مقالات عامة

الإسلام دين العلاقة بالآخر

 الإسلام دين العلاقة بالآخر[1]

بقلم الشيخ حسن الهادي

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على رسول الإسلام محمّد(ص) وعلى أهل بيته الطاهرين(ع) وصحبه المنتجبين، وعى الأنبياء والمرسلين، وبعد

مدخل
الإسلام دين الإنسانيَّة ونظامها الشامل في هذه الحياة؛ شمولًا يربط كل جوانب الحياة بعضها ببعض ربطًا عضويًا منطقيًّا ينطلق من واقع الحياة الإنسانيّة ومكوّناتها الأساسيَّة وحاجاتها الحقيقيّة بشتى مستوياتها، وبما يتناسب مع تطلّعات الإنسان في هذه الحياة وسواها من مراحل الحياة الأخرى.

ونظرًا للكينونة الاجتماعيَّة التي ينطوي عليها الإنسان منذ أن فطره الله وبرأه، ونظرًا لأنّه يولد اجتماعيًّا كان الإسلام دين المجتمع كما هو دين الفرد، وكان القرآن كتاب المجتمع الإنساني كما هو كتاب كل فرد من أفراد هذا المجتمع بلا استثناء.

الإيمان علاقة اجتماعيّة:
الإيمان ليس قضية عقديَّة مجرّدة، وليس علاقة شخصيّة بين المؤمن وربه فقط، بل علاقة أخويَّة جماعيّة بينه وبين سائر المؤمنين، ففي الإيمان يتم ربط الفكر بالفعل، والنية بالحركة والسلوك القويم، وبهذا يتكامل أفراد المجتمع الإسلامي في علاقاتهم الاجتماعية والإنسانية تكاملًا معنويًّا إيجابيًا، تذوب أمامه كل أنواع الخلافات والمشاكل أو الاعتداءات التي قد تنخر جسد المجتمع وتهدّم أركانه. قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[2].

والأخوة في الإسلام أخوة نسبية لها آثار في النكاح والإرث، وأخوة رضاعيّة لها آثار في النكاح دون الإرث، وأخوة إيمانية لها آثار اجتماعيّة ولا أثر لها في النكاح والإرث، فإنّ أخوَّة الايمان تشريعيّة، وواقعيّة بدافع الإيمان، يؤمر المؤمن أن يؤصّلها في حياته الجماعيّة لحد لا تبقى بين المؤمنين إلا الأخوة، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِنِ اشْتَكَى شَيْئاً مِنْه - وَجَدَ أَلَمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ جَسَدِه وأَرْوَاحُهُمَا مِنْ رُوحٍ وَاحِدَةٍ وإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصَالاً بِرُوحِ اللَّه مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا" [3].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): " الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ عَيْنُه ودَلِيلُه لَا يَخُونُه ولَا يَظْلِمُه ولَا يَغُشُّه ولَا يَعِدُه عِدَةً فَيُخْلِفَه"[4].

ونفهم الواجبات والحقوق الفردّية والاجتماعيّة المنبثقة عن هذه القاعدة الاجتماعيّة التي يؤسّسها القرآن في الإخوة الاجتماعية في ما روي عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق، حيث يقول: "وحقُّ أخيكَ، أن تعلمَ أنَّه يدكَ الّتي تبسطُها، وظهرُك الّذي تلتجىءُ إليهِ، وعزُّك الّذي تعتمدُ عليهِ، وقوَّتك الّتي تصولُ بها، فلا تتّخذْهُ سلاحًا على معصيةِ اللهِ، ولا عُدَّةً للظلمِ لخلقِ اللهِ، ولا تدعْ نصرتَه على نفسِه ومعونَتَه على عدوِّهِ، والحؤولَ بينَه وبينَ شياطينِه، وتأديةَ النصيحةِ إليهِ، والإقبالَ عليهِ في اللهِ، فإنِ انقادَ لربِّهِ وأحسنَ الإجابةَ لهَ، وإلَّا فليكُن اللهُ آثرَ عندَكَ وأكرمَ عليكَ منهُ"[5].

فإن الأخ هو الذي اتحد بأخيه اتحادًا تامًا، حتى أصبحت يد أحدهما يد الآخر، وعز أحدهما عز الآخر. فالأخ للإنسان يد تبسط، وظهر يستند إليه، وقوة يستعين بها على مناهضة الأيام ومغالبة الخطوب...

والأخوة نعمة من أكبر النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده نعمة؛ لأنّها قائمة على أوثق عرى الإيمان كما في الحديث عن أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام : "مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإيمان أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّه وتُبْغِضَ فِي اللَّه وتُعْطِيَ فِي اللَّه وتَمْنَعَ فِي اللَّه "[6]؛ لأن من تمسك بهذه العروة تكامل إيمانه واستقام لسانه واستقرّ جنانه وبه يتحقق التودد والتآلف بين المؤمنين ويتم ويكمل نظام الدنيا والدين. فهذه العلاقة هي أسمى علاقة وأقوى رابطة يمكن أن تكون في مجموعة من البشر.

وإنّ للأخوّة الدينيّة دورًا رائدًا في بناء الشخصيّة المؤمنة، حيث تساعدها على الاتّصاف بمجموعة من الفضائل وتشعرها بمسؤوليّة كبيرة تجاه الآخر، انطلاقًا من معرفة ما لها من مدلول وعمق في الإسلام، فيعرف الإنسان قدره من خلال معرفة قدر أخيه وما له من حقّ عليه.

مظاهر علاقة المسلم بالأخر في الإسلام
أسّست الشريعة الإسلامية العديد من الأصول التربويّة والاجتماعيّة التي تنظّم علاقة المسلم بالمسلم وغيره من بني البشر، نذكر نماذج منها بالإيجاز ينسجم مع المقام:

1. التكافل الاجتماعي
التكافل الاجتماعي جزء من عقيدة المسلم والتزامه الديني، وهو نظام أخلاقي يقوم على الحب والإيثار ويقظة الضمير والشعور بمراقبة الله عزَّ وجل، ولا يقتصر على حفظ حقوق الإنسان المادية؛ بل يشمل أيضًا المعنوية، وغايته التوفيق  بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد.

وقد عُني القرآن بالتكافل ليكون نظامًا لتربية روح الفرد، وضميره، وشخصيته، وسلوكه الاجتماعي، وليكون نظامًا لتكوين الأسرة وتنظيمها وتكافلها، ونظامًا للعلاقات الاجتماعيّة، بما في ذلك العلاقة التي تربط الفرد بالدولة، وفي النهاية نظامًا للمعاملات الماليّة والعلاقات الاقتصاديّة التي تسود المجتمع الإسلاميّ. ومن هنا فإن مدلولات البر، والإحسان، والصدقة تتضاءل أمام هذا المدلول الشامل للتكافل. قال الله تعالى :{ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.[7] وقد نفى الرسول (ص) كمال الإيمان عن من يبيت شبعان وجاره جائع وهو يعلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم»[8]. وقد عد القرآن الإمساك وعدم الإنفاق سبيلًا للتهلكة، بقوله سبحانه وتعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إنّ الله يحبُّ المُحسنين}[9].

كما عدّ الكنـز وحجب المال عن وظيفته الاجتماعيَّة، مدعاةً للعذاب الأليم. وليس هذا فحسب، بل رتَّب المسؤوليَّة التقصيريّة على الإنسان الذي يعطِّل سبل الكسب وفرص العمل مهما ادّعى الصلاح. وجعل دخول النار في حبس هرة عن طعامها، بل ودخول الجنة في إعانة الحيوان لسدِّ حاجته.

كما وضع القرآن أسسًا نفسيّةً وأخرى مادية، لإقامة التكافل الاقتصاديّ والاجتماعيّ بين أفراد المجتمع الإسلامي. ولعلَّ من أهمِّ الأسس النفسيّة هو إقامة العلاقات الماديّة والمعنويّة على أساس الأخوّة، لقوله تعالى: {إنّما المؤمنون إخوةٌ} [10]. وربط الإيمان باستشعار حقوق الأخ، كما رتَّب على رابطة الأخوّة الحب؛ فلا يؤمن الإنسان المسلم، ولا ينجو بإيمانه، ما لم يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه ويعيش معه كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا. وجعل العدل وحفظ الحقوق من قيم الدين الأساسية، بل نُدب إلى عدم الاقتصار على العدل وهو إحقاق الحق، أو إعطاء كلِّ إنسان حقه من دون ظلم، وإنما الارتقاء إلى الإحسان، وهو التنازل له عن بعض الحقوق. ومن الأسس النفسية أيضًا، الإيثار، وهو عكس الأثرة والأنانية. والإيثار تفضيل الآخر على النفس، من أجل إشاعة جو العفو والرحمة، وهي الغاية التي جاءت من أجلها الشريعة.

2.  إثارة الشعور الاجتماعي
لقد كان إنسان ما قبل الإسلام يتمحور في سلوكه الاجتماعي حول ذاته، وينطلق في تعامله مع الآخرين من منظار مصالحه وأهوائه، وينساق بعيدًا مع أنانيته. ولقد هبط في القاع الاجتماعي إلى درجة «الوأد» لأبنائه، خشية الفقر والمجاعة، الأمر الذي استدعى التدخّل الاِلهي، لإنقاذ النفوس البريئة من هذه العادة الاجتماعيّة القبيحة، قال تعالى: ولا تَقتُلُوا أولادَكُم خَشيةَ إملاقٍ[11]. على أنّ أشد ما يسترعي الانتباه، أنّ ذلك الاِنسان الجاهلي، الدائر حول ذاته ومنافعها، قد غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة، يضحّي بالنفس والنفيس في سبيل دينه ومجتمعه، وبلغت آفاق التحوّل في نفسه إلى المستوى الذي يُؤثِر فيه مصالح أبناء جنسه على منافع نفسه.

وليس بخفيّ على أحد مستوى الإيثار الذي أبداه الأنصار مع المهاجرين، إذ شاطروهم في كلِّ ما يملكون، وحتى في بيوتهم وأمتعتهم، ولم ينحصر هذا المستوى من الإيثار بأفراد، بل شكّل ظاهرة اجتماعية عامّة لم يشهد لها تاريخ الإنسانية نظيرًا، وفي هذه الظاهرة نزل قرآن كريم يبارك هذه الروح، ويخلّد ذكر مجتمع تحلّى بها، كنموذج من نماذج التلاحم الاجتماعي والمؤاخاة.. قال تعالى: لِلفُقَرَآءِ المُهَاجِرينَ الَّذِينَ أُخرِجوا مِن دِيارهِم وأموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِّنِ اللهِ وَرِضواناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذينَ تَبَوَّءُو الَّدارَ وَالإيمان مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إليهِم وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤثرُونَ عَلى أنفُسِهِم ولَو كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ[12].

وينقض الإسلام أُسسًا في البناء الاجتماعيّ الجاهلي قوامها تعزيز التقسيم الطبقي والقَبَلي للمجتمع، الذي كان يتشكّل من طبقتين أساسيتين؛ طبقة الأشراف، وطبقة العبيد، ولا بدَّ لأبناء طبقة الأشراف أن يبقوا هكذا، تجتمع لديهم الثروات ويحتكرون الشأن والوجاهة، ولابدَّ لأبناء طبقة العبيد أن يبقوا هكذا يدورون في فلك الأسياد.. فقوّض الإسلام هذه الأُسس وأقام محلّها أُسسًا جديدة تساوي بين الناس في حق الحياة وحق الكرامة، قال تعالى: يا أيُّها الناسُ إنّا خَلقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعَلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقاكُم[13]، فتحرّر أبناء طبقة العبيد ومارسوا حقّهم في الحياة، وارتفع عمار وسلمان وبلال عالياً فوق طبقة أشراف قريش...

3.  تنمية الشعور الجماعي
تربّي العقيدة الاِنسان المسلم على الشعور الاجتماعي، شعور الفرد نحو غيره، فيتجاوز دائرة الذات إلى دائرة أرحب هي دائرة العائلة، ثم تتّسع اهتماماته لتشمل دائرة الجوار، ثم أبناء بلدته، وبعدها أبناء أمّته، وفي نهاية المطاف تتّسع لدائرة أكبر فتشمل الإنسانية جمعاء.

وفي هذا الصدد، نجد الكثير من الأحاديث التي تحثُّ الفرد على الانضمام للجماعة والانسجام معها، والانصباب في قالبها، بعد أن ثبت عند العقلاء بأنّ في الاجتماع قوة ومنعة، وبعد أن أكّد النقل على أنّ الله تعالى قد جعل فيه الخير والبركة، يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «يدُ الله مع الجماعة، والشيطان مع من خالف الجماعة يركُضُ» (1). و «من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (2)

وفي كلِّ ذلك دليل قاطع على أنّ الإسلام دين اجتماعي، يحاول ربط الفرد بالجماعة، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا وأنّ العقيدة تدعو الاِنسان المسلم إلى الانضمام إلى الجماعة.

4.  تغيير نظم الروابط الاجتماعيّة
 كان المجتمع الجاهلي يرى رابطة الدم والرحم أساس الروابط الاجتماعية، فيضع مبدأ القرابة فوق مبادىء الحق والعدالة في حال التعارض بينهما، والقرآن الكريم قد ذمَّ هذه الحمَّية الجاهلية صراحة: إذ جعلَ الَّذِينَ كَفرُوا في قُلُوبِهِم الحَمِيَّةَ حِميَّةَ الجَاهِلِيَّةِ..[14].

وقد عملت العقيدة على إزالة غيوم العصبية عن القلوب، ولم تقرَّ بالتفاضل بين الناس القائم على القرابة والقومية أو اللّون والمال والجنس، بل بدلًا من ذلك أقامت روابط جديدة على أسس معنويَّة هي التقوى والفضيلة. وعليه فالعقيدة تنبذ كلّ أشكال العصبية، إذ لا يمكن التوفيق بين الإيمان والتعصّب. روي عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: «قال رسول الله (ص): من تعصّب أو تُعصّبَ له، فقد خلع ربقة الإيمان من عُنقه»[15].

وفي هذا المجال يوضح الإمام زين العابدين(ع) مفهوم العصبيّة، وما هو المذموم منها، عندما سُئل عنها، فقال عليه السلام: «العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيرًا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظّلم»[16].

وهكذا نجد أنّ العقيدة قد عملت على قشع غيوم العصبية السوداء من القلوب، وقامت بتشكيل هوية اجتماعيّة جديدة للناس تقوم على الإيمان بالله ورسوله، وإشاعت مشاعر الحب والرّحمة بدلًا من مشاعر التعصّب والكراهيّة، فالعصبيّة التي تعني: مناصرة المرء قومه، أو أسرته، أو وطنه، فيما يخالف الشرع، وينافي الحق والعدل. هي من أخطر النزعات وأفتكها في تسيّب المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف طاقاتهم الروحيَّة والماديّة، وقد حاربها الإسلام، وحذّر المسلمين من شرورها.

ولم يكن من اليسير أن يتم هذا التحوّل الكبير في أفكار الناس وعلاقاتهم، في هذه الفترة القصيرة من عمر الرسالة، لولا الدور التغييري الكبير الذي اضطلعت به العقيدة الإسلامية.

5. الحث على التعاون والتعارف
نقلت العقيدة أفراد المجتمع من حالة التنافس والصراع إلى حالة التعارف والتعاون. والقرآن مصدر العقيدة الأول، يحث الناس على الاجتماع والتعارف، قال تعالى: يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكم مِن ذَكرٍ وأُنثى وجَعلنكُم شُعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمَكُم عند اللهِ أتقكُم...[17]

فالأصل في دين الإسلام أنه دينُ تجمّعٍ وألفة، لا دينَ عزلةٍ وفرارٍ من تكاليف الحياة، ولم يأت القرآن ليدعو المسلمين إلى الانقطاع في دير، أو العبادة في صومعة، بعيدًأ عن مشاكل الحياة ومتطلّباتها. بل إنّ نزعة التعرّف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليم هذا الدين[18].

فقد بيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الفضل لمن خالط الآخرين وتعرَّف عليهم ولم يتقوقع على نفسه، وذلك في قوله: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط  الناس ولا يصبر على أذاهم"[19].

كما حثَّ القرآن الناس على التعاون، قال تعالى: وتعاونُوا على البرِّ والتّقوى ولا تعاونوا على الاِثمِ والعُدوانِ.. [20].

وقد أثبتت تجارب البشرية أنّ في التعاون قوة، وأنّه يؤدّي إلى التقدّم، وكان المجتمع الجاهلي متخلّفًا، يعيش حالة الصراع بدافع العصبيَّة القبليَّة، أو طغيان الأهواء والمصالح الشخصيَّة، أو بسبب احتكار البعض لمصادر الكلأ والماء، فانتقل ذلك المجتمع، بفضل الإسلام، إلى مدار جديد بعد أن تكرّست فيه قيم التعاون والتكافل الاجتماعي.

وهكذا نجد أنّ مسألة التعاون والتضامن، تتصدّر سُلَّم الأولويَّات في اهتمامات الإسلام الاجتماعيّة؛ لكونها الضمان الوحيد والطريق الأمثل لإقامة بناء اجتماعي متماسك تغيب فيه عوامل الصراع والتناحر، وتسود فيه عوامل الودّ والأُلفة. والذي يثير الدهشة ويبعث على الإعجاب أنّ المجتمع العربي الجاهلي الذي كان ممزقًا، ولا تُقيم له الأُمم وزنًا، غدا بفضل الرسالة الإسلاميَّة موحّدًا، مهاب الجانب، ذا عزّة ومنعة، يقول الإمام علي عليه السلام: «.. والعرب اليوم وإن كانوا قليلًا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع..»[21].

وهذا ما ساهم كثيرًا في تغيير العادات والتقاليد الجاهليَّة، يقول العلاّمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره: «إنّ الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعيَّة، وأنَّ هذا الدافع أصيل في الإنسان؛ لأنّه ينبع من حبه لذاته، وهنا يأتي دور الدين، بوضع الحل الوحيد للمشكلة، فالحل يتوقّف على التوفيق بين الدوافع الذاتيّة والمصالح الاجتماعيّة العامة»[22].

6. أصالة الخطاب والتواصل الإيجابيّ بالكلمة الطيبة
لقد عُنيَ القرآن الكريم بأدب الخطاب، فالناظر في سوره وآياته، يجده شديد الحرص على الأسلوب الذي يُؤدَّى به الكلام، والطريقة التي يُطرح بها، ويجد أنَّه كثيرًا ما يُوجِّه نحو الكلمة الطيبة والقول الحَسَن في مناسبات شتَّى.

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾[23].

فالكلمة الطيبة نفحة روحانيّة تصل ما بين القلوب وتربطها برباط المودّة والتآلف. أما الكلمة الخبيثة فهي معول للهدم والتفريق، يعمل تخريبًا في أوصال المجتمع فيهدّ كيانه. والكلمة الطيبة تُزهر في النفس لتتفتّح بأجمل أزهار الخير والحب التي يعبق شذاها فوّاحًا في كلّ زمان ومكان. والكلمة الخبيثة نتنة الرائحة، تصدر عن بُؤَرٍ نفسية عفنة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ما أثمره القول اللين من نجاح دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأثيرها في الناس. قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فظًّا؛ خشن الكلام، ولم يكن غليظ القلب؛ أي قاسيه وشديده. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم رفيقًا داعيًا إلى الرفق، فقال: مَنْ يُحرم الرِّفقَ يُحرم الخير.
 
ختامًا، وتأسيسًا على ما ذكرناه من أصول تربويّة واجتماعيّة كفيلة ببناء مجتمع متكافل، يحفظ حقوق بعضه البعض، ويحرص على ممارستها والعيش في ظلّها، والتربية عليها؛ لا بدّ من الإلفات إلى أنّ هذه التشريعات الإسلاميّة الاجتماعية تتّسع لتشمل العلاقات الإنسانية بين بني البشر؛ لأنّ الروابط التي تجمع بين الناس كثيرة، فمن رابطة الدم، إلى رابطة الفكرة والمبدأ، ورابطة العمل والوظيفة، ورابطة الصداقة والصحبة، ورابطة الجنس والعرق، والرابطة التجارية والاقتصاديّة، ورابطة العقيدة التي تُعدّ من أقوى الروابط وأمتنها. ولكن قوّة رابطة العقيدة، لا تعني أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لا يدور إلا في نطاقها، ولا يشمل التعامل مع أصحاب العقائد الأخرى من غير المسلمين، بل إنَّ أدب التعامل يتسع ليشمل الإنسانية كلَّها.

فالتعامل الحسن؛ هو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية ويكون مع كل البشر. أما الولاء فهو بين المسلمين خاصة. ولعلّ ما ورد في سورة الممتحنة، هو من أوضح الآيات التي تميز بين الولاء وبين البرّ وحُسن التعامل، يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[24].
إنَّ قضية التعامل مع الآخرين هي قضية بالغة الأهمية والخطورة، وقد جعل الإسلام الالتزام بالدين في قسمٍ كبيرٍ منه، متوقفٌ على الأدب وحسن المعاملة. ومن منطلق هذه الأهمية، جاء القرآن الكريم ليضع لنا المناهج القويمة والأسس السليمة للتعامل مع الآخرين كونه موضوعًا أساسيًّا من موضوعات هذا الدين.

وإذ كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهي الذي أدب الله سبحانه به أنبياءه ورسله(عليهم السلام) هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته، وهو العبودية على اختلاف الأديان الحقة بحسب كثرة موادها وقلتها وبحسب مراتبها في الكمال والرقي.

والإسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لا يشذ عنه شيء من شؤونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدبًا، ورسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.

وليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعًا، أي أن يعتقد الإنسان أن له إلهًا هو الذي منه بدأ كل شيء وإليه يعود كل شيء، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، ثم يجري في الحياة ويعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته وعبودية كل شيء عنده لله الحق عز اسمه، وبذلك يسري التوحيد في باطنه وظاهره، وتظهر العبودية المحضة من أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهورًا لا ستر عليه ولا حجاب يغطيه. فالأدب الإلهي - أو أدب النبوة - هي هيئة التوحيد في الفعل [25].
يقول الإمام علي (عليه السلام): "الآداب حُللٌ مجدّدة"[26]. ومعنى كلامه (عليه السلام) أن الآداب حُللٌ مجدّدة "أي لا يبلى، بل يزداد بكثرة التجارب والممارسة كلّ وقت جدّة. وعنى بالآداب هاهنا آداب الشرع التي هي مكارم الاخلاق" [27].
والمحصل من كلامه كما أنّ الشخص يتزيّن بالحلل كذلك يتزين بالآداب مثل العلم وما يتبعه من حسن المجاورة والمعاشرة وأمثالها.

فحسن الخلق والأدب مع الآخرين مهما كان الطرف الآخر اشتركت معه في الدين أو المذهب أو الإنسانيَّة أو لم تشترك؟. دليل على رزانة العقل وبعد النظر وأما إذا كان عكس ذلك فهو دليل على الحمق ونقصان العقل.

وعليه فإنّنا إلى المؤسّسات التعليميَّة الدينية والأكاديمية والباحثين المتخصّصين للقراءة الأصيلة لهذه الأصول الاجتماعيَّة والتربويّة، والتعاون في تسييلها في المناهج والبرامج التعليميّة والتربويّة والإعلاميّة...، لنتمكّن من بناء جيل جديد، وتربيته على أصول التكافل والتعاون والمحبة والمودة والإيثار والتضحية...، وفهم الاختلاف وترشيده، لنبني مجتمعًا حضاريًا يشعر بالعزة والكرامة والترابط الأخوي وفق المفهوم القرآني.

 يريد الإسلام أن يحكم المجتمع أمن مطلق، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضًا فحسب، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم السيّئ أيضًا... وأن يحسّ كل منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال الاتهامات في عقيدته وأفكاره. وهذا الأمن لا يمكن تحقّقه إلّا في مجتمع رسالي مؤمن. يقول النّبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم في هذا الصدد: "إنّ اللَّه حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنّ به السوء".
 
والحمدلله رب العالمين


[1]  حسن أحمد الهادي، عضو الهيئة العامة في تجمع العلماء المسلمين.
[2] سورة الحجرات، الآية 10
[3] الكافي، الكليني، ج2، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، ح4، ص 166.
[4] الكافي، الكليني، ج2، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، ح3، ص 166.
[5] تحف العقول عن آل الرسول ( ص )، ابن شعبة الحراني، رسالته عليه السلام في جوامع الحقوق، ص 263.
[6] الكافي، الكليني، ج2، باب الحب في الله والبغض في الله، ح2، ص 125.
[7]  سورة البقرة، الآية215.
[8]  الكليني، الكافي، ج2، ص 668.
[9]  سورة البقرة، الآية 195.
[10]  سورة الحجرات، الآية10.
[11] سورة الإسراء، الآية31.
[12]  سورة الحشر، الآيتان8-9.
[13] سورة الحجرات، الآية13.
[14]
[15]
[16] اُصول الكافي 2 : 308 | 7 باب العصبية كتاب الايمان والكفر.
[17]  سورة الحجرات، الآية13.
[18]  ينظر: خلق المسلم، محمد الغزالي، ص172.
[19]  مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، علي الطبرسي، الفصل الثاني: في آداب المعاشرة، ص 337.
[20]  سورة المائدة، الآية2.
[21] نهج البلاغة، صبحي الصالح : 203 | خطبة 146.
[22] اقتصادنا ، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر : 324 ط11 ـ دار التعارف للمطبوعات .
[23]
[24]  سورة الممتحنة: الآيتان: 8- 9.
[25] ينظر: تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج6، كلام في معنى الأدب، وهو بحث تفصيلي حول الأدب الذي أدب الله به أنبياءه ورسله عليهم السلام ويقع في عدة فصول، ص 256-  297.
[26] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 40.
[27] معارج نهج البلاغة، علي بن زيد البيهقي، ص 399.
  

أضيف بتاريخ: 04/08/2022