مقالات عامة

المسلمون وفتنة التكفير

المسلمون وفتنة التكفير

الشيخ حسن أحمد الهادي

تمهيد:
يُعدّ البحث عن الإيمان والكفر من المسائل المهمّة في حياتنا الحاضرة، حيث إنّ الرابطة الوحيدة بين المسلمين هي رابطة الإيمان الوثيقة من غير فرق بين أجناسهم. ولم يزل المسلمون ومنذ قرون، يشكّلون غرضاً لأهداف المستعمرين، الذين يبذلون جهدهم في تفريقهم وتشتيتهم إلى فرق وأُمم متباعدة، ينهش بعضها البعض الآخر، غافلين عن حقيقة أنّهم أُمّة واحدة. كلّ ذلك، ليكونوا فريسة سائغة لهم، فينهبون ثرواتهم، ويقضون على عقيدتهم، وثقافتهم الإسلاميّة، وقيمهم؛ بشتّى الوسائل والطرق.

والمسلمون في هذه الظروف الحرجة في أشدّ الحاجة إلى التقارب، ورصّ الصفوف، وتوحيد الكلمة، ونبذ كلّ دعوات التكفير، ورفض مبرّراتها، ولا يتسنّى لهم ذلك إلا من خلال الرجوع إلى مقتضى الفطرة التي فطرهم الله عليها، فيتمسّكوا بكلمة التوحيد في ظلّ الإيمان بالله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله).

وهذا ما يدعونا إلى تحكيم ضابطة الإيمان والكفر المبيّنة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة[1]؛ كي تكون هي المقياس والمعيار في القضاء العادل بحقّ الفِرَق المختلفة على الساحة الإسلامية، والتنبيه على أنّ التكفير حكم شرعي لا يحقّ لأيّ كان التسلّح به كيفما شاء في حربه على الآخرين ومواجهته لهم.
 
1. معنى الكَفر:
أ. المعنى اللغوي: "الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدلّ على معنى واحد وهو الستر والتغطية... والكفر ضدّ الإيمان، سُمِّي لأنّه تغطية الحقّ"[2]. "وكُفْرُ النعمة وكُفْرَانُهَا: سترها بترك أداء شكرها، قال تعالى: ﴿فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِه﴾(الأنبياء: 94). وأعظم الكُفْرِ: جحود الوحدانيّة أو الشريعة أو النّبوّة، والكُفْرَانُ في جحود النعمة أكثر استعمالاً، والكُفْرُ في الدين أكثر، والكُفُورُ فيهما جميعاً، قال: ﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً﴾(الإسراء: 99)، ﴿فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً﴾(الفرقان: 50). ويقال منهما: كَفَرَ فهو كَافِرٌ . قال في الكفران: ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ومَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِه ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾(النمل: 40)، وقال: ﴿واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ﴾(البقرة: 152)، وقوله: ﴿وفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ﴾(الشعراء: 19)؛ أي: تحرّيت كفران نعمتي، وقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾(إبراهيم: 7). ولمّا كان الكفران يقتضي جحود النّعمة صار يستعمل في الجحود، قال: ﴿ولا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِه﴾(البقرة: 41)؛ أي: جاحد له وساتر. والكَافِرُ على الإطلاق متعارف في مَنْ يجحد الوحدانيّة، أو النّبوّة، أو الشريعة، أو ثلاثتها"[3].

ب. المعنى الاصطلاحي: الكفر هو عدم الإيمان بما من شأنه الإيمان به، فيدخل ما من شأنه الإيمان به تفصيلاً؛ كتوحيده سبحانه، ورسالة نبيه، ويوم قيامته، أو من شأنه الإيمان به إجمالاً؛ كالإيمان بالضروريات؛ أي ما لا يجتمع الإنكار بها مع التسليم بالرسالة، ويُعدّ الفصل بينهما أمراً محالاً في مقام التصديق، فلو كفر بوجوب الصلاة والزكاة، فقد كفر بما من شأنّه الإيمان به، فالإيمان بالرسالة إيمان بهما، ويعدّ إنكارهما إنكاراً لها، بل الإيمان بكلّ ما جاء به ضروريّاً كان أم غير ضروريّ. لكن على وجه الإجمال؛ لأنّه لازم الإيمان برسالته.

قال الإيجي: "(الكفر) وهو خلاف الإيمان، فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة"[4].

وقال ابن ميثم البحراني: "الكفر هو إنكار صدق الرسول(صلى الله عليه وآله)، وإنكار شيءٍ ممّا عُلِمَ مجيئه به بالضرورة"[5].
 
وقال الفاضل المقداد: "الكفر اصطلاحاً هو إنكار ما عُلِمَ ضرورة مجيء الرسول به"[6].

والميزان عند هؤلاء الأقطاب الثلاثة هو إنكار ما عُلِمَ مجيء الرسول(صلى الله عليه وآله) به، من دون أن يشيروا إلى ما هو المعلوم مجيئه به.

وقد أشار السيد الطباطبائي اليزدي(قده) إلى رؤوس ما جاء به، فقال: "والمراد بالكافر مَنْ كان منكراً للألوهيّة، أو التوحيد، أو الرسالة، أو ضروريّاً من ضروريّات الدين، مع الالتفات إلى كونه ضروريّاً؛ بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة"[7]، والأولى، بل المتعيّن ذِكْر المعاد -أيضاً- لما تقدَّم بيانه.
 
2. موجبات الكفر:
يمكن جمع موجبات الكفر؛ سواء أكان ابتداءً أم بقاءً ضمن موجبات ثلاثة:

أ. الأوّل: إنكار ما وجب الإيمان به تفصيلاً، كإنكار الصانع، أو توحيده ذاتاً وفعلاً وعبادة. وإنكار رسالة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) بالمباشرة، أو يوم المعاد والجزاء. وقد علمت أنّ الإيمان بها، على وجه التفصيل قد أُخِذَ موضوعاً للحكم بالإسلام، فلو أنكرها يكون محكوماً بالكفر، وربّما يكون معذوراً في بعض الصور؛ كما إذا كان جاهلاً قاصراً أم إنساناً مستضعفاً.

ب. الثاني: جحد ما علم الجاحد أنّه من الإسلام؛ سواء أكان ضرورياً أم غير ضروري، وسواء أكان أصلاً عقديّاً أم حكماً شرعياً؛ لأنّ مرجعه إلى إنكار رسالته في بعض النواحي. وربّما يستغرب الإنسان من الجمع بين العلم بكونه ممّا جاء به النبي(صلى الله عليه وآله)، ومع ذلك يجحد به، ولكنّه سرعان ما يزول تعجّبه إذا تلا قوله سبحانه: ﴿وَجَحَدُوا بِها واستَيْقَنَتها أَنفُسُهُمْ﴾[8]، وقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبناءَهُم﴾[9]، فنرى أنّهم أنكـروا ما أيقنوه، ونفوا ما عرفوه. هذا إذا لم يتجاوز الجحد حدّ اللسان، وإمّا إذا سرى إلى الباطن، فمرجع الجحد عندئذ مع العلم بأنّه ممّا جاء به النبي(صلى الله عليه وآله) إلى نسبة الخطأ والاشتباه إلى صاحب الرسالة وتصوير علمه قاصراً في مجال المجحود.

وقد وردت روايات عن أئمّة أهل البيت(عله) تركّز على جحد ما علم أنّه من الدين، من غير تخصيص المجحود بما علم أنّه من الإسلام بالضرورة. وقد روي أنّ عبد الله بن سنان سأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر، فيموت هل يُخرِجه ذلك من الإسلام، وإن عُذِّب، كان عذابه كعذاب المشركين، أم له مدّة انقطاع؟  فقال(عليه السلام): "من ارتكب كبيرة من الكبائر، فزعم أنّها حلال، أخرجه ذلك من الإسلام، وعذّب أشدّ العذاب، وإن كان معترفاً أنّه أذنب، ومات عليه أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام، وكان عذابه أهون من عذاب الأول"[10].

وحاصله أنّ ارتكاب الكبيرة مع الاعتقاد بأنّها حلال يُوجِب الكفر، وأمّا ارتكابها مع الاعتراف بكونها ذنباً فيخرج عن الإيمان دون الإسلام.

ج. الثالث: إنكار ما علم أنّه من ضروريّات الإسلام: تقدَّم في ما سبق ما يجب الإيمان به تفصيلاً، وأمّا ما يجب الإيمان به إجمالاً، وأنّ ما سوى الأصول الثلاثة (التوحيد بمراتبه، ورسالة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) ويوم الجزاء) لا يجب الإيمان به تفصيلاً، بل يكفي الإيمان به إجمالاً، وهو يعمّ الضروري وغيره. وعلى ذلك، لم يؤخَذ الإيمان بوجوب الصلاة والصوم تفصيلاً في موضوع تحقّق الإسلام، بخلاف الأصول الثلاثة المتقدّمة.

ومع ذلك لو التفت إلى حكم الضروريّ التفاتاً تفصيلياً وأنكر كونه ممّا جاء به النبي(صلى الله عليه وآله)، فبما أنّه يلازم إنكار الرسالة في نظر المخاطبين المسلمين، بحيث لا يمكن الجمع بين الإيمان برسالة الرسول(صلى الله عليه وآله)، وإنكار ما عُلِمَ بالبداهة أنّه ممّا جاء به النبي(صلى الله عليه وآله)؛ وقع الكلام في كونه موجباً للارتداد، مطلقاً سواء أكانت هناك ملازمة عند المنكر أم لا. أو فيه تفصيل - وهو الحقّ - ويعلم من الكلام أنّ هناك فرقاً واضحاً بين إنكار الرسالة بالمباشرة، وإنكار ما يلازم إنكارها، فلو وقعت الرسالة بشخصها في مجال الإنكار، فالمنكر يكون محكوماً بالكفر، قاصراً كان أم مقصّراً، معذوراً كان أم غير معذور للنصوص المركّزة على كون الإيمان برسالة الرسول(صلى الله عليه وآله) من أُصول الإسلام ومقوّماته.

وأمّا إنكار الضروري فبما أنّه ليس الإيمان به تفصيلاً أصلاً من الأصول، لا يكون إنكاره عند الالتفات سبباً مستقلاً، بل سببيّته لأجل كونه سبباً لإنكار الأصل، وعند ذلك لا يكون الإنكاران متماثلين في الحكم من جميع الجهات، بل يُقتصر في الثاني على حدّ خاصّ؛ وهو تحقّق الملازمة عند المنكر. غاية الأمر يكون إنكار الضروريّ طريقاً إلى إنكار الرسالة، ما لم يُعلَم عدم الملازمة عند المنكر، فيحكم بكفر المنكر؛ إلاّ إذا ثبت بالقرائن أنّه لم يكن بصدد إنكار الرسالة، وإنّما أنكرها لجهله وضعفه الفكريّ.
 
3. معنى الإيمان: 
أصل الإيمان: الإذعان إلى الحقِّ على سبيل التصديق له واليقين. ولكنّه صار اسماً لشريعة سيدنا محمد(صلى الله عليه وآله)،  واختلفوا في مسمّى الإيمان في العرف الشرعي، على أقوال: 

أ. القول الأوّل: ذهب إليه المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث، حيث اعتقدوا أنّ الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح مع الإقرار باللسان، وأنّه يتناول طاعة الله ومعرفته مع ما جعل الله تعالى عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً في الكتاب والسُنّة المطهّرة، وأنّ الإخلال بواحد من هذه الأمور كفرٌ.

ب. القول الثاني: ذهب إليه أبو حنيفة والأشعري، حيث اعتقدا أنّ الإيمان يحصل بالقلب واللسان معاً. 

ج. القول الثالث: وهو أنّ الإيمان عبارة عن الاعتقاد بالقلب فقط. وتبلور عنه اتّجاه يحصر الإيمان في نطاق ضيّق؛ هو معرفة الله بالقلب؛ حتى أنّ من عرف الله ثمّ جحد بلسانه ومات قبل أن يقرّ به فهو مؤمن كامل الإيمان.

د. القول الرابع: وهو أنّ الإيمان ـ حصراً ـ هو الإقرار باللسان فقط. وتبلور عنه اتّجاه يرى أنّ الإيمان هو إقرار باللسان، ولكن بشرط حصول المعرفة في القلب[11]. 

ولكنّ التدبّر في آيات القرآن الكريم يكشف حقيقة أُخرى للإيمان بعيدة عن كلِّ ما تقدم، وهي أنّ الإيمان ليس مجرّد العلم بالشيء والجزم بكونه حقّاً، لأنَّ الذين تبيّن لهم الهدى لم يردعهم ذلك عن الارتداد على أدبارهم، ولم يمنعهم من الكفر والصدّ عن سبيل الله ومشاققة الرسول؛ كما في قوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذين ارتَدُّوا على أدبارهم مِنْ بَعدِ ما تَبينَ لهَمُ الهُدى... إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وصَدَّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وشَاقُّوا الرسُولَ مِن بَعدِ ما تَبيَنَ لهُم الهُدى﴾[12]. فالعلم -إذن- لا يكفي وحده في المقام؛ ما لم يكن هناك نوع التزام بمقتضاه، وعقد القلب على مؤدّاه؛ بحيث تترتّب عليه آثاره ولو في الجملة.

ومن هنا، يظهر بطلان ما قيل: إنّ الإيمان هو العمل؛ وذلك لأنّ العمل يجامع النفاق، فالمنافق له عمل، وربما كان ممّن ظهر له الحقّ ظهوراً  علميّاً، ولا إيمان له على أي حال[13].

 وفي هذا الصدد، وردت أحاديث كثيرة عن النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عله) ترى أنّ الإيمان هو: عقد بالقلب، وقول باللِّسان، وعمل بالأركان:

عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلوب، وصدّقته الأعمال"[14]. حيث يؤكّد الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) على قاعدة التلازم بين القول والعمل في تحقّق مفهوم الإيمان.
وسُئل أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) عن الإيمان، فقال: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان"[15].
 
 وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) في معرض تفريقه بين الإسلام والإيمان: «الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل"[16].

وعن سلام الجعفي قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الإيمان فقال: «الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى"[17].

 ويتّضح من خلال تلك الأحاديث ونظائرها أنّ أهل البيت(عله) رفضوا كون الإيمان مجرّد إقرار باللسان، أو اعتقاد بالقلب، أو بهما معاً؛ إذ إنّ إيماناً -كهذا- لا روح فيه ولا حياة؛ ما لم يقترن بالطاعة المطلقة لله؛ بالتزام أوامره وعدم اقتراف نواهيه؛ كل ذلك في دائرة الوعي والسلوك والعمل.

وهكذا نجد أنّ مفهوم الإيمان في مدرسة أهل البيت(عليه السلام) يرتكز في أحد كفّتيه على الباطن الذي تعكسه نيّة الفرد وانعقاد قلبه على الإيمان، وفي الكفّة الأخرى على الظاهر الذي يتمثّل بعمله وسلوكه السويّ اللذَين يكونان بمثابة مرآة صافية لتلك النيّة.
روي عن الاِمام الصادق(عليه السلام): «الكفر إقرارٌ من العبد، فلا يُكلّف بعد إقراره ببيّنة، والإيمان دعوى لا يجوز إلا ببيّنة؛ وبيّنته عمله ونيّته"[18].

وخلاصة القول: إنّ الإيمان كلّ لا يتجزّأ، ويرتكز على ثلاثة مقوّمات: الاعتقاد، والإقرار، والعمل.

فعن أبي الصلت الهروي، قال: سألت الإمام الرض(عليه السلام) عن الإيمان، فقال: «الإيمان عقد بالقلب، ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا"[19].

 والتأمّل في العبارة الأخيرة من الحديث «... ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا» لهو خير شاهد على النظرة الشموليّة غير التجزيئيّة للإيمان.

4. التكفير حكم شرعي:
إنّ التكفير حكمٌ شرعي من أحكام الدين، له أسبابه وضوابطه وشروطه وموانعه وآثاره، شأنه في ذلك شأن سائر الأحكام الشرعية. لذا، فالكفر حكم شرعي لا يثبت إلا بالأدلّة الشرعية. ولهذا كان أهل العلم والسنّة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفِّرهم؛ لأنّ الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله؛ كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله؛ لأنَّ الكذب والزنا حرامٌ لحقّ الله.

وكذلك التكفير حقّ لله، فلا يكفَّر؛ إلا من كفّره الله ورسوله(صلى الله عليه وآله). وكما أنّ تكفير الشخص المعيّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجّة النبويّة التي يكفَّر مَنْ خالفها؛ وإلا فليس كلُّ من جهل شيئاً من الدين يكفَّر.

والملاحظة التي يلزم تأكيدها هنا: أنّ الإسلام أو الكفر الذي يبحث الفقه فيه، ويكون موضوعاً لبعض الأحكام، أمثال: طهارة الذبيحة وحلّيّتها، وجواز النكاح والإرث أو عدمهما، لا يلازم الإيمان أو الكفر الذي نبحثه في أصول الدين؛ إذ من الممكن أن ينطق أحد بالشهادتين، وتثبت له الأحكام الفقهيّة الإسلاميّة، مع أنّه لم يؤمن قلبيّاً بمضمون التوحيد والنبوّة والمعاد ولوازمها.

فليس كلّ مَنْ مارس أحكام دينه؛ وفق أحكام مذهبه الذي أثبت حجيّتها وفق اجتهاده يكفّر إن خالف مذهباً آخر، وإلا للزم أن تكفِّر المذاهب بعضها البعض الآخر.

ولهذا لا يثبت التكفير على قول إلا بدليل شرعي؛ لأنّ الكافر هو من كفّره الله ورسوله. ولا يصحّ ولا يجوز مجاوزة الحدِّ الشرعي فيه، لا بالإفراط ولا بالتفريط.

هذا موافق ومطابق لما ذكره كثير من العلماء في كتبهم:
قال الشوكاني: "اعلم أنّ الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه؛ إلا ببرهان أوضح من شمس النهار؛ فإنّه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المرويّة من طريق جماعة من الصحابة (أنّ مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما (من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) أي: رجع وفي لفظ في الصحيح (فقد كفر أحدهما)؛ ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرّع في التكفير..."[20].

وقال ابن تيمية: "فليس لأحدٍ أن يُكفِّر أحداً من المسلمين؛ وإن أخطأ وغلِط؛ حتى تقام عليه الحجّة، وتبيّن له المحجّة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يَزُلْ ذلك عنه بالشكّ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة"[21].

إنّ "التَّكفير" بما هو حكمٌ شرعيٌّ يُخرِج الإنسان من ربقة الإسلام ويدخله في زمرة الكافرين، يتعلَّق بمنكر المعنى الأوّل المذكور، وهي الأركان (الأصول) الثَّلاثة: التَّوحيد، والنبوّة، والمعاد. وأمّا باقي الأركان فهي تدخل في ما يُعرَف بأصول المذهب؛ كالإمامة والعدل عند الإماميّة، فإنّ الإيمان بهما ضروريٌّ عند بعض المذاهب، وإنكارها لا يكون مُخرِجاً عن الإسلام؛ إلا إذا قامت بيّنة على نصِّ الرَّسول(صلى الله عليه وآله) عليها، وكان الإنكارُ إنكاراً للنبي(صلى الله عليه وآله).
 
5. الكل يتوحَّد فأين المسلمون؟
إنّ الأمم والشعوب في مختلف القارّات تتوجّه نحو التقارب والتضامن والاتّحاد، انطلاقاً من الضروريّات الحياتيّة لهذه الأمم, لكنّ حال الشعوب الإسلاميّة في ضوء هذه الظاهرة العالميّة, يدعو للأسى والاستغراب! فالمسلمون أمّة واحدة, وهذه الوحدة هي إرادة إلهيّة وصناعة ربّانيّة، وليست مجرّد نزوع بشريّ دنيويّ، ومع هذه الفريضة الإلهيّة وشهادة التاريخ عليها، فإنّ واقع الأمّة يؤكِّد أن تمزّقها, وغيبة التضامن والاتّحاد عن شعوبها, هو الذي مكّن الأعداء وشذّاذ الآفاق من نهب ثرواتها واحتلال أراضيها.

لهذا فإنّ التقريب بين المذاهب هو الميدان الحقيقيّ للجهاد الفكريّ المطلوب, النازع للألغام الفكريّة التكفيريّة, التي تقسّم وحدة الأمّة بالتكفير لفريق أو لمذهب، ويعيد المسلمين إلى حقيقة الإسلام التي اتّفقوا على أنّ أركانها عبارة عن: الإيمان بالله تبارك وتعالى، ورسالة النبي(صلى الله عليه وآله)، ويوم المعاد، على ما جروا في كتبهم الاعتقادية والفقهية.

روي عن الإمام علي بن موسى الرض(عليه السلام)، وهو يروي عن النبي(صلى الله عليه وآله)، قوله: "أُمِرْت أن أقاتل الناس؛ حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا حرمت عليّ دماؤهم وأموالهم"[22].

وعن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): "الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء..."[23].

وانطلاقاً من خطورة ظاهرة التكفير وآثارها الهدّامة على الدين والحياة والإنسان، لا بد من معالجة ظاهرة التكفير، من خلال دراستها وفهمها، وفهم ظروف نشأتها وبيئتيها المنتجة والحاضنة، والكشف عن مخاطرها وآثارها الهدّامة، ونقد مقولاتها وتطبيقاتها من قِبَل التكفيريين، وتسييل علاجات ناجعة تحول دون تفشّيها وانتشارها.


[1] لمزيد من التفصيل، انظر: السبحاني، جعفر: الإيمان والكفر في الكتاب والسنّة، نسخة إلكترونية، إصدار مكتبة أهل البيت(عله).
[2] ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، لاط، لام، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404هـ.ق، ج5، ص191.
[3] الأصفهاني، الراغب: مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، ط2، قم المقدّسة، نشر: طليعة النور؛ سليمانزاده، 1427هـ.ق، ص714-715.
[4] الإيجي، عضد الدين: المواقف، تحقيق عبد الرحمن عميرة، ط1، بيروت، دار الجيل، 1417هـ.ق/ 1997م، ج3، ص544.
[5] البحراني، ابن ميثم: قواعد المرام في علم الكلام، تحقيق أحمد الحسيني، إشراف محمود المرعشي، ط2، قم المقدّسة، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي؛ مكتبة الصدر، 1406هـ.ق، ص171.
[6] السيوري، الفاضل المقداد: إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، تحقيق مهدي رجائي، ط1، قم المقدّسة، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1405هـ.ق، ص443.
[7] الطباطبائي اليزدي، محمد كاظم: العروة الوثقى، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق، ج1، كتاب الطهارة، مبحث النجاسات، ص143-144.
[8] النمل: 14.
[9] البقرة: 146.
[10] الكليني، محمد: الكافي، تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفاري، ط4، طهران، دار الكتب الإسلامية؛ مطبعة حيدري، 1365هـ.ش، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبائر،  ح23، ص285.
[11] انظر: الرازي، فخر الدين: التفسير الكبير، ط3، لام، لان، لات، ج2، ص24-25.
[12] محمد: 25، 32.
[13] الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ط2، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1393هـ.ق، ج18، ص259.
[14] ابن بابويه، محمد بن علي(الصدوق): معاني الأخبار، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، لاط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1379هـ.ق/ 1338هـ.ش، باب معنى الإسلام والإيمان، ح3، ص187.
[15] الشريف الرضي: نهج البلاغة(الجامع لخطب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) ورسائله وحكمه)، تحقيق محمد عبده، ط1، قم المقدّسة، دار الذخائر؛ مطبعة النهضة، 1412هـ.ق/ 1370هـ.ش، ج4، ح227، ص50.
[16] الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب أنّ الإسلام يُحقَن به الدم، ح2، ص24.
[17] الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها، ح3، ص33.
[18] الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب السبق إلى الإيمان، ح8، ص40.
[19] الصدوق، معاني الأخبار، م.س، باب الإيمان والإسلام، ح2، ص186.
[20] الشوكاني، محمد بن علي: السيل الجرار المتدفّق على حدائق الأزهار، تحقيق محمود إبراهيم زايد، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1405هـ.ق، ج4، ص578.
[21] الحرّاني، ابن تيمية: مجموع الفتاوى، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن  قاسم، ط1، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ.ق/ 1995م، ج12، ص466.
[22] ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لاط، بيروت، دار صادر، لات، ج3، ص339.
[23] الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان، ح1، ص25.

أضيف بتاريخ: 11/11/2021