مقالات داخليّة

حروب الجيل الخامس

حروب الجيل الخامس

د. علي الحاج حسن

شهد العالم وعبر سنوات طويلة تحوّلًا وتغيّرًا في مفهوم الحروب وممارستها وأدواتها، وقد ساهم في ايجاد هذا التحول مسائل عديدة من أبرزها التحوّل في المنتج التقني والتكنولوجي، بالإضافة إلى التحوّل على مستوى الاستراتيجيَّات السياسيَّة والاقتصاديَّة التي تُشكّل الدافع والحافز الأساس في شن الحروب. يضاف إلى ذلك فشل أشكال الحروب التقليديَّة في تحقيق النتائج المطلوبة وتعثّر الأشكال المطورة لها؛ ونعني على وجه التحديد حروب القوّة الناعمة، التي اصطدمت بمدى المقاومة الناعمة الذاتيَّة التي تمتلكها الشعوب المُستهدفة. وبالتالي اتّجهت البوصلة نحو تطوير أشكال الحروب لتلبي الطموحات. وإذا كانت الحروب تخدم أهدافًا سياسيَّة واقتصادَّية واجتماعية وغيرها، لذلك كانت أدواتها تتغير بناءً على إمكانيَّات تحقّق الأهداف وأيّ من الأدوات والوسائل بإمكانه تحقيق الأهداف بأقلّ التكاليف وأعلى النتائج.
 
أنواع الحروب
تعدّدت أنواع الحروب عبر التاريخ، وتعدّدت أدواتها التي كانت تتطوّر من شكل إلى آخر بحسب مقدار تحقيقها أهداف الجهة التي تمارسها. كما تبرز أهميَّة التعرّف على هذه الأنواع أنّها تعطي فكرة واضحة عن تطور الأهداف وتبيين المشاريع التي يسعى إليها أصحابها. ومن الملاحَظ أنّ هذه الحروب كانت تتطوّر في ظلّ أفكار السيطرة والاستيلاء على مُقدَّارت الآخرين وإجبارهم على الخضوع ونفي هويّتهم، عندها يمكن سلب ثرواتهم وتغيير قيمهم وإجبارهم على التحوّل نحو خدمة الآخر المعتدي. ومن الملاحظ، عند مطالعة تاريخ الحروب، أنَّ النصيب الأوفر من تطويرها كان للولايات المتحدّة الأميركيّة التي يُجمِع الباحثون على أنّ مراكز دراساتها كان لها الدور الأبرز في تطوير الحروب وشنّها.

النوع الأوَّل: من هو ما يُعرف بالحروب التقليديَّة وهي أقدم الحروب التي خاضتها البشريَّة بحيث يدور رحاها بين جيشين نظاميّين على أرضٍ واحدة وتكون المواجهة فيها مباشرة وتُستخدم فيها الأسلحة والتكتيكات التقليديَّة.

النوع الثاني: هو ما يُعرف بحرب العصابات، والتي تكون عادة بين جيش نظاميّ من جهة وبين مجموعة غير نظاميَّة تمارس حرب عصابات أو حرب ثوريَّة. تمتاز هذه الحرب بأنّها تقوم على استراتيجيَّات وتكتيكات عسكريَّة خاصّة وإن التقت مع النوع الأوَّل من حيث استخدام السلاح التقليدي.

النوع الثالث: هو ما يُعرف بالحرب الاستباقيَّة أو الوقائيَّة، المقصود منها أن تقوم جهة بشنّ حرب استباقيَّة على جهة ثانية يمكن أن تشكل تهديدًا قوميًّا للأولى. يَسْتخدم هذا النوع من الحروب الأدوات المستخدمة في النوعين السابقين، إلّا أنّه يمتاز بالمباغتة والسرعة والمفاجأة بحيث يكون الطرف المستهدف غير مدرك لما يدور حوله بشكل دقيق.

النوع الرابع: هو ما يُعرف بالحروب اللامتماثلة، تحصل بين جهة عسكريَّة ومجموعات منظّمة تمتلك مهارات قتالية عاليّة بالاضافة إلى امتلاكها قدرات غير عسكرية أخرى بحيث يبرز تأثيرها في استهداف المصالح الحيوية للطرف الأول. وتلعب وسائل الاعلام على اختلافها والمنظمات غير الحكوميَّة والشركات الأمنية دورًا محوريًّا في تحقّق هذا الجيل من الحروب.

النوع الخامس: هو ما يُعرف بالجيل الخامس من الحروب والأكثر تطوّرًا، فيجعل من التناقضات الموجودة داخل المجتمع محورًا أساسيًّا في وجودها ويُعبر عنه بـ "احتلال العقول لا الأرض، وبعد احتلال العقول يتكفّل المحتل بالباقي"[1]. إذًا الجيل الخامس هو الذي يعتمد العنف غير المسلح من خلال إيجاد جماعات متطرّفة وعصابات منظّمة تعمل بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع وتساهم في خلق توترات داخليَّة فيها.  

ورد في تعريف حروب الجيل الخامسfifth-generation warfare أنَّها "حرب يتم إجراؤها بشكل أساسي من خلال عمل عسكري غير حركي، مثل الهندسة الاجتماعية[2] والمعلومات المضلّلة والهجمات السيبرانيَّة إلى جانب التقنيَّات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعيّ والأنظمة المستقلّة تمامًا. وأُشير إليها على أنّها حرب "المعلومات والإدراك"[3].

يهدف هذا الجيل من الحروب إلى استنزاف الدولة ووضعها في مواجهة صراعات داخليَّة. وتُستخدم فيها التقنيَّات الحديثة على أنواعها بِدءًا من السلاح المتعارف عليه وصولًا إلى الحرب الإلكترونيَّة والسيبرانيَّة وتحريك الناس لخدمة أهداف الدولة المعتدية. وقد يتم اللجوء فيها إلى أدوات أخرى كإغراق البلد بالمخدرات والمشاكل الاجتماعيَّة والقوميَّة ما يساهم في ضَعف الجهة المستهدفة[4].

أوَّل من نَظّر لهذا الجيل من الحروب هو الأمريكيّ، وعرضها لأوَّل مرّة البروفسور الأمريكيّ ماكس مايوراينغ وعرّفها أنَّها: "الحرب بالإكراه وإفشال الدولة وزعزعة استقرارها، وفَرْض واقعٍ جديدٍ يراعي مصالح الدولة الأمريكيَّة"[5].

كما يرى البعض أنّ تاريخ الجيل الخامس من الحروب يعود إلى خمسينات القرن الماضي، بحيث بدأ الباحثون تطوير أبحاثهم التكنولوجيَّة والطبيَّة وبالأخص الأبحاث النفسيَّة والعصبيَّة. وإذا كان الباحثون لا يدركون الاستخدامات غير الإنسانيَّة لتطوير هذه الأبحاث، ومن أبرز الذين اهتمّوا بها وكالة الاستخبارات الأمريكيَّة بالتنسيق مع مختبرات الحرب البيولوجيَّة التابعة للجيش الأمريكيّ والهدف من ذلك السيطرة على العقل البشريّ من خلال إجراء تجارب نفسيَّة وحسّيَّة على البشر؛ السلاح المُستخدم هو الانسان[6].

تحدّث صاحب كتاب «حروب الجيل الخامس»، شادي عبد الوهاب، أنَّ المصطلح ظهر نتيجة عوامل عدّة تشمل تراجع احتكار الدولة استخدام القوة المسلَّحة، وظهور التنظيمات الإرهابيَّة وعصابات الجريمة المنظّمة التي تعتمد على القيادة الكاريزميَّة أكثر من اعتمادها على العوامل المؤسسيّة، فضلًا عن اعتمادها على الكيانات الأيديولوجيَّات العابرة للحدود القوميّة في بعض الأحيان[7].

تعتمد هذه الحرب على زيادة الترابط بين المشكلات الاقتصاديّة والتهديدات الأمنيَّة المتأتيَّة من الاعتماد المتبادل في الاقتصاد الدوليّ. وبالتالي أصبحت الإشكالات الاقتصاديَّة، كانقطاع أو وقف إنتاج السلع الأساسيَّة، مصدر تهديد للأمنين الوطنيّ والدوليّ. وتأتي في السياق عينه، ظاهرة صعود الولاءات البديلة، إذ أدت العولمة وتكنولوجيا الاتّصالات والمعلومات إلى زيادة ميل الأفراد نحو نقل ولائهم من الدولة إلى قضايا معينة. وصار كثيرون منهم أكثر ارتباطًا بما يُثار على شبكة الإنترنت، على حساب الاهتمام بالمشاكل الحقيقيَّة لمجتمعاتهم. ويتمثّل مصدر التهديد في تلك الظاهرة بميول بعض الأفراد إلى استسهال التطرّف واستخدام العنف وسيلةً للتعبير عن الرأي[8].

يتحدَّث الأمريكيّ عن مقدار صوابيّته في اختيار هذا النوع من الحروب التي تحقق الأهداف المطلوبة استراتيجيًّا على عكس استخدام أشكال الحروب الأخرى التي تبقى آثارها السلبيَّة واضحة. أمَّا الأدوات التي أشار إليها الأمريكيّ فتتمثّل فيما عبّر عنه بأدوات الإرغام الثلاث أي العقوبات الماليَّة ودعم المعارضة اللاعنفيَّة والعمليَّات الهجوميَّة الإلكترونيَّة. وتبرز أهميَّة هذه الخيارات أنّها تؤثّر على ثقة المجتمعات وتوقع الاضطرابات في الدولة نفسها، وبالتالي يصبح هذا النوع من الحروب خيارًا مفضّلًا للإدارة الأمريكيَّة في مواجهة خصومها[9].

كما تعتمد حروب الجيل الخامس على تكتيكات مختلفة أبرزها حرب المعلوماتيَّة، والتي يمكن بواسطتها نشر الأخبار والمعلومات والأفكار الكاذبة والملفّقة بشكل مخطّط للتأثير على الإدراك. وإذا أضيفت الحرب النفسيّة إلى ذلك يمكن من خلال الجمع بين المعلوماتيَّة والحرب النفسيَّة: التلاعب وتزييف المعلومات والتعتيم الإعلامي والمبالغة والكذب والتضليل وقلب الحقائق، وغير ذلك من الأمور التي تساهم في التغيير المطلوب[10]. 

أسباب ظهور حروب الجيل الخامس
ساهمت الكثير من الأمور في ظهور هذا النوع من الحروب أبرزها: تطور وسائل الإعلام، التي تعد من أهم الوسائل المُستخدمة في حروب الجيل الخامس وذلك إذا تمّ استغلالها في إدارة العلاقات بين الدول، وصناعة رأي عام معارض للسلطة السياسيَّة في الدولة، بهدف إضعاف قدرتها على الضبط والتحكّم في العلاقة بين المجتمع والدولة.

يشير مؤلف كتاب صراعات الجيل الخامس إلى حقيقة مهمة؛ وهي أنَّ التكنولوجيا التي استحضرت العولمة وسهَّلت على بعض الدول بسط نفوذها خارج حدودها، سمحت لمجموعات تأثير مختلفة بالتمكن من مستوى النفوذ نفسه (الفاعلون الجدد من غير الدول)؛ مثل اللوبيات والمؤسّسات الماليَّة والصناعات الحربيَّة وغيرها. كما استطاعت السيطرة على أسواق لم تكن موجودة من قبل، وإلى جانب الصناعات الكلاسيكيَّة فقد استطاعت شركات جديدة السيطرة على قطاع المواصلات والمعلومات وغيرها.
ومن جملة الأسباب أنّ تكلفة استخدام القوة العسكرية عالية جدًا، حيث تعمل على استنزاف القوّة الاقتصاديّة للدول، لذلك عمدت هذه الدول إلى خلق ما يُسمى "الحرب الأقل تكلفة".

يضاف إلى ذلك قدرة الدول على عقد تحالفات، أو ما يعرف بمفهوم "التشبيك" مع كيانات وتنظيمات وأفراد غير حكوميّة لممارسة سلوك عدواني، مستغلّة بذلك التطور الحاصل في دور هذه الكيانات في العلاقات الدوليَّة، مبتعدةً بذلك عن مفهوم التحالفات التقليديّ. وفي هذا الإطار يُشار إلى انّ قضيّة التمرّد على القوى المستعمرة كان واحدًا من مبرّرات اللجوء إلى هذا النوع من الحروب. لذلك فإنّ أوَّل من أدخل حروب الجيل الخامس هي الامبراطوريّات التي عملت على المحافظة على سيطرتها وإخضاع الأنظمة الهشَّة لها للحصول على كافّة ثرواتها ومواردها الاقتصاديّة وغير الاقتصاديّة[11].

الخلاصة
شهدت الحروب تطورًا في أشكالها وأدواتها، ما ساهم في تحقيق الأهداف التي سمّتها الأنظمة المعتدية صاحبة فكرة العولمة والقرية الكونية، ولن يتوقف هذا التحوّل بل سيستمر في إبداع أشكال ونماذج أخرى تأخذ في الحسبان مدى التماسك في قوة المُسْتَهدف الذاتيَّة ومدى حضور قيمه وصلابة معتقداته، ومراكز الدراسات الغربيَّة والأمريكيَّة على وجه التحديد جاهزة لإبداع الخطط الشيطانيَّة في سلب الآخرين استقلالهم وهويَّتهم.

هذا لا يعني العجز عن مواجهة هذه الأشكال من الحروب، بل العكس تمامًا، لأنّ التمسّك بالهويَّة والإصرار على حيازة كل أسباب المناعة والتحصين وإفشال كل الأساليب كفيل بإسقاط هذا النوع من الحروب وغيره، ولنا في تجربة المقاومة الإسلاميَّة في لبنان أفضل دليل، فقد مورست بحقّها ومنذ نشأتها كافّة أشكال الحروب من العسكريَّة الخشنة إلى الناعمة الجذَّابة انتقالًا إلى الأمنيَّة والاقتصاديَّة ومع ذلك كانت تزداد مِنعةً وشموخًا.


[1]  راجع مقال: هل أصبحنا في الجيل السادس، د.أحمد علّو، مجلة الجيش، العدد 405، آذار 2019.
[2] الهندسة الاجتماعية عبارة عن مجموعة من الحيل والتقنيات المستخدمة لخداع الناس وجعلهم يقومون بعمل ما أو يفصحون عن معلومات سرية وشخصية. قد تـُستخدم الهندسة الاجتماعية دون الاعتماد على أي تقنية والاعتماد فقط على أساليب الاحتيال للحصول على معلومات خاصة من الضحية. (ويكيبيديا).
[3] موسوعة ويكيبيديا.
[4] مقال: دور صفحات مقاومة الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي في تصحيح الشائعات المنشورة لدى الرأي العام في ضوء مفهوم حروب الجيل الخامس، د. راللا أحمد عبد الوهاب منصور، المجلة العربية لبحوث الإعلام والاتصال، العدد 131، 2020.
[5] راجع مقال: هل اصبحنا في الجيل السادس، د.أحمد علّو، مجلة الجيش، العدد 405، آذار 2019
[6] راجع مقال: حروب الجيل الخامس والتمويل المشبوه، نعيمة عبد الجواد ، القدس العربي، 7 ايلول 2020.
[7]  حروب الجيل الخامس، د. شادي عبد الوهاب منصور، المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة،2019
[8]  مقال: حروب الجيل الخامس، خالد عزب، صحيفة الحياة، نُشر على موقع مركز المعارف للدراسات الثقافية بتاريخ 11/10/2018
[9]  القدرة على الارغام: مواجهة الخصوم بدون حرب، ديفيد س. غومبرت وهانس بينندك، مركزRAND للدراسات الاستراتيجية، ص 35.
[10]  مقال: دور صفحات مقاومة الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي في تصحيح الشائعات المنشورة لدى الرأي العام في ضوء مفهوم حروب الجيل الخامس، د. راللا أحمد عبد الوهاب منصور، المجلة العربية لبحوث الاعلام والاتصال، العدد 131، 2020.
[11]  كتاب: صراعات الجيل الخامس، اميل خوري، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 216، ص 243 و253.

أضيف بتاريخ: 09/06/2022