مقالات عامة

فوائد وبركات نمط الحياة الطيبة

فوائد وبركات نمط الحياة الطيبة[1]

الحياة الطيبة هي الوضعية المنشودة لحياة البشر؛ في الأبعاد الإيمانية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية،  والجهادية، والجسمية، والبيئية، والجمالية، والعلمية، والإدارية.

ووفقاً لرؤويتنا الإسلامية لا مجال لفصل الحياة الطيبة بأبعادها ومراتبها كافة عن الإيمان والعمل الصالح الوارد في عدة آيات في القرآن الكريم على نحو التلازم، منها قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [2]. فالإحياء هنا بمعنى إلقاء الحياة في الشيء وإفاضتها عليه، وفيها دلالة على أن الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحا بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، وما في الآية من طيب الحياة يلازم طيب أثرها وهو القدرة والشعور المتفرّع عليهما الأعمال الصالحة، وهما المعبر عنهما في القرآن الكريم بقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به "[3] و﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ فإن المراد بهذا النور العلم الذي يهتدي به الإنسان إلى الحق في الاعتقاد والعمل قطعاً. وهذه حياة خاصة كريمة لها آثار خاصة ملازمة لسعادة الانسان الأبدية[4] 

إذاً «الحياة الطيبة» في هذه الدنيا هي النتاج الطبيعي للعمل الصالح النابع من الإِيمان، أيْ أنّ المجتمع البشري سيعيش حينها حياةً هادئةً مطمئنةً ملؤها الرفاه والسلم والمحبّة والتعاون، وفي أمان من الآلام الناتجة عن الإِستكبار والظلم والطغيان وعبادة الأهواء والأنانية التي تملأ الدنيا ظلاماً وظلامات[5]. هذا إضافة إلى الجزاء الأحسن في عالم الآخرة.

الآثار المباشرة لنمط الحياة الإسلامي:
إنّ الحديث عن الآثار الناتجة عن نمط الحياة الإسلامي الموصوف في القرآن الكريم بالحياة الطيبة، يتركّز في بعدين أساسيين في حياة الإنسان:

الأول: البعد التربوي: ويرتكز هذا البعد على ما تتربّى عليه شخصية الإنسان في الجوانب العقائدية والإيمانية والروحية، لذلك >يتعلّق قلبه بربه الحق الذي هو يحق كل حق بكلماته، فلا يريد إلا وجهه ولا يحب إلا قربه ولا يخاف إلا سخطه وبعده، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلّدة لا يدبّر أمرها إلا ربه الغفور الودود، ولا يواجهها في طول مسيرها إلا الحسن الجميل فقد أحسن كل شيء خلقه، ولا قبيح إلا ما قبحه الله من معصيته. فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدر بقدر، وكيف لا؟ وهو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها ونعمة باقية لا نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها، وخير وسعادة لا شقاء معها<[6].

الثاني: البعد السلوكي الفردي الاجتماعي: ويرتبط  بالنتائج والثمار التي تنعكس على مناحي الحياة كافة وتتحوّل إلى ثقافة يعيشها الإنسان  في سلوكه الفردي والاجتماعي، وعلى هذا الأساس يتحمل الفرد المسؤلية المجتمعية ويعمل على إصلاح مجتمعه والمشاركة الفاعلة فيه، وتبرز المظاهر والنماذج الإسلامية في أنماط  الحياة الاجتماعية في السلوك الفردي والاجتماعي والمؤسساتي، وينسجم نمط العيش والسلوك الاجتماعي مع القيم المعيارية للإسلام، وتصبح آثار ونتائج النمط الإسلامي في الحياة الطيبة جلية ومتجسّدة في سلوك الفرد والمجتمع.

ولتوضيح الفكرة نعرض لهذه الآثار في نقاط:

-       تحقّق الهوية الدينية للمسلم: ويكون ذلك بتكامل العناصر الثلاثة المكوّنة لشخصيته تكاملاً حقيقياً وكاملاً، وذلك من خلال الاعتقاد الواعي والصحيح  بالعقيدة الإسلامية، والإيمان القلبي به، والالتزام العملي  بتشريعاته الفقهية وقيمه الأخلاقية، وبهذا يتعزّز الجانب العملي لمسؤولية الإنسان في أبعادها الأربعة؛ العلاقة مع الله، العلاقة مع الذات، العلاقة مع الآخرين، والعلاقة مع الطبيعة والعالم من حوله. وتتحقّق أسمى غايات الإنسان بالقرب من الله، ويحيا الحياة الطيبة بجميع مراتبها.

-       تحقّق السكينة والإطمئنان النفسي: يقول اللغويون السكينة على خلاف الاضطراب والحركة، فالسُّكُونُ ضدُّ الحركة، يقال: سَكَنَ الشَّيء يَسْكُنُ سُكونًا، إذا ذهبت حركته، وكلُّ ما هَدَأَ فقد سَكَن، كالرِّيح والحَرِّ والبرد ونحو ذلك، وسَكَنَ الرَّجل سكت، والسكينة: الطمأنينة والاستقرار والرزانة والوقار[7]. فالسكينة هي الطُّمَأنِينة والوَقَار والسُّكون، الذي ينزِّله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدَّة المخاوف والابتلاءات والغضب ونحوه، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوَّة اليقين والثَّبات؛ ولهذا

إذا نزلت السَّكِينَة على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوَقَار، وأنطقت اللِّسان بالصَّواب والحِكْمة...،  قال تعالى: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[8] ،ويُضَاف إلى القلب، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[9].

 وبهذا يرتقي المؤمن إلى أعلى الدرجات التسليم لإرادة الله، فلا يكتفي بمجرد الالتزام والعمل، بل يسلّم أمره بالكامل إلى سيّده ومولاه، بمعنى ترك الاعتراض على الله مطلقاً. قال الله تعالى مخاطباً رسوله الكريم: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في‏ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً[ [10].

-       لقاء الله: يوجد شرطان رئيسان للقاء الحقّ تعالى: الأوَّل العمل الصالح وهو الذي يظهر من خلال العقيدة الحقة وإتباع الشريعة والعمل بأحكامها. والشرط الثاني هو عدم الشرك بالله تعالى أي الإخلاص، لأنّ الشرك يضادّه الإخلاص، فمن لم يكن مخلصاً فهو مشرك، قال الله تعالى: ]فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدا[ [11]. فإنّ الخطوة الأولى نحو الله، تتمثّل في ترك حبّ النفس، والوطء بقدمه على الأنانية والذّاتية.

-       النيّة الصادقة والإرادة الخالصة: عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام في قَوْلِ اللهِ تَعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَل﴾[12]، قال عليه السلام: "ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبَكم عملاً. وإنّما الإصابة خشية الله والنِّيَّة الصادقة والخشية. ثمّ قال: "الإبقاء على العمل حتّى يَخْلُصَ أشَدُّ من العمل، والعمل الخالص الّذي لا تريد أن يَحْمَدك عليه أحد إلا الله تعالى أفضل من العمل. ألا وإنّ النِّيَّةَ هي العمل، ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ يعني عَلى نِيَّته"[13]. وعليه يكون كمال العبادات ونقصها وصحّتها وفسادها كلّياً تابعاً لها. وكلّما كانت العبادات أصفى من الشرك وشوب النيّة، كلّما كانت أكمل. وليس في العبادات شيءٌ ذو أهمية مثل النيّة وخلوصها، لأنّ نسبة النيّات إلى الأعمال كنسبة الأرواح إلى الأبدان والنفوس إلى الأجساد. ولا تُقبل عبادة البتّة عند الحقّ المتعالي من دون نيّة خالصة. ورد في الحديث الشريف قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. قال: القَلْبُ السَّليمُ الَّذي يَلْقَى رَبَّهُ وَلَيْسَ فِيهِ أحَدٌ سِواهُ قال: "وَكُلُّ قَلْبٍ فيهِ شِرْكٌ أوْ شَكٌّ فَهُوَ ساقِطٌ وَإِنَّما أرادَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيا لِتَفْرَغَ قُلٌوبُهُمْ لِلآخِرَةِ"5[14].
 
والتعريف الجامع للشرك في العبادة، الشامل لكلّ مراتبه هو: إدخال رضا غير الحقّ في العبادة. سواء كان - رضا غير الحق- رضى نفسه أو غيره. إلاّ أنّه إذا كان إدخالاً لرضا غير نفسه من الناس في العبادة، لكان شركاً ظاهرياً ورياءاً فقهياً. وإن كان رضا نفسه كان شركاً خفيّاً وباطنيّاً، والعبادة باطلة، ولا تُعدّ بشيء لدى أهل المعرفة، ولا تكون مقبولة لدى الحقّ سبحانه[15].

-       الخوف والخشية من الله تعالى: إنّ الخوف والفزع من الحقّ المتعالي يوجب خشية النفس وتقواها. والتقوى تُزكّي النفس وتُطهّرها من الدنس والقذارات. وإذا كانت صفحة النفس ناصعة، وطاهرة من حجب المعاصي وكدرها، كانت الأعمال الحسنة مؤثّرة أكثر، وإصابتها للهدف المبتغى أدقّ، وتحقُّق السّر الكبير للعبادات الذي هو ترويض الجانب المادّي للإنسان، وقهر ملكوته على مُلكه ونفوذ الإرادة الفاعلة للنفس بصورة أفضل.

فالخشية من الحقّ سبحانه، التي لها التأثير التام في تقوى النفوس هي من العوامل الكبيرة لإصلاح النفوس، وذات دور في إصابة الأعمال وحسنها وكمالها؛ لأنّ التقوى مضافاً إلى أنّها من العوامل الكبيرة في إصلاح النفس، تكون ذات قدرة فعّالة في تأثير الأعمال القلبية والظاهرية للإنسان، وتكون سبباً لقبولها أيضاً. كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[16].

-       التدبير المعيشي والوعي الاقتصادي: إن اعتقاد الإنسان بمالكية الله تعالى للكون وكل الموارد والنعم المتاحة له، يولّد فيه التزامه العملي بالتشريعات والقيم الاقتصادية في كافة معاملاته الاقتصادية والمالية؛ إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، لذلك تراه يتصرّف في الأرض وخيراتها وفق إرادة الله تعالى، ويستخدم الموارد الطبيعية الاستخدام الأمثل بالمقدار الذي يحقّق الكفاية، دون إسراف أو تبذير أو شح وطمع، باعتبارها أمانة إهية مسّرة لخدمة الإنسان ورقيه ورفاهيته وتحقيق كماله على ضوء الإرادة الإلهية. وتحضر القناعة كمعيار أساسي في سلوك الإنسان، فهي تحرّره من عبودية المادة، واسترقاق الحرص والطمع، وعنائهما المرهق، وهوانهما المذل، وتنفخ فيه روح العزة، والكرامة، والإباء، والعفة، فهي صفة كريمة، تعرب عن عزة النفس، وشرف الوجدان وكرم الأخلاق. روي عن الإمام الباقر(ع): (من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الأغنياء)[17].

 
-       الالتزام بمنظومة الحقوق والواجبات الاجتماعية والأسرية: إنّ تحمّل الفرد المسؤولية المجتمعية والعمل على إصلاح مجتمعه والمشاركة الفاعلة فيه، في ضوء روابط الأخوة الإيمانية والنظائرية في الخلقة الإنسانية، واندماجه في نظام التكافل الاجتماعي من خلال تعزيز قيم التعاون والتعاضد والتآزر، وبناء أسرة متماسكة على روح الإلفة والمودة، ورعايتها وصيانتها من مختلف المشاكل والمعيقات التي تعترضها، يعبّر عن الهوية الإسلامية الاجتماعية الحقيقية للإنسان المسلم.

 ومن خلال هذا الفهم العميق للمسؤولية يتحقّق نمط الحياة الإسلامي والحياة الطيبة، إذ تتعزّز قيم الإحسان والبر والطاعة والاحترام للوالدين، وقيم الرفق والرحمة والعطف على الأبناء، وقيم الراوابط الأسرية والرحمية القائمة على المحبة والاحترام المتبادين بين الأخوة والأخوات وسائر الأرحام، وتتكامل أدوار كل من الزوج والزوجة في الأسرة في التربية الأسرية والاجتماعية، وتأخذ المرأة مكانتها اللائقة ودورها الفطري المنسجم مع طبيعة خلقتها.

خاتمة
لا شك بأن التزام الإنسان نمط الحياة الإسلامي، ومراعاته لقواعد وأصول الحياة الطيبة يكفلان له أعلى درجات السعادة والإطمئنان في حياته الدنيوية، والفوز برضا الله وجزاءه الحسن في حياته الأخروية.


[1]  الشيخ حسن أحمد الهادي
[2]  سورة النحل، الآية97.
[3] سورة الحديد، الآية28.
[4]  العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن،
[5]  آية الله ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،ج8، ص314.
[6] العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن،
[7] انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (3/88)، الصِّحاح للجوهري (1/323)، لسان العرب لابن منظور (13/211)
[8] سورة الفتح، الآية 26
[9] سورة الفتح، الآية 4
[10]  سورة النساء: 65.
[11]  سورة الكهف: 110.
[12] سورة هود، الآية 7.
[13] الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 16.
[14] الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 16.
[15] جهاد النفس في ضوء فكر الإمام الخميني، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية. بتصرف.
[16] م.ن/ سورة المائدة، الآية 27.
[17] الوافي ج3 ص79

أضيف بتاريخ: 10/06/2021