأسيس مؤسسات المجتمع المدني هو نتيجة عدم قدرة الدّولة على القيام بواجباتها كافة تجاه مواطنيها، فإذا كانت قادرة على تقديم المساعدات لهذه المؤسسات، فأي تسويغ يبقى لوجودها- أي المؤسسات- أصلًا؟!

كما إذا انتبهت إلى فقرة بعنوان "لا أنسى" يرد فيها :"في المجتمع المدني يتعاون الناس لتأمين حاجاتهم الصحيّة والمعيشيّة والثقافيّة والرياضيّة ... فينشئون المؤسسات المدنيّة ذات النشاطات المختلفة". في عبارة " يتعاون الناس لتأمين حاجاتهم.."، تُفهمك على الفور أنّ ما تسمّيه "المجتمع المدني" هو دولة داخل الدّولة، حين يكون دوره تأمين حتّى أبسط الحاجات من صحيّة ومعيشيّة وغيرها..فإذًا أين دور الدّولة؟!. هذا نص يوحي للتلميذ أنّ مؤسسات المجتمع المدني حلٌّ منقذ لكلّ شيء، يجعله قادرًا على الاستغناء عن دور دولته تجاهه.

إزاء هذا المفهوم الذي يقدّمه الدرس التربوي للمجتمع المدني، يأخذك إلى توسّع مفهومه ليشمل دور منظّمات هذا المجتمع في قضايا التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وحتّى السياسيّة، حتّى أصبحت تلك المنظّمات ضلعًا ثالثًا يمثّل القطاع الأهلي مكملاً للضلعين الآخرين، وهما القطاع العام (الدّولة) والقطاع الخاص. هذا المفهوم  وجد قبولاً عند علماء السياسة، مثل "جان كوهين" و"أندرو آراتو"، لاقتناعهم بنفعيته النظريّة والعمليّة، وتحفّظ عليه آخرون تحفظًا قويًا، من هؤلاء "آدم سيليجمان" قائلاً إنّه لا يضيف شيئًا لمفهوم المواطنة الليبراليّة أو الديمقراطيّة، ولا الدراسة الاجتماعيّة[13]. ولكن المنظّر الراحل، في قضايا التحوّل الديمقراطي، "ألفريد ستيفن" وزميله "خوان لينز"، قدّما أفضل وصف، حين عرّفاه أنّه:"المنطقة من السياسة التي تحاول فيها الجماعات التي تنظم نفسها والأفراد المستقلّون نسبيًا عن الدّولة توضيح قيم وخلق صلات وتضامن، والدفاع عن مصالح"[14]. أي بمعنى، أنهم يشكّلون المصالح والقيم التي يؤمنون بها هم، وليس شريطة أن تكون هي المصالح والقيم التي يقرّها العرف الإنساني والحضاري العام.
من جهته، البنك الدولي، تبنّى تعريفًا للمجتمع المدني: "يشير مصطلح المجتمع المدني إلى مجموعة واسعة النطاق من المنظّمات غير الحكوميّة والمنظّمات غير الربحيّة التي لها وجودٌ في الحياة العامة، وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استنادًا إلى اعتبارات أخلاقيّة أو ثقافيّة أو سياسيّة أو علميّة أو دينيّة أو خيريّة. ويشير مصطلح "منظّمات المجتمع المدني" إلى مجموعة عريضة من المنظّمات، تضم: الجماعات المجتمعيّة المحليّة، والمنظّمات غير الحكوميّة، والنقابات العماليّة، وجماعات السكان الأصليين، والمنظّمات الخيريّة، والمنظّمات الدّينيّة، والنقابات المهنيّة، ومؤسسات العمل الخيري"[15].

أما الكتاب الأبيض، في الحوكمة الأوروبيّة، فيعرِّف "المجتمع المدني" أنه :"منظّمات نقابيّة ونقابات أصحاب العمل (شركاء اجتماعيون)، منظّمات غير حكوميّة، جمعيات مهنيّة، جمعيات خيريّة، منظّمات شعبيّة، منظّمات لمشاركة المواطنين في الحياة المحليّة والبلديّة، وبمساهمة محدّدة من الكنائس والمجتمعات الدّينيّة"[16]. يمكن أن نضيف ما ابتكرته الأمم المتّحدة هو مفهوم المنظّمات غير "الحكوميّة" بأنها منظّمة مستقلّة عن الدّولة، وتتوافر فيها معايير محدّدة، أهمها أن تكون ذات هيكليّة شبيهة بهيكليّة منظّمة تحظى بنظام تأسيسي وشكل قانوني، وأن يؤسّسها أفراد أو منظّمات تكون مستقلّة عن الدّولة، وأن تكون هيئات اتخاذ القرارات فيها مستقلّة عن السّلطات الحكوميّة، وغير ربحيّة، وأن تتخطّى أهدافها مصالح أعضائها"[17].

يمكن الانتباه إلى ما ورد: "منظّمات تكون مستقلّة عن الدّولة، وأن تكون هيئات اتخاذ القرارات فيها مستقلّة عن السّلطات الحكوميّة، وغير ربحيّة، وأن تتخطّى أهدافها مصالح أعضائها"، في هذا التعريف جرى التركيز فيه أنها منظّمات مستقلّة وغير ربحيّة، وهنا يُطرح السؤال الآتي: غير ربحيّة، فمن أين تأتي بتمويلها ما دامت مستقلّة عن الدّولة؟ في حين أنّ التعريف في الدرس التربوي أنّ الدّولة (اللبنانيّة) من واجبها تقديم الدعم لمثل هذه الجمعيات؟ فأين الاستقلال؟ ثمّ يجب أن يتخطّى أعضاؤها مصالحهم، ليس هناك من وصف لنوع هذه المصالح، أهي خاصة؟ وما المقصود بها؟ ثمّ ألا يفترض أن تكون أهداف الجمعيّة أو المنظّمة هي بعينها تمثّل مصالحهم بشكل أو بآخر؟ وإن كانت لا تشكّل مصالحهم، فأي مصالح يهدفون إليها من وراء عملهم في هذه الجمعيات المدنيّة؟

في بحث موضوعي عن هذه الجمعيات يتبيّن أنها تنال دعمًا متواصلًا من هيئات ومنظّمات وحكومات دوليّة وعالميّة، لذلك يدعو "غوتييه پيرُت" إلى مقاربة المجتمع المدني "مشروعًا"، مقترحًا فهمه لكونه مشروعًا تتضافر عدة عناصر لخلقه، منها ديناميات خاصة بالمجتمعات التي ينشأ فيها، ومنها ديناميات خارجيّة، هي اتجاهات عالميّة تفضّل ظهور بعض المجموعات على الساحة الوطنيّة والدوليّة (المنظّمات غير الحكوميّة - المجتمع المدني). لذلك، يتطّلب المجتمع المدني تحليله بصفته مشروعًا دائم التكوّن والتعريف[18]. هكذا يكون المجتمع المدني هو مجموعة من الأفراد أو جمعيّة ما التي خُلقت في ظروف معيّنة ومراحل معيّنة لتقوم بمهام محدّدة من الجهات الفاعلة دوليًّا ومحليًّا. وعليه، لن يكون هناك مجتمع مدنيّ واحد، بل مجتمعات مدنيّة. ويُستنتج من ذلك أنّ "المجتمع المدني"، هنا، لا يعود على صلة بالفعل التعاوني، فخلال التسعينيات من القرن الماضي، أصبح دعم "المجتمع المدني" خطّ ائتمان منتظمًا لميزانيات "شركاء التنمية" الرئيسيين. وغالبًا ما تُوجه هذه الأموال نحو هذه الجمعيات الجديدة[19].

إذ إنّ الجهات الفاعلة، في المجتمع التنموي، عملت على نشوء مقاربة "التنمية" من خلال التركيز على ما سُمي "البنية التنمويّة"، أي "هذا الجسم العالمي إلى حد كبير المكوّن من الخبراء والبيروقراطيين وقادة المنظّمات غير الحكوميّة والباحثين والفنيين قادة المشروع والوكلاء الميدانيين الذين يعيشون بطريقة ما على تنمية الآخرين، ويقومون لهذا الغرض بتعبئة أو إدارة موارد ماديّة ورمزيّة هائلة"، فالتنمية هي سوق وميدان. إنها سوق يجري فيها التداول بالسلع والخدمات والمهن، هي سوق تتعلّق بـ"بيع" المشاريع والسياسات والأجهزة والبرمجيات والوظائف. وغالبًا ما تتخفّى السياسات الكبرى للتنمية خلف "الشعارات – البرامج" ("التنمية هي محاربة الفقر") أو الكلمات الطنانة الأكثر غموضًا (الحوكمة الرشيدة، المشاركة، الشفافيّة، المجتمع المدني...). في هذه السوق للمجتمع المدني دور محفوظ وملحوظ[20].

هذا الدعم للمنظّمات غير الحكوميّة، بذريعة تعزيز المجتمع المدني، لم يكن الأمر مجرّد دعم ماليّ لمشاريع التنمية التي تعدّ المنظّمات غير الحكوميّة منفذة لها؛ بل أُعتمدت سياسة تحديث تسمّى "التّمكين"، والتي اتّخذت شكل استراتيجيّة برمجة وانتقائيّة زبائنيّة لهؤلاء الوسطاء الجدد في مجال التنمية المحليّة. تجسدت هذه السياسة في الدورات التدريبيّة التي دعا إليها "الشركاء" الغربيون قادة المنظّمات غير الحكوميّة المحليّة، وكان من شأنها تعزيز العلاقة الزبائنيّة التي ترسّخ تبعية هذه الجمعيات للمّمولين الغربيين.[21] هذا سبب عملاني لتشكيل علاقة معقدة بالدّولة، يُعبّر عن ذلك تكاثر الاختصارات المثيرة التي تشير إلى "أشكال مختلطة من المنظّمات غير الحكوميّة"؛ فمنها "المنظّمات غير الحكوميّة" التي تنظّمها الحكومة (GONGOs /Government-Organized NGOs)، وهي ليست جزءًا رسميًا من جهاز الدّولة، ولكن أنشأتها الدول لتمثيل مصالحها في قطاع التنمية، إذ تُجبَر هذه الدول غالبًا على استخدام مثل هذه المنظّمات للوصول إلى أموال المساعدات الدوليّة، والتي لا يمكن توزيعها محليًا إلا من خلال المنظّمات غير الحكوميّة المحليّة.

كما أنّ ما يسمّى QUANGOs  شبه المنظّمات غير الحكوميّة /Quasi NGOs تُمول إمّا بالكامل أو إلى حدٍ كبيرٍ بفضل الأموال العامة، مما يعني تاليًا أنّها تفقد بالضرورة استقلاليتها في العمل. هناك أيضًا أنواع أخرى من مصادر التمويل، مثل "المنظّمات غير الحكوميّة" التي تنظّمها الجهات المانحة (Donor-Organized NGOs /DONGOs).  يشير هذا المصطلح إلى المنظّمات غير الحكوميّة المكلّفة من منظّمات مانحة دوليّة بإعداد برامج المساعدة الإنمائيّة. فالبنك الدولي، على سبيل المثال، يعمل على نطاق واسع منذ سبعينيات القرن الماضي مع منظّمات DONGOs المسؤولة عن تنفيذ المشاريع التي يموّلها كمزوّدة للخدمات. فقد أظهرت بعض الدراسات أنّ العديد من المنظّمات غير الحكوميّة DONGOs العاملة في مجال المساعدات التنمويّة فقدت استقلالها التشغيلي والسياسي نتيجة لاعتمادها على المانحين على مستوى الدول، وأصبحت وكالات لتنفيذ سياسات هذه الدول.

خلال الحرب الباردة، اتّبع الاستخدام السياسي للمنظّمات غير الحكوميّة DONGOs، خط النزاع الشرق/ الغرب. فهذا الاحتراف في "المنظّمات غير الحكوميّة" غيّر من طبيعة جمعيات "المجتمع المدني"[22]، فتحوّلت إلى الاحتراف الذي يستلزم البحث الدائم لتوفير الدعم المالي المطلوب لتأمين رواتب المحترفين، بعد أن كانت هذه المنظّمات تقوم على العمل التطوعي، تطورت بسرعة نحو العمالة المأجورة (لوجستيون، إعلاميون، إداريون، أطباء، مهندسون، مدرسون، محامون...)، فخضعت في عملها لمنطق "من يَدفع يُشَغِّل"[23].

لذا، ليس مسوّغًا لمعدّي ذلك الدرس التربوي وغيره أن يقنعوا التلميذ اليافع بمغالطات فكريّة وثقافيّة، وبمعنى مبسّط حتّى التزوير. نعم، التزوير، ففي العرف الفلسفي لتعريف أي مفهوم على الباحث التقصي كي يأتي بمعرفة عقليّة وعلم المعنى – كما يقول أرسطو- أي الاهتمام بالمعاني المجرّدة، والتي تستمدّها من الانطباعات، وهذا هو مهام العقل، فتقديم فلسفة أي مفهوم يجب أن يعتمد على المنهج الاستقرائي، أي الملاحظة والتجربة. ووفق ما مرّ معنا، فإنّ تعريف مفهوم المجتمع المدني عند علماء الاجتماع والفلاسفة، والذين استعرضنا تعاريفهم، بعيدة كلّ البعد عن تعريف الباحثين لمفهوم المجتمع المدني في الدرس المقدّم. هذا إضافة إلى حشو معلومات مغلوطة عن طبيعة تكوّن المجتمع المدني ودوره ووظيفته.

ب‌- في كتاب التعليم الأساسي (السّنة التاسعة)
في كتاب التعليم الأساسي – السنة التاسعة، وفي المحور الثاني "المجتمع المدني ومؤسساته"، تتمة لما ورد في كتاب السنة الرابعة، إذ يستهلّ مدخل المحور بنصٍ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول حق أي شخص بحرية التعبير والاشتراك في الجمعيات والجماعات. وينطلق للحديث عن خيارات اللبناني وأهمية المشاركة في أنشطة المجتمع المدني، سواء السياسيّة والثقافيّة والأهليّة. غير أنّه في الدرس الأول من المحور، يربط بشكل عميق وممنهج بين طبيعة الحكومة والسلطة "الليبراليّة" في لبنان وبين مفهوم المجتمع المدني. ففي تعريف الدرس لمفهوم لمجتمع المدني يقول :"هو مجموع الروابط والهيئات والمنظّمات والمؤسسات التي تنشأ بشكل حرّ في المجتمع، ومن دون ارتباط مباشر بالسلطة أو تدخّل منها"[24]. وهو يتبعه بمقطع آخر بعنوان "الحريّة شرط لقيام المجتمع المدني"، يميّز فيه بين الدول التي تسمح بممارسة الحريات العامة، وهنا هو يحصرها حكمًا بمؤسسات المجتمع المدني، وبين أخرى تمنع أو تقمع هذه الحريات. لذا هو من هنا يربط لبنان بالأنظمة الليبراليّة التي تكفل المبادرة الفرديّة والملكيّة الخاصة، والذي – أي لبنان- أقرّ بالاتفاقيّة الدوليّة الخاصة بالحقوق المدنيّة والسياسيّة بالحريات العامة والشخصيّة.

انطلاقًا من ذلك المفهوم، وكون لبنان نظاًما ليبراليًا- كما جاء في النص- يعدّ الدرس المنظّمات والمؤسسات اللبنانيّة غير الحكوميّة جميعها من مؤسسات المجتمع المدني في حين لا يأتي على ذكر منظّمات المجتمع الأهلي ودورها، وهو يكتفي بذكر تعريف لـ"المجتمع الأهلي" أنه يشير إلى الروابط العائليّة، والفرد ملزم بالانخراط فيه، وذلك بشكل مغاير لخيار الاختيار والحريّة في الانخراط بنشاطات المجتمع المدني. وهذا الخلط "المتعمد" في اعتبار الجمعيات الأهليّة واحدة من المجتمع المدني واضح حين يعدّ الدرس "مؤسسة رعاية الطفل اللبناني" التي أنشأتها الراحلة "زاهية سلمان" في العام 1936، واحدة من مؤسسات المجتمع المدني. وهو أيضًا يعدّه- أي المجتمع الأهلي- مشاركة طوعية عبر "المنظّمات غير الحكوميّة".

في الدرس الثاني من المحور ذاته، "أشاركُ في مؤسسات المجتمع المدني"، يتضح من العنوان خلق رغبة عند التلميذ في أهمية الانخراط في هذا الميدان، تحت شعار التعاون والتفاعل بين أبناء المجتمع للمطالبة بحقوقهم وتحقيق متطلباتهم. ودومًا، في تحديد هذا الهدف، يُرى من خلاله أنّ الدّولة هي خصم محتمل بشكل كبير، إذ يرد مفهوم "الضغط" هدفًا لكلّ جمعية للتأثير على صانعي القرارات، وأنّ هذا دليل حيويّة. والنص في تأكيد هذا الدور الفاعل يعيّن مقطعًا خاصًا بعنوان "ظهور المجتمع المدني في الدّول الغربيّة"، ليقول فيه إن التطوّر التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات الغربيّة شكّل المجتمع المدني وتطوّر فيه، بحيث ساهم هذا التطور في تطوير المجتمعات وتعزيز التماسك الاجتماعي". وحين يأتي على دور المجتمع المدني في لبنان، يتحدث عن دوره الفاعل في مجريات الحياة العامة، بحيث ساهم في تخفيف الأعباء عن المواطنين وعودة سيادة القانون.

في هذا اتهام واضح للدولة أنها "شريعة الغاب"، في حين أنّ المجتمع المدني هو من يعيد القانون ويحميه. ولسنا في صدد الدفاع عن الدّولة اللبنانيّة، فالمقصود هنا ليس هي بالتحديد بقدر ما هو مقصود ترسيخ أمر واحد يتجلّى بالترسيخ غير المباشر على أنّ فكرة الدّولة دومًا قاصرة أو مقصّرة في حماية المواطن وتحقيق مصالجه. وهنا تسويغ قوي لقيام مؤسسات المجتمع المدني، في أي بلد كان. وذلك، لأنّ النص لا يوضّح أنّ سلطة الدّولة قد تخطأ أو تقمع بعض مواطنيها في قضية ما أحيانًا، فتنبري مؤسسات المجتمع المدني لتمارس دور الحامي والمطالب، بل هو يتحدّث بإطلاق حكم من دون وضع معايير أو توصيفات يُرى من خلالها أن الدّولة قد أخطأت بحق مواطنيها أو أنها تمارس قمعًا تجاههم، فمجرد أن الدّولة هي السلطة يعني حكمًا هناك تقصير وغبن وظلم وقمع، وتاليًا يصبح ملحًا نشوء مجتمع مجاور لمجتمع الدّولة يوقفها عند حدّها.

يلفتك، أيضًا، أمر بوضوح قول النص حول أنّ تطوّر المجتمعات الغربيّة أنتج مؤسسات المجتمع المدني التي ساهمت في تطوير المجتمعات وتعزيز التماسك الاجتماعي فيها. وهذا تزوير آخر لا شكّ فيه، فقد شرحنا أنه خلال تطور مفهوم "المجتمع المدني"، في الغرب، حمل معه انفصامًا ثقافيًا بارزًا بين الدّولة وطبقات المجتمع العامة، في حين الطبقة الحاكمة وأخرى البرجوازيّة أوجدت مفكّرين صنعوا إيدولوجيّة مهيمنة لذلك المفهوم كي يضمنوا السيطرة على الطبقات الاجتماعيّة الأخرى الكبرى، بشكل مغاير عما يحدث في الشرق. ولقد وضّح "غرامشي" طبيعة تلك التحولّات، فعندما يٌقنع التلميذ أو الطالب أنّ المجتمعات الغربيّة تقدّمت علينا حين أتت بالمجتمع المدني، "العظيم الدور والأثر"، إنما هي عمليّة تحوير ذهنيّة تبتغي إيجاد قناعة مطلقة بعظمة تلك المجتمعات المدنيّة ودورها "الحضاري".

فأي دور اضطلع فيها هؤلاء الباحثون الذين أعدوا النص واتفقوا على صياغته؟ أثبتوا أنهم في "دولة ليبراليّة"، كما عرّفوها في أحد النصوص، إذ إنّ منظّمات المجتمع المدني والمنظّمات غير الحكوميّة- بشقيّها المحلي الوطني أو الدولي وفق تلك التعاريف– كما يؤكد عدد مهم من الباحثين - هي إحدى أذرع الليبراليّة. ويكشف عن هذا المفهوم نص "زبغنيو بريجنسكي"، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق "جيمي كارتر" الذي دعا، منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى وجوب اهتمام الولايات المتّحدة "باختراق الحركات القوميّة والأيدولوجيّة والمثقفين، وحتّى المزيّفين منهم، في بلدان الأطراف غير الرأسماليّة، بهدف انتزاع المثقفين من حركات التحرر الوطني، وتاليًا، تفريغها من هؤلاء المثقفين، فتصبح الحركة الجماهيريّة بلا رؤية"[25].

نلاحظ كيف بدأ مفهوم "منظّمات المجتمع المدني" الغربيّة يتخذ أبعادًا جديدة خادمة للسياسة، ليس داخل الأقطار المتقدّمة فحسب، بل في الأقطار التي يراد السيطرة عليها. فظهرت منظّمات مجتمع مدني ظاهرها غير سياسي، منها منظّمات حقوق الإنسان والمرأة والطفل والأقليات (أي ما يسمى بالعناصر الضعيفة في المجتمع) أو أخرى تقدّم خدمات إنسانيّة في أوقات الكوارث الطبيعيّة والأزمات البشريّة أو أخرى تقدّم خدمات صحيّة أو تعالج قضايا اجتماعيّة مثل الفقر والبطالة.

واضح، ممّا ورد أعلاه، أنّ كلّ تلك التعريفات للمجتمع المدني ما يزال مفهومًا ينتظر تعريفه الدقيق. بالاستناد الى رأي الباحث "طلال عتريسي" (أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانيّة وعميد معهد الدكتوراة سابقًا) يرى أنّ "المجتمع المدني ليس له تعريف، حتّى الغربيين أنفسهم الذين اشتغلوا على المفهوم لا يملكون تعريفًا واحدًا أو نهائي له، ولا يمكن حصره لأنّ بعضهم يُدخل فيه الجمعيات الدّينيّة، والعشائريّة، والثقافيّة، والخيريّة، لكنّ كلّ ما هنالك هو أفكار عن المجتمع المدني، أكثر من تحديده"[26]. ويتابع عتريسي: "بعضهم يقول إنّ المجتمع المدني هو التحرر من الانتماءات العقائديّة، ويلتقي حول أهداف محددة، لكن هذا مستحيل بالتطبيق العملي بنظري. فالكلام عن دور المجتمع المدني هو الطاغي أكثر من تعريفه، والذي يذهب إلى الكلام عن دوره، ويشكل عامل ضغط على الحكومات، أو تصويب سياساتها أو أنّه شريك في إدارة الحياة المدنيّة، ولذلك قيل في تفسير السلطة والتراجع السيادي أنّ المجتمع المدني هو أحد عناصر تراجع سيادة الدّولة".

ج- نصوص السّنة الأولى من المرحلة الثانويّة
أضف إلى ذلك، تعابير الديموقراطيّة وحريّة التعبير التي تحفل بها نصوص السنة الأولى من المرحلة الثانوية، خصوصًا المحور الثاني "حماية حقوق الإنسان على الصعيدين الدولي والإقليمي"، وعلى أنّ منظّمات المجتمع المدني وغير الحكوميّة تساهم في نشرها وتثبيتها في المجتمعات المنتشر فيها. فالمجتمع المدني، وما يسمّى "الحوكمة الرشيدة"/ تكمن خاصيتها الرئيسيّة في التباس دورها. يمكن أن تحوي الألفاظ معانٍ عديدة ما دامت دلالة إيجابيّة، إنّها "حمالة أوجه" تتيح مثلاً لأتباع العولمة والنيوليبراليّة استخدامها. إنّ هذه الكلمات بدلالاتها، وهي بمظهر علمي، تشترك في تبليد الذهن وإضعاف التفكير، "هي كلمات فارغة من المعنى الدقيق، ولكنّها غنيّة بالافتراضات المسبقة والأخلاقية، وتشكّل العمود الفقري لما أطلق عليه "أورويل"[27] "اللغة المخادعة"[28].
إذ تُقدّم مشاركة "المجتمع المدني"، في سياق الحوكمة الرشيدة، على أنّه توسيع لمجال الديمقراطية، فهذه المشاركة تحتلّ مكان السيادة الشعبيّة وانتخابات المواطنين، والمفارقة الكبرى أنّ الحوكمة تطلب منا توسيع الديمقراطيّة لتشمل "المجتمع المدني"، في حين أنّه هو بالضبط مجموعة العلاقات التي لا يكون الأفراد فيها مواطنين. فالفرد لا يكون مواطنًا إلا متى كان عضوًا في شعب ذي سيادة، ويمارس سيادته. "باختصار، مصطلح "المجتمع المدني" يعيق القراءة الواضحة للقضايا السياسيّة، بقدر ما يغطّي الطبقات المختلفة والمتناقضة[29].

في المحور السابع من كتاب "التربية الوطنية والتنشئة المدنية"، عنوان "منظمة الأمم المتّحدة"، وتطالعك في الصفحة الأولى صورتان؛ الأولى للجمعيّة العامة، والثانية لمجلس الأمن التابعين للأمم المتّحدة، فيما هو لافت ما تستتبع به الصورة الثانية بتعريف "مجلس الأمن: "مسؤولية حفظ السلام العالمي". في الصفحات المتتالية من المحور تحوي مجموعة صور تعرّف بعدد من مؤسسات الأمم المتّحدة (اليونيسف، اليونسكو، قوات الأمم المتّحدة لحفظ السلام في جنوب لبنان).

يتابع المحور إيراد تعريفات محددة جدّا، مأخوذة من ميثاق الأمم المتّحدة، تعّرف بدورها ومهامها وأجهزتها الرئيسيّة، تصبّ جميعها في ترسيخ فكرة أن الأمم المتّحدة أنشئت لأهداف نبيلة لمساعدة الشعوب على التعايش المشترك والتسامح فيما بينها، وفضّ النزاعات وردع الحروب. غير أنّ اللافت، في ختام هذا المحور في عنوان فرعي "ماذا أفعل"، يؤكد على فكرة تسليم نهائي بدور هذه المنظّمة العالميّة وجدوى أهميتها، لا بل يتخطّاه كي يرى الطالب أنّ الأمل الحقيقي في تحقيق السلام بين دول العالم هو قيام "الأمم المتّحدة" بدورها، بصيغة رومانسيّة تستبطن قناعة محضة بصيغة تقول :"أتطلعُ إلى يوم يسود فيه السلام العادل بين الشعوب، وتستطيع فيه منظّمة الأمم المتّحدة منع الحروب، وتحقيق الأهداف الإنسانية"[30]. وطبعًا لا يغفل معدّو هذا المحور الحديث عن دور لبنان في هذه المنظّمة، ومساهمته في تأسيسها، والأهمية الكبرى التي يعطيها لها، فضلًا عن ضرورة تمسكه بكلّ مقرّراتها والتعاون مع مؤسساتها.

في الدرس الثاني من ذلك المحور، والذي يحمل عنوان "منظمة الأمم المتّحدة وحفظ السلام في العالم ولبنان"، دلالة مهمة في التركيز على "قوات حفظ السلام" في لبنان، ممررًا سبب تواجدها بمسوّغات شبيهة تمامًا بما تقدّمه عادة الأمم المتّحدة في نصوصها الرسميّة، والتي تتناقلها وسائل الإعلام. إذ تأتي صياغة هذا القسم صياغة إعلامية محايدة تشعرك بأنّك لست فردًا من هذا الوطن حين تقول :"...إنها قوات حفظ السلام التي تعمل برضا أطراف النزاع ضمن مدة زمنية محدّدة. هذا ما ينطبق على قوات حفظ السلام العاملة في جنوب لبنان تطبيقًا لقرار مجلس الأمن رقم 425 الصادر بتاريخ 19 آذار العام 1978، بعدما اجتاحت القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية حتّى مجرى نهر الليطاني]...[ وقد قامت هذه القوة بمحاولة حصر النزاع من خلال الاتصال بالأطراف المعنية وحثّها على ضبط النفس وعدم اللجوء إلى المواجهة المسلحة والنظر في الشكاوى المقدّمة..."[31].

يلفتك، أولًا، عدم وضع صفة "المحتلة" للقوات الإسرائيلية، وإن كانت تضعها في مقطع لاحق، واستخدام كلمة "نزاع" بدلًا من صراع، والحثّ على ضبط النفس، وعدم اللجوء إلى المواجهة المسلحة، وفي هذا تغاضيًا واضحًا عن ردع المعتدي وتحديده، واستنكار دفاع المُعتدى عليه ووجوب رفع شكوى إلى ما يسمًى "مجلس الأمن"، فضلًا عما يشيه هذا النص بتساوي المعتدي والمُعتدى عليه. أضف إلى ذلك أنّ النص يكرّر استخدام "القوات الإسرائيلية"، وكأن هذه القوات ليست تابعة إلى جهة محدّدة، فليس هناك أي ذكر لكيان غاصب اسمه "الكيان الصهيوني"، والذي تجري التدوال حوله بـ"دولة إسرائيل". إذ يفترض بمن يدّعي القيام بعملية التربية والتنشئة المدنيّة، وهي أخطر دور تربوي لتنشئة الأجيال، أن يروي للتلميذ حقيقة هذا "النزاع" وأن ما يسمّى "القوات الإسرائيلية" هي وجود غير شرعي مجاور لجنوب لبنان، يحتلّ دولة فلسطين. إن كتاب التربية الصادر عن الوزارة يفترض به تبني الرواية اللبنانيّة القائمة على حق المقاومة والدفاع عن الأرض، في الحدّ الأدنى. كما يلاحظ غياب الحدث التاريخي، في العام 2000، حين حقق جنوب لبنان حريته، وتقهقرت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فالدرس يغيّب هذا الحدث، ويكتفي بذكر واقعة الاحتلال الأولى في العام 1978.

تجد في الدرس الثالث في المحور ذاته، والذي يحمل عنوان" في أعمال المنظّمات الدوليّة"، تعريفًا بهذه المنظّمات مصاغًا بأسلوب دعائي، حول الهدف من إنشائه لخلق تعاون بين الدول، ولمساعدة دول أخرى، وعرض بعض أشكال الدعم التي قدّمتها لدول أفريقيا في التعليم والطبابة، وخاصة صورة حول مساعدة اليونيسف للمدارس في لبنان، لينتهي الدرس إلى طرح سؤال على الطالب: "هل ثمّة حاجة عالميّة إلى نشاطات المنظّمات الدولية المتخصّصة كاليونيسف واليونيسكو؟".

د - المفاهيم الواردة في كتب المرحلة الثانويّة
في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، كتاب "التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة"، عنوان المحور الثاني "حماية حقوق الإنسان على الصعيدين الدولي والإقليمي"، تعثر في المدخل على ثلاث صور. الأولى صورة عبارة عن لوحة مرسومة تظهر رجل قيد الاعتقال والتعذيب، والثانية لقائد ثورة الفلاحين "طانيوس شاهين"[32]، والذي تتكرّر صورته مرتين من غير داع، والثالثة عن مقرّ "هيئة الأمم المتّحدة" في نيويورك. يرافق هذه الصور مقطعان مقتطفان من مواد الاتفاقيّة الدوليّة الخاصة بحقوق الإنسان (المدنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة)، والتي صادق عليها لبنان في العام 1972.

يبدو أنّ هذا المدخل يشكّل قوة ذات تأثير معنوي على المتلقي، بحيث تشعره، بشكل باطني، أنّ الإنسان لم يعرف في تاريخه معنى الحقوق أو مفهومها حتّى قدوم "هيئة الأمم المتّحدة"، فإذ هي المشرّعة الوحيدة التي يستمدّ منها شرعيّة حقوق الإنسان كافة. والدليل على ذلك محتوى الدرس الأول من هذا المحور، والذي يّظهر صورًا لثورات في أفريقيا وفرنسا ولبنان ولأشكال من القهر، فيأتي النص مساندّا للصور ليقول بشكل حاسم إنّ نضالات الشعوب أسهمت في بلورة مفهوم حقوق الإنسان، وكأنّ الحضارات السابقة التي سبقت عصر الأمم المتّحدة لم تعنَ بحقوق الإنسان، بأسلوب يصوّر أنّ العالم كان في فوضى عارمة قبل تاريخ "هيئة الأمم المتّحدة".

تتعدّد دروس هذا المحور حول عرض مهمات "هيئة الأمم المتّحدة"، في حفظ حقوق الإنسان، من مجلس الأمن إلى الأمانة العامة إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى منظّمة العمل الدوليّة، ومنظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو). وتطرح نصًا خاصًا حمل عنوان: "ماذا عن فاعليّة هيئة الأمم المتّحدة في حماية حقوق الإنسان؟"، لا تجيب حقيقة عن السؤال بقدر ما تستعرض جملة قوانين، لتختم بالقول إن لبنان سار على هذه الخطى منذ العام 1990.

في الدرس الثالث، "الإجراءات التطبيقيّة لحماية حقوق الإنسان"، يركّز على ثلاث مسائل، التعرف إلى المواثيق والمعاهدات الدوليّة والإقليميّة لحماية حقوق الإنسان (مكّرر في درس سابق) التنبّه إلى الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق الإنسان المعترف بها عالميًا، إدراك أهمية وسائل طلب حماية الحقوق في المجتمع الدولي وفي المجتمعات الخاصة، التعرف إلى المنظّمات غير الحكوميّة ودورها في مجال حماية حقوق الإنسان. انكبّ هذا الدرس على وسائل تفعيل حماية حقوق الإنسان، وذلك عبر وضع جملة مواثيق وبروتوكولات ومعاهدات، ومنها ما يعنى، بشكل خاص، بمواثيق حماية الإنسان الأكثر ضعفًا، وحقوق المرأة.

أما حول أساليب الحماية في المنظمات غير الحكوميّة، لا تتحدّث عن الأساليب، بل هي تحكي عن مؤسّسيها وما نشأ عنها من "فروع وطنيّة"، وأنها لا تقبل الأموال الحكوميّة مخافة أن تحاول التأثير على عملها، لاسيما نشاطها في رصد الانتهاكات التي تطال مختلف حقوق الإنسان في بلدانها، ومعالجتها. ولكنّها، في الآن نفسه، لا تتحدث عن مصادر تمويلها الأخرى التي تقبل بها، لا تتحدث عن أي تمويل.

في "إنجازات المنظّمات غير الحكوميّة" تتحدث عن أعمالها في إعداد وإبرام بعض الاتفاقيات، مثل الاتفاقيّة الدوليّة المناهضة للتعذيب (منظمة العفو الدوليّة) والاتفاقيّة حول حقوق الطفل. وتتحدث عن جهود حثيثة لحماية المهجرين، وتنهي الحديث حول أنّ "حضور المنظّمات أو الهيئات غير الحكوميّة (الأهليّة) على الأرض يساعدها على معرفة الواقع وإظهاره وإبلاغ الجهات الرسمية المختصّة بكل إخلال بالحقوق الإنسانيّة، ولها أن تطالب بتصحيح الأوضاع". وطبعًا، لا تخلو الصفحات من صور وجملة بنود من المواثيق الدوليّة حول حقوق المرأة مثلًا، أو حول تعاريف لبعض المصطلحات.

صيغة النص تعطي انطباعًا واضحًا على أنّ دور "المجتمع المدني" مراقبة الدولة بدرجة أولى، قبل أي مهمة أخرى. وأمر آخر تنتبّه له في النص هو عندما يضع صفة "الأهليّة" بين مقوسين عن المنظّمات غير الحكوميّة، وفي هذا دمج واضح أو تداخل مقصود بين الاثنين، في تشابه الأهداف والأساليب والعمل.

اللافت، في نشاط هذا الدرس، الطلب من التلميذ جمع الأخبار التي تنشرها الصحف المحليّة في لبنان، والتي تعبّر عن واقع حقوق الإنسان وعن الانتهاكات التي يتعرض لها،  ثم كتابة تقرير مفصّل حول ما قرأه، ثم البحث عن المنظّمات الدوليّة التي يجد لها فروعًا في البلد، وتحديد المجالات التي تعمل بها على تحسين أوضاع اللبنانيين وصون حقوقهم، لابلاغها بذلك. ثم تختم النشاط بسؤال: "هل لك دور في الإسهام في حماية حقوق الإنسان محليًا ودوليًا؟ كيف ذلك؟. وفي السؤال الأخير من "التقييم" يسأل التلميذ: ...أيّد رأيك بدور المنظّمات غير الحكوميّة في الدفاع عن حقوق الإنسان. هل هي تعيق، بنظرك، تحرّك الدولة أم تساعدها على أداء أجدى وأنفع؟.

صياغة اللغة في هذا النشاط تحفيزية بنوعين. النوع الأول هو خلق شعور بالمسؤوليّة عند التلميذ على أنه يجب عليه ممارسة هذه المراقبة وتحليلها ودراستها، ليكتشف مواطن الانتهاك والقمع وكشف مواقع منع الناس من الحصول على حقوقها. والثاني مستتبع للأول، في أن يبلّغ مؤسسة من منظّمات المجتمع المدني بتلك "المخالفات" كي تتدخّل وتعالجها. فهل هذا يعني تهيئة التلميذ ليكون ناشطًا في المجتمع المدني، بعدما يقتنع تمامًا بأهمية دوره ونبله أهدافه في مرحلة التعليم الأساسي؟ أم هي محاولة "تجنيد" طالب يافع/ مواطن المستقبل في مسار "مخابرات ثقافيّة" تتداخل فيها مفاهيم الوطنيّة ومفاهيم "التجسس" في محو لـهويّة محليّة أو قوميّة..!

في كتاب السنة الثانية من المرحلة الثانوية، في المحور الخامس، يحمل عنوان "العلاقات بين الدول ودور الأمم المتّحدة"، وفي المدخل صورة عريضة وواسعة لمجلس الأمن وجملة توصيفية "مجلس الأمن، المسؤول عن الأمن الدولي". ويرافقها ثلاث نصوص فيها فقرات من مواد ميثاق الأمم المتّحدة. يمكن القول في دروس هذا المحور إنّه يغلب عليها عروض تقريرية حول طبيعة النزاعات الدوليّة، وبنود ميثاق الأمم المتّحدة ذات الصلة، لتنتهي حول ضرورة التعاون الدولي والالتزام بمواثيق الأمم المتّحدة وبقراراتها وتنفيذها، وقبول تدخّلها في أي بلد، وذلك لأنّه في مصلحة المجتمع الدولي. يعيد معدّو هذا النص فكرة الإنجازات الكبيرة للأمم المتّحدة، خصوصًا في مجال حقوق الطفل والمرأة وتنظيم الأسرة، ولكن بشكل موسّع، ويستعرض ما يمكن تقديمه من خدمات للحكومات والدول والشعوب والمنظّمات التي تتعاون معها خدمة للسلام العالمي.

تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ "المجتمع المدني" ومنظّماته، من خلال دورها ووظيفتها "الضمنيّة"، تؤدي إلى تآكل السيادة الوطنيّة. ولا شك أنّ مجتمعاتنا العربيّة، اليوم، أكثر خضوعًا من الأمس لإملاءات اللاعبين الاقتصاديين المعولمين والنيوليبراليين، وذلك في عالم حوّلته التكنولوجيا ووسائل التواصل أكثر فأكثر إلى بلدة صغيرة. لهذا تُفرّغ الساحة الوطنيّة من تماسكها نظرًا لأهميتها لصالح ساحة دوليّة لن يتم تنظيمها من دون إلحاق الضرر بهذه الساحة. إذ يُصار إلى تشكيل مجموعة من القواعد العالميّة وإطار من الإدارة العالميّة للشؤون الاقتصاديّة والسياسيّة المحليّة يديرها سوق العولمة ومجتمع مدني عالمي، يعمل على تآكل مفهوم السيادة، لذلك نلاحظ أنّ فكرة الدّولة (ومجتمعها) تخضع، بشكل متزايد، للقواعد العالميّة التي يكون المجتمع المدني واحدًا أساسيًا من أدوات هذه القواعد ومروّجيها.

بيد أنّ الباحثين واضعي كتاب "التربية المدنيّة والتنشئة الوطنيّة"، يؤدون الدور التأسيس الثقافي والفكري لمفهوم تفكيك بنية المجتمع اللبناني ضمن رؤية الفلسفة التي تحملها النيوليبراليّة في تصوّراتها عن صناعة قوة اجتماعيّة (منظّمات المجتمع المدني) وبطريقة معياريّة، بصفته مكانًا للانتقال إلى الديمقراطيّة الليبراليّة واقتصاد السوق. هذا المفهوم الذي اعتمده المنظّرون النيوليبراليون للتحوّلات الديمقراطيةّ في هذه المنطقة من العالم وفي غيرها، ويعدّونه فقط محددًا للشروط اللازمة للانتقال من الشموليّة إلى الديمقراطيّة الليبراليّة المتماهية بالرأسماليّة. وهي التصوّرات الثقافيّة ذاتها تحملها دلالات اللغة ومعانيها المصاغة في دروس هذه السلسلة من كتاب "التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة"، فهل هم مدركون فعلًا أنّ ما صاغوه من أفكار للتلاميذ النشء يساهم في بناء جيل قادر على إدارة دولته ونظامه، خصوصًا حين تتضمن تلك اللغة نقد مبدأ دور الدّولة ووجودها بالذات؟

لقد صارت الدّولة عمومًا توصف أنّها عديمة الجدوى وفاسدة وبيروقراطيّة، وعليها التراجع تاليًا وإفساح المجال أمام المبادرات الخاصة، والقطاع غير الرسمي، ودينامية الجمعيات التعاونيّة وغيرها من "المنظّمات الشعبيّة" كون هذه المؤسسات تجسيدًا مثاليًا للمجتمع المدني.

وعليه، لم تعد التوصيفات التي قّدمت فيها الدّولة، في هذه السلسلة التربويّة، عمليّة نقد "لحكم استبدادي"، (هو تصوّر غير مباشر قّدم في أكثر من درس) بل هي عمليّة لـ"خصي الدّولة"، من خلال تفكيكها، وإعادة تكوينها بتقليص دورها كثيرًا في سياق مضاعفة الضغوط والفرص الوهميّة الدوليّة. فكثيرًا ما تتجاهل المنظّمات غير الحكوميّة الدّولة وتحلّ مكانها، فبدل قيام الدّولة بواجباتها تقوم بها هذه الجمعيات. بعض هذه المنظّمات التربويّة أو الصحيّة أو التنمويّة أو البيئيّة أو منظّمات الرعاية الاجتماعيّة تميل إلى الحلول كليًا أو جزئيًا مكان الدّولة، وذلك بتواطؤ الدّولة نفسها (أحزاب الطبقة المسيطرة في البرلمان والحكومة) التي لا تتردد في تمويلها للقيام بمشاريع واسعة النطاق. وهذا ما نلاحظه كثيرًا في بلادنا، من خلال الجمعيات التي ينظّمها ويديرها أبناء الطبقة المسيطرة والمسؤولون في الحكم من نواب ووزراء، أو غيرهم من المحظيين في العلاقات مع المراجع الخارجيّة والمّمولين.

بهذا المعنى، تؤدي هذه الجمعيات دورًا في خصخصة جزئيّة في الخدمات العامة الموافقة لاختصاص كلّ منها. وهذا يعكس نقصًا في الممارسة الديمقراطيًة، لأنّ هذه الخصخصة تحصل بتحويل عملاني لهذه المنظّمات غير الحكوميّة إلى مؤسسات تقوم بمهام مؤسسات الدّولة. وذلك مع فارق جوهري، هو أنّ هذه المنظّمات غير ملزمة رسميًا بالاستجابة إلى حاجات المواطنين ومطالبهم، كما لا يمكن للمواطنين الاعتراض عليها[33]. وكما هناك "عمالة سوداء" و"سوق سوداء" أصبحت هذه الجمعيات أجنّة لدولة موازية، هي "دولة سوداء". وبطبيعة الحال تميل هذه الدّولة لخدمة الطبقات السائدة وأحزابها في السلطة، وتتجاهل مصالح الطبقات الفقيرة[34].

مفارقات "مدهشة"!!
  أن يحوي كتاب "التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة" مفاهيم ومصطلحات غير مدروسة، بواقعها الفعلي، إن لم نقل إن هناك قصدًا في إسقاطها، فهذا أمر يثير الاستغراب. ذلك، أنّ هذا الكتاب السلسلة يعدّ ركيزة في تشكيل وعي التلميذ الوطني على وجه الخصوص، وحين يؤسس المركز التربوي للبحوث والإنماء غطاءً معرفيًا لها، إنّما هو بذلك يعطب عملية الإدراك والفهم على مدى أجيال، لأنّ هذه السلسلة متواصلة منذ سنوات، وهي تجدّد من حين إلى آخر. ولا تراعي في هذا التجديد التغيرات الثقافيّة والمعرفيّة التي تطرأ على واقع الحال، مثلما تفعل في درس "قوات حفظ السلام" في لبنان، حين تغضّ الطرف عن ذكر تحرير ما كان يسمّى "الشريط الحدودي المحتل"  من العدو الإسرائيلي، وكأنّ لا انتصار عظيمًا أنجزه شعب هذا الوطن، مع مفارقة مدهشة مع الجزء الأول من عنوان السلسلة "التربية الوطنيّة..."!.

يمكن إدراج أهم الملاحظات او المفارقات التي لٌوحظت خلال قراءة نصوص هذه السلسلة التربويّة :
1- الأمر الأول الذي يطالعك وأنت تتصفّح الدروس المتعلّقة بالمجتمع المدني والمنظّمات غير الحكوميّة وأخرى الدوليّة، أنّ هناك عدم وضوح، إن لم نقل إرباكًا، في البنية الثقافيّة والفكريّة للمصطلحات المستخدمة في هذا الميدان. إذ إنّه يأتي بتعريفات سطحيّة لا تلامس حقيقة المفهوم بمعناه الفلسفي أو الثقافي أو الاجتماعي، وفق ما تبيّن معنا في الدراسة في تبيان المفهوم وتعريفه، في الشق النظري.

2- النصوص المدرسيّة أيضًا تقع في خلط منهجي، إلى حدٍ كبير، حين تعدّ المدرسة في القرية، واحدة من مؤسسات المجتمع المدني. وهذا ناتج عن إرباك في عدم التمايز بين مفهوم المجتمع الأهلي ومؤسساته وبين المجتمع المدني ومؤسساته. أضف إلى ذلك، أنّ طبييعة كلّ مؤسسة ومنهاج عملها وهدفها ومصدر تمويلها وسياستها، أمور تساعد على تصنيفها إذا كانت من المجتمع الأهلي أم "المدني". والنصوص لا تقدّم هذا التمايز، بل تصف أي رافد من الروافد الثقافيّة والاجتماعيّة أنه ينتمي إلى "المجتمع المدني"، في حين أنّ هذا المصطلح أصبح، في العقود الأخيرة، أكثر وضوحًا من ناحية أهدافه، في الحد الأدنى، نظرًا لارتباطه بالنظام النيوليبرالي.

3- المفاهيم الواردة في النصوص توصل إلى التلميذ فكرة عن قوة "المجتمع المدني" ومؤسساته ومدى تغلغله في بنيان المجتمع ومفاصله. وهذا يقدّم له صورة غير مباشرة على أنّه "نظام" أو جسم متكامل" يحّل مكان الدّولة، لا بل يأخذ مكانها في أدوار عدة، وتاليًا يمكن جدّا أن يُطلق عليه ما يسمّى " دولة داخل جسم الدّولة".

4- هناك تشجيع واضح ومباشر على "تبجيل" العناصر العاملة في هذا "المجتمع"، وتحفيز التلميذ على الانخراط فيه، كونه يمثّل عاملاً حضاريًأ وإنسانيًا.

5- في الحديث عن المنظّمات غير الحكوميّة، وخصوصًا الدوليّة منها (مؤسسات الأمم المتّحدة خاصة)، لا يتكلّف المعدّون عناء إعادة صياغة النصوص الخاصة بها، فهناك إسقاط تام لطبيعة الفكرة ومفهومها، ومدلالوتها مثلما هي واردة في نصوص هذه المؤسسات الدوليّة، رغم خطورة بعضها على الوعي الثقافي والوطني عند التلميذ اللبناني، مثل التعاطي مع "قوات حفظ السلام"، والصراع الدائر بين المقاومة والجيش والاحتلال الإسرائيلي.

6- هناك تبنٍ كليّ لكل ما تنصّه هيئة الأمم المتّحدة، على اختلاف أشكاله (مواثيق- بنود- مؤتمرات...)، لا بل أنّ النصوص المدرسيّة تقدّم تلك الهيئة ومؤسساتها على أنها من أصالة الإنتاج المعرفي والثقافي العالمي، والذي تبلور مع وجودها. وهذا عار عن الحقيقة الناصعة.


[1]- سلسلة كتب التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة تصدر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء، الجمهورية اللبنانيّة – وزارة التربية والتعليم العالي، مجموعة من المؤلفين، المناهج الجديدة للعام 2019.
[2] - تتالف الهيئة الاستشارية لهذه السلسلة من السادة : نمر فريحة ومحمد كاظم مكي وعصام سليمان ورضوان السيد وهنري العويط وأنور ضو. أما الباحثون فهم : تيريز تنوري خوري وجورج صدقة ورفعت البلبل وسميرة شمعون وعاطف سليم وعدنان السيد حسين وغادة هواويني قوسطانيان وغسان خليل وموسى قاسم ومي العبدالله سنّو. منسّق عام لجان التأليف : محمد كاظم مكي، مقرّر عام : ميشال بدر، ومنسق : رفعت البلبل.
[3] - "لوك" ساند البرجوازيّة الناشئة، وقدّم لها أيديولوجيّة بقائها من خلال القضاء على منافسيها ووضعها بالقانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، وشكّل هذا التحوّل جزءًا أساسيًا من نظرية "العقد الاجتماعي" التي نشأت في أوروبا بعد القرون الوسطى. وكان لفلسفة "لوك" أثر بالغ على مؤسسي أميركا الأوائل، وتكمن فلسفته في صميم إعلان الاستقلال الأميركي 1776، من هنا لا نستغرب أن تكون "العنصريّة" متأصلة في المجتمع الأميركي، ما يعني تاليًا أنّه في جوهر هذه المنظّمات المدعومة أميركيًا بالدّرجة الأولى رؤية عنصريّة مبطّنة تجاه الشعوب التي تعمل في مجتمعاتها.
[4] - العياشي عنصر، ما هو المجتمع المدني؟ الجزائر أنموذجًا، ورقة مقدمة لندوة "المشروع القومي و المجتمع المدني" تنظيم قسم الدراسات الفلسفية و الاجتماعيّة، كلية والآداب و العلوم الإنسانية- سورية، جامعة دمشق، 7-12 ماي/أيار 2000.
[5] - المرجع نفسه.
[6] - كَلِمَةٌ مُوَلَّدَة مُكَوَّنَةٌ مِنْ دَمْجِ كَلِمَتَيْنِ هُمَا قُرُوْن ووُسْطَى. ليس للكلمة جذر أصيل، ولكن لها جذر خماسيّ مولّد هو تصنيف: ق ر و س ط. والفكر القروسطي كان منتشرًا في أوروبا خلال "عصور الظلام"، في القرون الوسطى، حتّى استطاع الأوروبيون التغلب عليها لينطلقوا إلى صناعة الحضارة الأوروبيّة.
[7] - عبد الحسين شعبان، مفهوم المجتمع المدني بين التنوير والتشهير، الحوار المتمدن، العدد 2222، 2008، المحور : المجتمع المدني.
[8] - جوزف عبدالله، منظّمات "المجتمع المدني" المعاصر: بين العلم السياسي و"اللغة المخادعة"، جريدة الأخبار في 6 أيار 2019.
[9] - غوتييه بيروت هو عالم اجتماع بلجيكي، حائز على دكتوراه ، وأستاذ علم الإنسان الاجتماعي بجامعة لييج. يركّز بحثه على التعاون الإنمائي والتضامن الدولي ونظريات ومنظّمات المجتمع المدني.
[10] - جوزف عبدالله، منظّمات "المجتمع المدني" المعاصر: بين العلم السياسي و"اللغة المخادعة"، مرجع سابق.
[11]-  المركز التربوي للبحوث والإنماء، كتاب السنة الرابعة من التعليم الأساسي "التربية الوطنيّة والتنشئة الاجتماعيّة"، المناهج الجديدة، 2019، ص 38.
[12] - المصدر نفسه ص 38.
[13] - علي أحمد عبد الحميد الرحامنة، الدور السياسي والأمني للمنظّمات غير الحكوميّة في المنطقة العربيّة (2011-2017)، جامعة الشرق الأوسط، 2018، ص 21.
[14] - المرجع نفسه، ص 22.
[15] - موقع البنك الدولي الإلكتروني.
[16] - المفوضية الأوروبية، 2001.
[17] - المرجع نفسه، ص 22.
[18] - جوزف عبدالله، منظّمات "المجتمع المدني" المعاصر: بين العلم السياسي و"اللغة المخادعة"، مرجع سابق.
[19] - سالم العريض، نشاطات ومنظّمات و مؤسسات أمريكية مشبوهة، الحوار المتمدن-العدد: 4392 - 2014 / 3 / 13.
[20] - إبتسام حاتم علوان، واقع المجتمع المدني في الوطن العربي، ، الجامعة المستنصرية- كلية العلوم السياسية –قسم النظم السياسية والسياسة العامة، مجلة كلية الآداب العدد 98، 2012.
[21] - المرجع نفسه.
[22] - جوزف عبدالله، منظّمات «المجتمع المدني» المعاصر: بين العلم السياسي و«اللغة المخادعة»، مرجع سابق.
[23] - المرجع نفسه.
[24] - التعليم الأساسي للسنة التاسعة، التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة، المركز التربوي للبحوث والإنماء، المناهج الجديدة، مجموعة من الباحثين، ط 17، 2017، ص27.
[25] - منظّمات المجتمع المدني في سوريا- مغارة علي بابا، خليل صويلح، جريدة الاخبار، العدد ٢٥١٢ الجمعة ٦ شباط ٢٠١٥
[26] - منظّمات المجتمع المدني في لبنان-  من وكيف ولماذا ومتى؟،  سلوى فاضل، شؤون جنوبية،  13 تشرين الثاني، 2011.
[27] - "إريك آرثر بلير"‏ هو الاسم الحقيقي لـ"جورج أورويل"،‏ وهو الاسم المستعار له والذي اشتهر به (1903 -1950). هو صحافي وروائي بريطاني مبدع، عمله كان يشتهر بالوضوح والذكاء وخفة الدم، والتحذير من غياب العدالة الاجتماعيّة ومعارضة الحكم الشمولي وإيمانه بالاشتراكيّة الديمقراطيّة.
[28] - المرجع نفسه
[29] - سلطان الحجار، منظّمات المجتمع المدني.. بين الدور التنموي والتمويل «المشبـوه»، صحيفة الاتحاد، 28 ديسمبر 2015.
[30] - التعليم الأساسي للسنة السادسة، التربية الوطنية والتنشئة المدنية، المركز التربوي للبحوث والإنماء، المناهج الجديدة، مجموعة من الباحثين، ط 17، ص 107.
[31] - المصدر نفسه، ص 109.
[32] - طانيوس شاهين سعادة الريفوني (1815-1895) مُكارِي وزعيم الفلاحين الموارنة في جبل لبنان. قاد ثورة الفلاحين في منطقة كسروان في عامي 1858 و1860، ضد آل الخازن الإقطاعيين، ثم أعلن بدعم من الفلاحين إنشاء الجمهورية في كسروان. وقد عدّه الإكليروس الماروني والقناصل الأوربيون شخصًا همجيً بينما نظر له عوام المسيحيين على أنه شخصية شعبية. في أعقاب انتصاره في كسروان، أطلق شاهين ومقاتليه غارات متقطعة ضد القرى في المناطق المجاورة، مثل جبيل والمتن، رافعاً عنوان الدفاع عن حقوق المسيحيين المحليين. وقد قادت هذه الغارات المتعددة إلى اندلاع الحرب الأهليّة في جبل لبنان العام 1861، في حين يصوّره الكتاب أنه ثاثر وطني.
[33] - سالم لعريض، نشاطات ومنظّمات و مؤسسات أمريكية مشبوهة، مرجع سابق.
[34] - سلطان الحجار، منظّمات المجتمع المدني.. بين الدور التنموي والتمويل «المشبـوه»، مرجع سابق.

أضيف بتاريخ: 15/10/2020