مقالات عامة

نهاية التكفير

باسمه تعالى

نهاية التكفير

د. احمد علي الشامي([1])

تتهيأ البشرية إلى ما يمكن وصفه "بالولادة الجديدة" حيث العودة للاستضاءة بأنوار الحقيقة الكاملة، التي انشغلت عنها النفس البشرية حين تصاغرت أمام المحدود والناقص في انقياد غير واع يحاكي ميلها نحو متاع الشجرة الملعونة، ما أفقد تلك النفس سعادتها الحقّة. ولنكن صريحين، إنّ هذا الانشغال الذي ساد على الرغم من تتابع الأنبياء والرسل والأئمة لم يكن بفعل أبالسة الجن وحدهم، بل بفعل إسهامات من أبالسة الإنس أيضًا، سيّما، أولئك الذين ادعوا زورًا الانتساب إلى جماعة الدعاة لرسالات السماء، وهم في الواقع من أكثر الجنود إخلاصًا لإبليس. وليتهم اكتفوا بادعاء الدعوة للحق، بل جعلوا من أنفسهم محتكري الحقيقة وحرّاسها، وراحوا يكفّرون ويلغون كل من يعارضهم ولو على سبيل طرح السؤال.

وحتى لا توسم البشارة بنهاية التكفير على أنّها مجرّد يوتوبيا، سيّما، في ظل ما تشهده المجتمعات من تعقيدات عمّقت المسافات فيما بينها وزادتها بعدًا عن إدراك الحقيقة الكاملة، خصوصًا، المجتمعات التي أدماها- ولا يزال- التناحر بين مكوناتها؛ فإننا نقدّم هذه المقالة، بوصفها محاولة جادة لإسناد هذا الطرح بقراءة موضوعية، تفترض إلى جانب صوابيّة القول بنهاية التكفير ــ إنشاء الله ــ إطلاق حوار جاد بين مختلف الأيديولوجيات والمذاهب.
 
لذلك ننطلق في طرحنا هذا من منهجية تقوم على استحضار ما أمكن من أدلّة وبراهين عقليّة وموضوعيّة تدعم الطرح، وتعمل في الوقت عينه، على استثارة المزيد من الإشكاليات حوله، فهذا من شأنه أن يدفع الطرح نحو دائرة النقاش الذي يستدرج العقول لمد اليد وإشراكها في بلورته أكثر. والبداية مع تحرير مفهوم التكفير وعلائقه بمفهوم الكفر، لما لذلك من انعكاس على جدوائية الطرح نفسه.
 
المسألة الأولى: بين التكفير والكفر
يرافق شياع مفهوم التكفير وتنامي حضوره في الاجتماع البشري طرح المزيد من الإشكاليات، وبالتحديد، حين يجري لصقه بمفهوم الكفر. ففي المجتمعات المسلمة، يقف المسلم حائرًا، حينما يُسأل عن التكفير بكل ما يحدثه من سلبيات في ظلّ انتشار مفهوم الكفر في أكثر من موضع في القرآن الكريم([2])، ما يوحي وكأنّ الإسلام هو دين تكفيري. لذلك، تفرض مسألة الوعي التنبّه إلى نحت التباين بين المفهومين، لما يشكله تحريرهما من انعكاس على جوهر الطرح. وتحضر في هذا المجال، إلتفاتة للفيلسوف الفرنسي " فولتير"([3]) حين قال: قبل أن تتحدث معي حدد مصطلحاتك.
 
من جهة الكفر، يوجد اقتران حاصل بينه وبين الإيمان([4])، فالإيمان بموضوع ما هو كفر بنقيض هذا الموضوع. على سبيل المثال، يُعدّ الإنسان المؤمن بالتوحيد هو بالضرورة كافر بالتثليث، وأنّ المؤمن بالشيوعية هو كافر بالرأسمالية، والعكس صحيح. وهذا ما يعني، بأن كل إنسان يؤمن بما يعتقد به هو كافر بنقيض هذا الاعتقاد، ويعني أيضًا، أن الإيمان والكفر هما تعبيرات نابعة من الذات عن حقيقة ما تعتقد.

وبذلك، تصير جدليّة الكفر والإيمان هي من محددات الهوية، اتجاه الذات والآخر. وقد أكد على ذلك رب العالمين، بقوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم﴾ ([5]).

أمّا لجهة التكفير، فهو إسقاط من الآخر ينفي ما تظهره الذات من اعتقاد، على سبيل المثال، حين يجري نعت الموحّد لله أنّه كافر بالتوحيد، والقول للشيوعي أنك رأسمالي، وإطلاق صفة الكفر بالله على المعلن لإسلامه. ويعدّ هذا المنحى الإسقاطي من أشدّ أشكال الاعتداء على الإنسان وهويّته. لذا يجري توصيفه بأنه سلوك ينافي العدالة التي تقتضي بأن لا يتجاوز الإنسان - أي إنسان - الحدود التي تجعله يحكم على الآخر بعكس ما يظهره من اعتقاد، وقد نهى الله عن ذلك، بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾([6]). وبذلك، فيما يصير الإيمان والكفر من محددات الهويّة اتجاه الذات والآخر، يذهب التكفير نحو الاعتداء على هوية الآخر. وهذا ما يأخذ الطرح نحو تبيان معالم هذا الاعتداء.

المسألة الثانية: التكفير اعتداء على الهوية
حين يذهب التكفير لينفي ما يظهره الإنسان من اعتقاد، إنّما يصوّب نحو أحد أهم مرتكزات هويته، في سعي منه ليحدث فيها الاهتزازات الآتية:

ü    يهدف التكفير إلى النيل ممّا حققه إيمان الإنسان من إجابات عن أسئلته الحائرة، حول وجوده وعن الكون والحياة، والذي يشعره الاتصال بالقوة الحاكمة لهذا الوجود. وبذلك، فإذا ما استسلم الإنسان لنعت التكفير فإنه يفقد هذا الاتصال، ويفقد معه اطمئنانه النفسي واستقراره الفكري.

ü    يهدف التكفير للنيل من رؤية الإنسان لوجوده بعد الموت، حتى إذا ما اعتقد أن إيمانه هو سبيله للخلاص والنجات في تلك الدار الآخرة، فإن رضوخه لنفي الإيمان يدخل مصيره الأخروي في دائرة المجهول.

ü    يستهدف التكفير انتماء الإنسان الاجتماعي وما يوفره له من امتيازات وحماية، ويعدّ ذلك من أخطر الاستهدافات، لأن الثابت على إيمانه لا يضيره إنكار الآخرين له؛ لكن إخراجه من دائرة الجماعة التي ينتمي إليها سيفقده ما توفره له من أمان اجتماعي.
فالمسلم على سبيل المثال، له احترامه وحقوقه بين جماعة المسلمين، بدءًا من تحية السلام عليه، حيث يرى البعض أنها تختص بالمسلم دون سواه، مرورًا بطهارته، وحمله على الصحة في أقواله وأفعاله، وحقه دخول المساجد والحرمين الشريفين، والتزاوج والإرث، والدفن في مقابر المسلمين، وقبول الشهادة، وإمكان تبوئه المناصب القيادية كالقضاء والولايات ورئاسة الدولة. بالإضافة إلى استحقاقه الحماية والنصرة، وصولًا إلى عصمة دمه وماله. ولكن، مع نفي صفة الإسلام عنه، تسقط تلك الحقوق والامتيازات، سيّما، لجهة هدر دمه وماله وعرضه. وبذلك، بات التكفير في نفيه لعقيدة الإنسان يبيح نفيه لوجوده في الحياة، ما يجعل التكفير اعتداء على أصل الدين لأنه اعتداء على الإنسانية.
 
المسألة الثالثة: التكفير، اعتداء على الدين
تأتي خطورة التكفير لا من كونه رأيًا مجرّدًا فقط، إنّما لما يترتّب على ذلك من استباحة للأنفس والأعراض والأموال، بمجرد الاختلاف المذهبيّ أو الفكريّ أو السّياسيّ، وقد بدا ذلك واضحًا، فيما شهدته المجتمعات البشرية من أعمال للعنف والقتل بعلّة حفظ الدّين ونشره. إذ يجعل التكفير من الدين أداة لتمزيق المجتمع وتشويه هويته، حيث يعمّق المسافات بين الجماعات البشرية، ويزيد الخلافات بين أتباع المذاهب وضمن الطائفة الواحدة، وذلك عندما تدّعي جماعة ما أنّها تملك الحقيقة المطلقة فتعطي لنفسها تحديد من يوصفوا بالمؤمنين ومن يوصفوا بالكافرين.

إنّ تجربة الغرب مع التكفير مؤلمة بكل وقائعها، فهي حاضرة بشكل جلي خلال القرون الوسطى، عندما قدّمت الكنيسة المسيحية عبر تاريخ طويل أبرز مثال لاستغلال الدين، وممارسة الظلم بإسمه وتحت شعاراته، حيث ارتكبت أخطاء فادحة، بتحريفها لحقائق الوحي الإلهي وخلطها بكلام البشر، والخرافات الوثنية، وجعلها عقائد إلهية تدخل في صلب الدين وصميمه، وعدّت الكفر بها كفراً بالوحي والدين. ومن ثم راحت تُنشئ محاكم التفتيش، لمساءلة الناس عن آرائهم في أمور الطبيعة والكون، ومعاقبة المخالف منهم، حيث يقدّر عدد من عاقبتهم هذه المحاكم 300.000 شخصٍ أحرق منهم 32.000 أحياءً، منهم على سبيل المثال، العالم الفلكي الإيطالي غاليلو غاليلي لأنه تمسّك بالقول أنّ الشمس هي مركز الكون خلافًا لما ورد في الكتاب المقدّس، سفر الجامعة 1:5: والشمس تشرق والشمس تغرب، ثم تسرع إلى مكانها ومنه تطلع.

هذا إلى جانب ما ارتكبته الكنيسة من أخطاء فادحة بحق مجتمعات عدّة، عندما رعت وباركت أو تغاضت عن ممارسات غربية، من طيغان وسيطرة استعمارية. منها، ما مورس بحق الهنود الحمر، السكان الأصليون للأمريكيتين حين تعرضوا إلى ما يشبه الإبادة الجماعية. وما مورس بحقّ الأفارقة السود الذين كانت تغزوهم سفن الأوربيين العسكرية والتجارية، وتصطادهم كالحيوانات دون رحمة أو شفقة. إلى جانب معاناة الشعوب الإسلامية خلال الحروب الصليبية، ومن ثم استعمارها في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، وما تخلل ذلك من اضطهاد وجور.

وتجربة التكفير في المجتمعات الإسلامية لا تقل ألمًا، فهي بدأت مع انشقاق جماعة الخوارج عن جيش الإمام علي(ع) في معركة صفين، رفضًا لسياسة الإمام في قبوله بالتحكيم، وإيقاف الحرب مع جيش معاوية، إذ كان رأي الخوارج بأن الإمام قد بلغ مرحلة الكفر، وقد كتبوا إليه رسالة جاء فيها: وَإِنْ شَهِدَتْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ وَاسْتَقْبَلْتَ التَّوْبَةَ نَظَرْنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَإِلَّا فَقَدَ نَابَذْنَاكَ عَلَى سَوَاء. ومعهم، انطلق النهج التكفيري بين المسلمين، يحتكر الحقيقة ويصنّف البشر بين مؤمنين وكفّار، بين "مسلمين حقيقيين" وآخرين لا يُقْبَل إسلامهم، حتى وإن نطقوا بالشهادة والتزموا الطاعات، وأن يمارس بحقّهم عقاب الإلغاء وفق هذا التصنيف.

ومنذ ذلك التاريخ، والمجتمعات المسلمة تكوى بنار التّكفير، حيث يقُتل الآلاف من الأبرياء بذريعة الردّة عن الإسلام. إلى جانب ما يحصل بحق غير المسلمين من ممارسات للعنف والقتل واستباحة الأموال، والأعراض، تحت ذريعة أنّهم كفّار، ومشركين. وهذا ما كرّس الانطباع بأنّ الإسلام هو دين عنف وكراهيّة، خلافًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}([7]).

إذ ليس هنالك شيء بعد الشرك باللَّه تعالى، أسوأ من الظلم والاعتداء على حقوق الناس، وإن أبشع أشكال الظلم وأفظعها ما يكون باسم الدين، فهو تحدٍّ وافتراء على اللَّه تعالى، وبغي على عباده كما جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾([8]).

فبات من الموضوعية القول، إنّ أكثر المواقف السلبية أو الملتبسة اتجاه الدين، سواءً في الماضي أو الحاضر، في الغرب والشرق، إنّما هي تتصل بممارسات خاطئة قامت بها - ولا تزال- مؤسسات وجماعات وأفراد تدّعي الانتماء لدين سماوي، وتقدم نفسها بوصفها تملك الحقيقة المطلقة وترى فيما تمارسه كونه واجب لحفظ الدين ونشره، على الرغم مما تحدثه من تشوّهات بصورة الدين. وما بروز النزعات الإلحادية وتياراتها، وشياع المقولة بأن الدين أفيون الشعوب، والتسابق نحو العلمانيّة للحد من حضور الدين في الانتظام الاجتماعي، إلّا انعكاسات لما عانته البشرية من ألوان الظلم بإسم الدين.

بناءً على ما تقدّم، تقتضي الموضوعية طرح السؤال الآتي: بما أنّ النهج التكفيري ليس من العناصر الطبيعية في الحياة الاجتماعية، بل هو دخيل بفعل عوامل أتاحت له الحضور، فهل سيؤول انتفاء هذه العوامل إلى حتميّة نهاية التكفير؟

المسألة الرابعة: حول حتميّة نهاية التكفير
يقود البحث في تعيين كيفية انتهاء النهج التكفيري، إلى ضرورة تعيين العوامل التي أسهمت في انطلاقته. والبداية، مع تبيان التمايز بين الفكر الذي يستمد قوته من السيف، وبين الفكر الذي يستعين بالسيف ليحمي قوّته.

فالفكر القوي يملك الحقيقة التي تجعله قويًّا بذاته، لا يحوجه الاستعانة بقوّة السيف والسلطان ليقدّم نفسه، وإن احتاجها، إنّما فقط بحدود الدفاع أمام محاولات الإلغاء. ولكن، حين تتقدم سطوة السيف على طرح الفكر فهذا يعني أنّ الأخير ضعيف، وليس بحقيقة، وأنّه مجرد أداة لخدمة السلطان الذي يحسن استغلال ميل البشر للانقياد نحو من يفرض قوته في الواقع، فالبشر- على الأغلب - يتعاطفون مع الضعيف، يشفقون عليه، يحنّون عليه، لكنّهم لا يراهنون عليه، بل يميلون في انقيادهم نحو القويّ، حيث يقدّمون له فروض الطاعة، التي تصل إلى حدّ الاعتقاد بأفكاره وتقديسها، والاستعداد للموت في سبيلها.
 
تبدو هذه المنهجية بوضوح جليّ، من خلال رصد المسار الذي سلكته الحركات التكفيرية في تطويعها للإرادة البشرية، حيث تشترك في السمات الأساسية الآتية:
 
السمة الأولى: تكشف منهجية الحركات التكفيرية على اختلاف أشكالها ومنابتها، في اليهودية والمسيحية والإسلام، في الماضي والحاضر، أنّها تتوسّل السيف وقوّة السلطان في طرح أفكارها وتحقيق غلبتها. فهي تعتمد التهديد والوعيد وممارسة الإلغاء عند طرحها لقناعاتها، في محاولة منها لإرهاب الآخر بغية الحصول منه على المطواعيّة. والتاريخ حافل بالشواهد على ذلك.

فمنذ قرون طويلة من الزمن وإلى الآن، تعمل المنظومات التكفيريّة على إبرام عقد نفعيّ ما بينها وبين السلطان، حيث يتّحدوا قبالة العامة من الناس لإخضاعهم، وإذا ما خرج أحدهم عن فروض الطاعة كان نفيه من الحياة يتم بإسم الله وفي سبيله. حصل ذلك في المسيحية، ولا يزال هذا المنهاج ماثل أمامنا في العالم الإسلامي.
 
السمة الثانية: بالتأكيد إن هذه السمة تتصل بسابقتها، فالنفوذ التكفيري الذي بلغ مستوياته الحادة، لم تكن مسوّغاته مستمدة من أصول الأديان السماوية، لأن تلك الأصول لا تحوي نهجًا إلغائيًا،{قل يا أيها الكافرون..... لكم دينكم ولي دين}([9]). وشكّل فقدان دعاة هذا النهج الاتصال بمنابع الحقيقة المطلقة في ظلّ ادعائهم النطق بإسم الدين الحق، ذهابهم نحو تحريف الرسالة السماوية من خلال تحميلها ما لم تأت به، بل بما يناقضها في كثير من الموضوعات، ولم يبتعد انصياع الناس لهذا الفكر المنحرف عن رهبة السيف وبطشه. حتى أمكن القول، إنّ البشرية قد شهدت ولادة دين مسيحي يختلف عما جاء به نبي الله عيسى ابن مريم، وإسلامٍ مختلفٍ عمّا جاء به رسول الله محمد(ص).

هذا ما وجدناه على ألسنة قساوسة ورهبان ورجال دين وفكر، من إجابات لأسئلة يطرحها الإنسان في فهمه لوجوده وللكون وللآخر، حيث أطلقت كم هائل من الوصايا والتعاليم والأحاديث المختلقة، والتفسيرات الباطلة والملتبسة، التي تصب في خدمة تسويغ نهجهم المنغلق والإلغائي، بغية إلباسها صفة القداسة. فمن خلال الاطلاع على ما أفاضت به تلك الألسن، يبرز كلام نسب إلى الخالق قد تبيّن بطلانه في حقيقة الخلق، ووجود آلاف الأحاديث التي باتت تعدّ من السنّة النبوية الشريفة ومصدرًا أساسيًا للتشريع في الدين الإسلامي، بينما الرسول منها براء. 

هذه السمات التي سوّغت للنهج التكفيري أن يفرض نفسه على ساحة الحياة، هي في الوقت نفسه تستبطن مسوغات نهايته الحتميّة، باعتبار أنّ مجريات التاريخ تحكمها سنن واضحة المعالم، كاتصال المعلول بالعلّة، والنتائج بالمقدمات، فأي تغير بالمقدمات سيتبعه تغير بالنتائج. فهذه النهاية الحتمية، قد بدأت فعليًا مع سقوط المنظومة التي حكمت العقل البشري بإسم الدين في أوروبا طيلة القرون الوسطى، فهذه المنظومة التي قدّر لها أن تقبض على مدخلات ومخرجات العقل الجمعي في تلك البلاد منذ بدايات القرن الرابع للميلاد حيث أمكنتها امتيازات السلطة الملكية من ذلك، لقد تداعى نفوذها الإلغائي في القرن الثامن عشر، إثر تراكم عدّة عوامل، كان أهمها الثورة التي أطاحت بالسلطة الملكية، وهذا ما أفقد جماعة (الإكليروس) الشريان الأساس الذي استمدوا منه سلطتهم في تطويع عقول الناس وإرادتهم. فلو كان اتصال فكر هذه الجماعة بالحق المطلق لبقي قويًّا وثابتًا لا يتزعزع، ولكنّ، اتصالهم بالمحدود أصابهم بما لديه من وهن وضعف، بوصفهم من علائقه.

وربما يسأل البعض، عن الموضوعية في القول بأن النهاية التي بلغها النهج التكفيري الإلغائي في الغرب المسيحي ستمتد حتمًا إلى هذا النهج في بلاد المسلمين؟

تبدأ الإجابة عن هذا السؤال من لحاظ مسار النهج التكفيري في كل من المسيحية والإسلام وما بينهما من سمات مشتركة، حيث تعدّ مسوغات موضوعية لنفس النهايات والمصير. فكلاهما استند إلى الإرهاب الفكري والعملي وقوة السلطان في الاستحصال على المطواعيّة من قبل العامة من الناس، وكلاهما افتقد إلى الحقيقة الكاملة فراح يسقط على الدين أفكارًا وتشريعات لا تمت إليه بصلة، ولذلك، لمّا تفقد هذه المنظومة التكفيرية قوة السيف وعون السلطان، ولمّا يتبيّن بطلان التشريعات والأفكار التي ألبست ثوب القداسة، عندها ستسقط هذه المنظومة وتتهاوى. حدث هذا في المسيحية ولاحت بشائره في بلاد المسلمين.

مؤخرًا، اعترف زعيم الكنيسة المسيحية بأخطاء الماضي، وطلب الصفح والمغفرة عن ذلك التاريخ المظلم، إذ أعلن في آذار العام 2000م، عن يوم للتسامح وعرض لمذكرة أعدها ثمانية قساوسة تضمنت أخطاء الكنيسة ومسؤوليتها عن العنف والصراع المذهبي، وحدّة التفرقة التي حصلت بين أتباع الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، بين أتباع الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية.

وحاليًا، يشهد العالم الإسلامي تحولات كبرى على مستوى العلاقة بين مكوناته، فطيلة قرون خلت كانت الحاكميّة مطلقة لصالح البيئة الحاضنة لجماعة التكفير، وهي المسببة في آن لنمو ما يعانيه هذا العالم من نزعة إلغائية. صحيح، أنّه من المؤسف الحديث عن غلبة السيف كمعيار أساسي في العلاقة بين جماعة المسلمين، لكن الحقائق فرضت ذلك، فقوة السيف والسلطان لا قوة الحجة والبرهان هي ما استند إليها فريق من المسلمين كي يتسيّد على فريق آخر، فمارس التهميش والإلغاء بحقه، بعد أن أسقط عنه انتماءه للإسلام.

بكل موضوعية، لقد أثبتت حقائق التاريخ لا دسائسه، أن الجرأة في تكفير المسلم كانت على الدوام حجتها ضعيفة وهزيلة وباطلة، ولم تكن غاياتها حفظ الدين، بل كانت لصالح جماعة السلطان والرياسة والغلبة. ولطالما شكّل ضعف المسلم الآخر المخالف، عامل إغراء لجماعة الغلبة فأوهمها ذلك أنها على حق وأن هذه الفرق المسلمة المخالفة على باطل، فاستسهلت تكفيرها وإخراجها من الدين.

وما كان للتاريخ أن يغيّر في مساره هذا، إلّا عندما بدأت جماعة التكفير والإلغاء تدرك الهزيمة تلو الأخرى من خلال وقائع الميدان وعلى يد الجماعات التي كفّروها، فصار التكفير وجماعته في واقع مأزوم، يسأل بعضهم بعضًا، هل تخلّى الله عنّا؟

في الحقيقة، إن الله لم يكن يؤيدهم حتى تخلّى عنهم، بل إنه تعالى يسيّر الكون وفق سنن واضحة المعالم، فالغلبة التي يجاهر بها جماعة التكفير لم تكن مددًا من الله، بل أتت من المسلمين الذي نسوا نصرة الله فألبسهم ثوب الذل حتى عميت قلوبهم عن رؤية الحقيقة، وكان عليهم أن يتيهوا قرابة أربعة عشر قرنًا، حتى عاد وخرج من بينهم أناس أخذوا بمصادر القوة واستضاءوا بنور الحقيقة فكان على الله نصرتهم.

لذلك صار من البصيرة القول، أنّنا نعيش إرهاصات السقوط المدوي للفكر الإلغائي التكفيري، بعدما فقد هذا الفكر شريان قوة الغلبة الذي مده بعوامل الاستمرار والحضور والفاعلية، فمع التوازن في العلاقات بين المسلمين يمكن الحديث هنا عن مجتمع إسلامي يعيش التنوع في مناخ من الحرية في الحوار، وبعيدًا عن لغة الإقصاء والإلغاء. ومن البصيرة أيضًا، القول بأنه ليس من باب الصدف التاريخية أنّ النهج التكفيري في المجتمع الإسلامي الذي بدأ مع الجماعة التي سبق لها أن كفّرت أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب(ع)، وأهدرت دمه، ستكون نهايته من خلال العودة عن تلك الخطيئة القاتلة، وفتح صفحة جديدة مع الذين يوالون هذا الإمام.


[1] باحث اجتماعي واستاذ في الجامعة اللبنانية.
[2] ورد ذكر الكفر في القرآن الكريم ب51 صيغة، وفي 524 موضع.
[3] فرانسوا ماري آروويه المعروف بشهرته فولتير، هو كاتب وفيلسوف فرنسي عـاش خلال ما يعرف بعصر التنوير.
[4] ورد ذكر الإيمان في القرآن الكريم ب67 صيغة، وفي 878 موضع.
[5] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 256.
[6] القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 94.
[7] القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية 107.
[8] القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 28.
[9] القرآن الكريم، سورة الكافرون.

أضيف بتاريخ: 10/03/2021