مقالات عامة

تحصين المجتمع أمام الافكار الوافدة

تحصين المجتمع أمام الافكار الوافدة

السيد حسين قشاقش

تسعى الجماعات البشريّة عمومًا للحفاظ على ذاتها وخصوصيّاتها من أي ّاختراق أجنبي قد يساهم في زوالها أو انحرافها عن أصل عقيدتها أو رؤيتها الفكريَّة، سواء أكانت جماعة دينيّة أو قوميّة أو سياسيّة  أو غيرها، من هنا نجد بعض المذاهب أو الأديان ترسم إطارًا محدّدًا للتعريف بخصوصيّات جماعتها فيما يعرف بالجماعات أو المذاهب الباطنيّة، وهكذا أيضًا بعض الأحزاب السياسيّة والجماعات القوميّة....

أَولى الدين الإسلامي اهتمامًا كبيرًا بلزوم المحافظة على المجتمع الإسلامي بل الإنساني عمومًا من الشبهات والإضلال، فوضع سياسات وضوابط تساعد في عمليّة صيانة المجتمع من أيّ أفكار وشبهات تحمل ضررًا على المسلمين وغيرهم في المجتمع الإسلامي.
سنسلّط الضوء في هذه المقالة على نوعين من أساليب الإسلام في تحصين المجتمع:
1- نوعٌ يمكن التعبير عنه بالدفاع السلبي وهو عبارة عن منع وحظر نشر الأفكار والشبهات بين الناس فيما تعارف تسميته في الفقه بـ "حرمة حفظ ونشر كتب الضلال".
2- نوع آخر على نحو الدفاع الإيجابي وهو عبارة عن تبيين المعارف الدينيّة للنّاس بشكل يمكّنهم من مواجهة الشبهات أو بالحدّ الأدنى التوقّف في القبول بها وعدم الوقوع ضحيّة لتلك المغالطات.
 
 أوّلًا: حرمة حفظ ونشر كتب الضلال
استدلّ فقهاء الإماميّة على حرمة حفظ كتب الضلال وطباعتها ونشرها وشرائها وبيعها وغيره من أنواع المعاملات وذلك بالأدلّة العقليّة والروائيّة، "فالعقل يحكم بحرمة كلّ عملٍ لا ينتج منه غير الفساد، وحفظ كتب الضلال ليس سوى حفظٍ لمادّة الفساد فيحرم حفظها إذن، وإنّ نشرها ليس سوى نشر لمادة الفساد فيحرم نشرها أيضًا".

أمّا من الروايات فاستدلّوا بمثل الرواية عن الامام الصادق ع "وَكُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ يُقَوَّى بِهِ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْمَعَاصِي أَوْ بَابٌ يُوهَنُ‏ بِهِ‏ الْحَقُ‏ فَهُوَ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَإِمْسَاكُهُ وَمِلْكُهُ وَهِبَتُهُ وَعَارِيَّتُهُ وَجَمِيعُ التَّقَلُّبِ فِيهِ إِلَّا فِي حَالٍ تَدْعُو الضَّرُورَةُ فِيهِ إِلَى ذَلِك"‏[1].

كانت دلالة الروايات على المطلوب محلّ نقاش بين الفقهاء، إلّا أنّ الدليل العقلي محكمٌ، ومفاده حرمة تمكين المجتمع من الشبهات وكتب الضلال ومغالطاتهم بحيث يوقع بعضهم في الريب والشك أو الانحراف، فالمطلوب أن نحافظ على الشريحة الضعيفة من أبناء الأمّة من التأثُّر بهذا النوع من الأفكار.

إلَّا أنَّ الذين يمتلكون القدرة والاستقلال الفكري ويمتلكون ملكة الاجتهاد والقدرة على النقد والتحليل، فإنّ الأفكار المخالفة لن تشكِّل خَطَرًا عليهم، بل هي ضرورية ولا بُدَّ منها لشحذ أفكارهم والتصدّي لها، وهذا مورد استثناء حكم العقل والروايات والفتاوى أيضًا.

هذا لا يعني إغلاق المجتمع أمام الأفكار الوافدة، بل يعني ترشيدًا في مواكبة تلك الأفكار، وتحصينًا لضعاف النفوس وقليلي العلم من الوقوع في أفخاخ هؤلاء ومغالطاتهم، أمّا أهل العلم والتدقيق فلا إشكال في تمكينهم من تناول تلك الأفكار بل قد يجب ذلك كون حصانتهم محقّقة ويُطلب منهم تحصين المجتمع عبر كشف تلك المغالطات والردّ عليها.

وتجدر الإشارة إلى أنّ المقصود في المسألة هو كلّ ما يؤدّي إلى الضلال سواء الكتب أم غيرها، لتشمل حتّى وسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة.

"ثم إن المراد بكتب الضلال كل ما وضع لغرض الاضلال واغواء الناس، وأوجب الضلالة والغواية في الاعتقادات أو الفروع، فيشمل كتب الفحش والهجو والسخرية، وكتب القصص والحكايات، والجرائد المشتملة على الضلالة، وبعض كتب الحكمة والعرفان، والسحر والكهانة، ونحوها مما يوجب الاضلال."[2]

اليوم، ومع تطوّر وسائل التواصل أصبحت مادّة الضلال أوسع وأسهل انتشارًا ولا تقتصر على الكتب والمجلّات بل أصبحت في كلّ منزل من خلال التلفاز وفي متناول كلّ يد من خلال الهواتف الذكيّة، حتّى الصغار منهم، بخاصّة بعد أزمة كورونا التي فرضت التعليم عن بُعد ممّا جعل التواصل ضرورة ملحّة بيد هذه الفئة من الشباب أيضًا.

وتعمد الشركات الإعلانيّة إلى تعمّد بثّ مقاطعها الدعائيّة خلال تصفّح الفرد وبطريقة لا اختياريّة تظهر أمامه المشاهد واللقطات ويبدأ تراكم المشاهد وصولًا إلى الإغراق.

من هنا أصبح العالم في مرحلة لا يمكن معها منع الأفكار الوافدة بطريقة الحظر إلّا نادرًا، ويمكن طرح آليتين مفيدتين للضبط:

1- توعية الأهل على برامج وطرق الاستخدام الآمن لوسائل التواصل والهواتف الذكيّة.

2- أن تقوم الدولة بفرض حظر على المواقع والبرامج الضارّة، وتعمد اليوم بعض الدول كروسيا والصين والجمهوريّة الاسلاميّة في إيران إلى محاولة تصفية الأفكار الوافدة إلى مجتمعاتها عبر وسائل التواصل إلّا أن تأثير ذلك محدود تخرقه برامج كسر الرقابة المختلفة والمتوفّرة بين أيدي عموم الناس.

وعليه لم يعد لهذا الأسلوب فائدة ملحوظة سوى ما ندر وفي أعمار صغيرة، فكان لا بدّ من اللجوء لتعزيز آليّات أخرى أكثر نجاحًا وتأثيرًا، من هنا ننتقل للحديث عن النوع الآخر من سبل المواجهة.
 
ثانيًا: التوعية والتبيين
بناءً على ما تقدّم، فإنّ المطلوب من الأمّة الإسلاميّة -دول وأحزاب وحوزات وجامعات وأفراد) أن يحملوا همّ القضيّة والمسؤوليّة فيعملوا على ابتكار سبل جديدة  لمواجهة الأفكار الضالّة المضلّلة التي يطرحها الأعداء في مختلف المجالات، الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.

سنعمد فيما يلي للإشارة إلى بعض الاقتراحات لتلك الغاية:

1- نشر الوعي من خلال التبيين، ومفاده أن يتمّ تعريف الشرائح الاجتماعيّة المختلفة بخاصّة الشباب على المبادئ والأحكام الدينيّة الإسلاميّة والتحدّيات الثقافيّة والفكريّة الجديدة، فيتمّ اطلاعهم على الإشكالات والمغالطات في القضايا المطروحة وذلك بطريقة ممنهجة، وتعليمهم كيفيّة معالجتها والإجابة عنها، فيكون ذلك أشبه بتطوير جهاز المناعة الذاتي لدى الانسان من خلال تفهيمه ماهيّة الجراثيم وطرق عملها ووسائل علاجها.

2- فتح الباب أمام الشرائح العمريّة والاجتماعيّة المختلفة للنقاش والسؤال والاستفسار والنقد البنّاء، ونقل الجمهور من مرحلة المحاضرة والاستماع فقط إلى مرحلة المشاركة والفعالية.

3- الحفاظ على الأصالة في الخطاب، بعيدًا عن الاستلاب الثقافي، فلا نتنازل عن فكرة أو مبدأ لدينا فقط لأجل استرضاء الآخر وكسب ودّه، بل نقدّم طروحاتنا الإسلاميّة الأصيلة كما هي ضمن خطاب عقلاني معاصر، وإلّا فإنّ الاستلاب الثقافي سوف يخلق مسارات غريبة عن الدين تكون سببًا في الانحراف فيما بعد.

4- الحفاظ على الفطرة السليمة لدى المجتمع، من خلال تأمين الفضاء المعنوي والروحي المطلوب (الإذاعة والتلفزيون ووسائل التواصل الجديد، إحياء المناسبات المختلفة، إحياء السنن والمستحبّات وإفشاؤها،.. ).

5- الالتفات إلى البُعد المعنوي في المواجهة من خلال التوكّل على الله وتقديم المستطاع ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾[3]، واليقين بأنّ كيد الأعداء لن يصل إلى نتيجة مرجوّة ﴿وَمَكْر أُولَئِكَ هُوَ يَبُور﴾[4] 

6- مساعدة عموم الناس في الحفاظ على الدين، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة والموعظة الحسنة، والمساعدة لتأمين وسائل التديّن كتوفير الألبسة الشرعيّة للفتيات، والألبسة اللائقة للشباب، بعيدًا عن إغراءات الموضة التي يروّج لها التجار بهدف الكسب المادّي غافلين عن تأثيرها السامّ في المجتمع.

7- تطوير أساليب التثقيف والتوعية العامّة، كالأفلام والمسلسلات والدراما وغيرها، حيث يجب بلورة أسس الفنّ الإسلامي داخل مجتمعاتنا والاعتناء بالطاقات الشبابيّة وتوجيهها، وأن نبتعد عن الخلط بين القيم الدينيّة وغيرها في هذه المجالات.
 
هذه جملة من الاقتراحات الإجماليّة التي يمكن للأفراد والمؤسّسات والأحزاب الإسلاميّة الانطلاق منها باتجاه تحصين المجتمع معتمدين مبدأ التبيين ونشر الوعي ورفع البصيرة في المجتمع بطرق شتّى وفي مختلف المجالات، وهذا يحتاج إلى روح جهاديّة ثوريّة متجدّدة لا تعرف اليأس والملل، والنتائج ستكون بيد الله ومن تدبيره بإذنه تعالى.
 
والحمدلله ربّ العالمين


[1] وسائل الشيعة، ج17، ص 85
[2] مصباح الفقاهة - السيد الخوئي - ج ١ - الصفحة ٤٠٢
[3] سورة الانفال، الآية 60.
[4] سورة فاطر، الآية 10.

أضيف بتاريخ: 29/06/2022