مقالات عامة

بين الهزيمة والانتصار في قصص فلسطينيّة قصيرة

بين الهزيمة والانتصار في قصص فلسطينيّة قصيرة

الكاتبة نجوى الموسوي

مقدّمة:
يرى النقادُ الأدب تعبيرًا عن حياة المجتمع، وما فيه من نُظُم وقضايا وأوضاع وأفكار. ذلك "إنّ الأديب لا يسقط على مجتمعه من السّماء، وإنّما ينشأ فيه ويصدر عنه، يصدر عن كل ما رأى فيه وأحسّ وسمع، ناسجًا مادّته من مسموعاته وإحسّاساته ومرئيّاته"[1]. وتتبدّى بين قضايا الأدب الفلسطينيّ المقاوم وقضيّة الانتصار علاقةٌ  يُتوقع أن تبرز تجليّاتُها ضمن فضاءات القصص القصيرة. سيبحث هذا المقال الإشكاليّة الآتية: هل شكّلت قضيّة الانتصار تجديدًا في الأدب الفلسطينيّ؟ ومنها تساؤلات: كيف برزت مفاهيم الانتصارات بعد الهزائم في القصّة القصيرة الفلسطينيّة؟ وما هي علاماتها؟ وإلى أي معاني تشير؟

هنا بحث للإجابة اعتمادًا على المنهج السّيميائيّ؛ والسّيميائيّة هي دراسة حياة العلّامات (أو ما يسمّى بالأيقونات أو الرّموز أو الإشارات الموجّهة)، إنّها "علم متخصّص في دراسة ولادة المعنى داخل المجتمع"[2].

الكلمات – المفاتيح: الإشارة، الدّال والمدلول، الانتصار.

أحداث مؤثرة في القصة الفلسطينية القصيرة
طمح القاصّ الفلسطينيّ لإيصال صور قضيته للعالم؛ واتّخذ القصّة وسيلة فنيّة تحاكي كلّ نفس إنسانيّة، أينما وجدت وتؤثر فيها؛ فما دام الأدب العالميّ "هو كّل أدب خاصّ استطاع اختراق حدوده الجغرافيّة ليعانق رؤى إنسانيّة تتّسم بالشموليّة"[3]،  فقد باتت القصّة الفلسطينية من أقدر أنواع  هذا الأدب على التّأثير. فقد تجلّى مصطلح "الأدب المقاوم" بوضوح، في الأدب الفلسطيني، وخصوصًا عند القاص "غسان كنفاني"؛ إذ يقول: "إذا كان التّحرير ينبع من فوّهة البندقيّة، فإنّ البندقيّة ذاتها تنبع من إرادة التّحرير، وإرادة  التّحرير ليست سوى النتاج الطبيعيّ والمنطقيّ والحتميّ للمقاومة في معناها الواسع"[4].

لقد كانت الهزائم العسكريّة العربية أعمق من أن تُنسى أدبيًا، بدءًا من الهدنة /أيّار 1948، إلى نكسة العام 1967، لكن مواقف حقيقيّة نشأت في المجتمع الفلسطيني في الداخل والشّتات، تبدّت صورًا ورؤى في القصّة القصيرة. وراحت تتطوّر منذ حضرت أحداث النّصر على مسرح حياة الفلسطينيّين، ومنها: الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى (1987- 1993)، ثمّ الانسحاب المرحلي من لبنان (1998 والعام 2000)، ثم تحوّل الانتفاضة إلى مواجهات مسلّحة في 28\9\ 2000، ثم تحقق الانتصار في حرب تموز 2006 في لبنان.. ثم جاءت في إثره عمليّة الرصاص المسكوب (الحرب على غزة 2008-2009)؛ إذ "وُضع الاحتلال أمام تهديد عسكريّ متغيّر وأمام تحدّيات عسكريّة وسياسيّة جوهريّة بمواجهة هذا التهديد الذي هو في تزايد مستمرّ، كما قال رئيس شعبة الاستخبارات الصهيونيّ "عاموس بادلين"[5].

المدوّنة المدروسة، في هذا المقال، هي قبسات من نصوص كاتبين قاصين فلسطينيين مختارةٍ من ثلاث مجموعات قصصيّة لـ"أكرم هنيّة" (عندما أضيء ليل القدس، السّفينة الأخيرة الميناء الأخير، ودروب جميلة)، ومن ثلاث مجموعات لحسن حميد (أحزان شاغال الساخنة، وقرنفل أحمر لأجلها، والعودة إلى البيت).
 
قصص قصيرة فلسطينية معاصرة بين الهزيمة والانتصار

1- من قصص أكرم هنيّة[6].
  تروي  قصّة "بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل"[7]، أنّ القدس أصبحت يومًا بلا صخرة وبلا أقصى. يصحو أهل المدينة صباحًا ويُفاجأون؛ "الصخرة انسرقت يا ناس، الصخرة راحت"[8]. تُطرح أسئلة كثيرة عن مصيرها وردود الفعل الدوليّة والرسميّة. فيتوالى السّرد عن ردود شعبيّة إزاء ما حدث عبر أربع فئات من النّاس، بحسب ما تعني القدس لهم. وبغض النّظر عما تعنيه رمزية "أيقونة الصخرة" في القدس، ففي هذا الحدث "سمة" اصطناعيّة؛  فاختفاء الصخرة يوحي بأنّه مؤشر لنتيجة ما يفعل الاحتلال حولها، أو لانشغال النّاس عنها، حيث عجز بائعات الخضار والعاملين في المصانع "الإسرائيليّة" والمسّن المصلي أربعين عامًا في الأقصى والرجال الهاجسين بالهجرة عن إيقاف الكارثة، حتى أنّ الصخرة التي فُقدت والأقصى المختفي في خطاب الشخصيات يعبّران عن نسيانها وتجاهلها سنوات طويلة؛ فبالنسبة إليهم حتى الأزقة والدروب الحجرية "لم تعد تحمل الإيحاءات والمعاني نفسها"[9].

السّمة الاصطناعيّة "تنصرف إلى كثير من المظاهر التّعبيريّة أو التّبليغيّة التي منها اللّغة اللفظيّة والرّسوم والأشكال والإشارات الصّوتيّة، ويكون لها في مألوف العادة بثٌّ قصديّ"[10]. من هنا؛ يمنح تخيّل شكل القدس بلا الصخرة في القصة ذلك البثّ القصديّ، كأنّ الحدث إشارة صوتيّة أو كأنّ المشهد لوحة مُحي منها الجزء الأهمّ، الذي كان يحمل قدسيّة ما فكأنها انتزعت في القصة مع غرق النّاس في ذكريات حياتهم الخاصة.

 قصّة "عندما أضيء ليل القدس"[11]- في مجموعة أخرى للكاتب- تحكي عن لمعان ما يلوح للمقدسيّين، عبر رمز رجل الضوء. ومفردة الضّوء من ناحية التّحليل السّيميائيّ الثقافيّ  تشير للأمل وإشراقة اليسر بعد العُسر. وقد جاء ذلك الرّجل وسط تكاثف العتمة حول النّاس، ومثّلهم الكاتب بشرائح  مجتمعية عدّة، وكأنّ الضّوء الذي رأوه كناية عن أمل ما لهم، وكلّ راح يفسّره بحسب حياته الاجتماعيّة. ولقد تزامن إصدار القصّة مع عهد انطلاق المواجهات والعمليّات المقاوِمة في جنوب لبنان للمحتلّ "الاسرائيليّ"، مع كل ذلك. ومع أنّ المكان هو القدس التي "تمثّل الرمز للوجود العربيّ والفلسطينيّ عبر امتداد التّاريخ"[12]، لكن الأسى يداهم من شاهد الضّوء؛ فنهاية هذا الكائن تجيء بقتله على أيدي المحتلّين، ما يعطي إحالة إلى الهزيمة واليأس.
 من ناحية ثانية؛ يشكّل وجود أطفال رأوا رجل الضّوء إشارة إجتماعيّة، كأنّ لا مستحيل مع أجيال تولد وتكبر وقد تحتفظ بهذه الذكريات لتغيّر زمنا آتيا وتنتصر، إلّا أنّ زمن القًص (1985) جاء في لفظة "اللّيل"، وفيها سيمياء الحقبة الّسوداء والموت المؤقّت وهو التّعبير عن السّكون والجمود والرّكود. استُخدمت هذه اللفظة موحية بامتداد السّواد والتّشاؤم لواقع أليم، فرجل الضّوء كأمل وحيد لاح للماضي والحاضر والمستقبل انتهى وقُتل. وإنّ علامة حدث القتل للضّوء أشارت إلى مفردات الهزائم بقتل الأمل الذي لاح حتّى عندما أضيء ليل القدس، فعاد وأظلم؛ ما يضفي الحزن واليأس والضّعف.

نأتي إلى مجموعة " دروب جميلة"[13]/ الصادرة 2007؛ فالمتوقّع من هذا العنوان أن نقرأ عن دروب أينع فيها فرح وأمل ونصر.  و"العنوان علامة دالّة على النّص، وخطابا قائما بذاته، .. وهو أيضا شبكة دلاليّة يُفتح بها النّصّ. ويؤسّس لنقطة الانطلاق الطبيعيّة فيه، والعنوان بوحيٍ من الكاتب يهدف إلى تبئير انتباه المتلقّي على اعتبار أنّه تسمية مصاحبة للعمل الأدبيّ مؤشّرة عليه"[14]، ولكنّ السّرد في نصوص من المجموعة جاء عن دروب عذابات وألام وطنيّة وشخصيّة ونهايات مأساويّة غالبًا تنتهي بالقتل أو الموت.

في  قصّة "زمن حسان" الذي يولد على الحاجز بعد انتفاضة الأقصى العام 2000م،  يركّز الراوي على مآسي الفلسطينيين والآلام والإذلال على الحواجز التي تفصل بين مدنهم المحتلة، وفي حين يتوقع أن تكون هذه المآسي حافزا ومحرّكا لفعل النّهوض والتحرر؛  فإنّ السرد يركّز على مشاعر القيمة الإنسانيّة ويقدمها جامعة بين حسّان وعدوّه حيث يصل في خاتمة القصة إلى أن كلا منهما رمى السلاح ولم يواجه الآخر.  

    لوهلة يبدو السّرد وفق منظور رافض  للحواجز وأسبابها من خلال تبيان عذاباتها؛ إلّا أنّ "حسّان" يكبر بشكل خاطف في الحكاية، وينجب أولادًا - جيلًا جديدًا - على الحاجز المتحوّل إلى منطقة سكنيّة، يبيّن أن المشكلة تحوّلت إلى فرصة، خصوصًا مع العيش في تواصل مع جندي الاحتلال المسمّى في القصة "حارسا". ثم  يُسوّغ الرّاوي  لهذا "الحارس" عمله، وكأنّه يضيء على جانب من إنسانيّته، لكن من زاوية الغاية تسوّغ الوسيلة، فغاية تنفيذ الأمر العسكري، هي التي  تدفع المحتلّ على الرّغم من إحسّاسه الإنساني لتنفيذ أوامر قياداته، وهذا واضح من خلال عبارة " كان يريد أن يترك أمّه تمرّ لكنها الأوامر!".

لا نتجاهل، من ناحية ثانية، أنّ السّارد  قد صوّر " واقع القمع والملاحقة في العالم العربيّ، وبيّن موقفه السّلبيّ من تلك الأنظمة، وورد عنده الفرح، في صورة "استرداد" مدينة غزّة التي  يصوّرها "كطائر خرج للتوّ، من القفص وأخذ يصفّق بجناحيه"[15]، لكنّ القيام اختلط بتردّد حسان واستسلامه للمهادنة والتعايش مع المحتل.

    وبالاستناد إلى " تحليل العلامات أو السّمات الذي يعتمد على علم الدّلالات المتعدّدة والمتداخلة لنصّ معيّن في كثافة رموزه وإشاراته المتنوّعة."[16]، تأتي  قصّة "كان ذلك قبل موتنا" (في مجموعة أكرم هنية) لتقدّم  لنا دلالات التفاوض والمقاومة مدموجة. فالاثنين: السّجّان السّائر في ركاب أوسلو، والسّجين المعارض للسلطة والاحتلال، كلاهمّا  يُقتلان في قصف "سجن نابلس المركزيّ". ربما أراد السرد أنّ العدوّ لا يعرف  حليفا من مناوىء، أو أن يستنكر الخلاف بين الأطراف الفلسطينية. لكنّه في السّياق أعطانا رمزًا مكثفًا للحتف الذي سيلقاه الثّاني برغم كلّ مقاومته، ما يثبت مأساة هزيمة مختلفة من مآسي الفلسطينيين تُختصر بتأخر المقاوم والمسالم عن اللقاء وموتهما على حدّ سواء: "تلاقت عيوننا للحظة. كان ذلك لحظة موتنا"( ص37).

2- من قصص "حسن حميد"[17]
    إنّ العناوين عموما هي "عبارة عن أنظمة دلاليّة سيميائيّة، تحمل في طيّاتها قيما أخلاقيّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة، هي رسائل مصكوكة مضمّنة بعلامات دالّة" [18]. من هنا؛ نرى إلى عناوين مجموعة "أحزان  شاغال السّاخنة"[19]، حيث تدلّ صفة "السّاخنة" على أنّ أحزان اغتصاب فلسطين لازمت شاغال "المحتل" ساخنة حامية، أي لا تزال المعركة مفتوحة. وفي "تلويحة للغياب تلويحة للضّوء" تبرز تقاطبات بين الهزيمة والانتصار، بدءًا من لفظة تلويحة لها مدلول وداع الغياب، إلى تلويحة الضّوء الدّال على الأمل وسط اليأس، وصولا إلى يا مرحبا باللي جاي الحاملة لإيقاع التّراث في أغاني الفرح واستقبال العائدين.  

في قصة "بائع الخبز اليابس" إشارات لمواسم الألم والتشرد، يقول الرّاوي: "مددت جسدي تحت البطانيّات الثّلاث التي أحتفظ بها كآخر تذكار من هيئة وكالة الغوث الدّوليّة" (ص15)، ولكنّه في القصّة نفسها وفي الصفحة التالية مباشرة ( ص )16 يقول: "أنا عبد الحيّ صالح، ستّون عاما أو أكثر.. لا بواريد اليهود أخافتني، ولا ضباع وادي النّسناس".

في هذه العلامات دلالة ثقافيّة بدءًا من الاسم "عبد الحي، إذ فيه معنى الأزليّ الحياة بلا يموت. والشخصيّة المرسومة هي شاهد على أزمات آنفة، ولاحقة،  تشي بها الفقرات. إذا، فعبد الحيّ هو ابن القضيّة الفلسطينيّة التي صُوّرت "حيّة" لا تموت، مهما مرّ عليها الزمن، (ما يقرب ستّين عامًا بحساب زمن كتابة القصّة)، ما دام  هو عبدا، وربّه حيّا لا يموت؛ ثمّ يأتي اسم "صالح" كصفة لهذا الإبن والعبد، فتُظهر الصفة كيف يقرن الصّلاح ببقاء حياة القضيّة الفلسطينيّة حياةً نابضة تجعل حاملها مستمرّا في خلع ربقة الخوف "فلا ترهبه بواريد المحتلّين كما لا تخيفه ضباع وادي النّسناس". ووادي النّسناس هو حيّ في مدينة "حيفا" المحتلة، مرّ بهزّات عنيفة وهجّر أهله منه، وبقي منهم ثلاثة ألاف من أصل سبعين ألف فلسطينيّ.

بالاستناد إلى تحليل الرموز، نجد في كلمة "ضباع" كناية عن المحتلّين الهادمين والمهجِّرين لحيّ وادي النّسناس الحيفاوي، أو رمزًا للعملاء المتكسّبين من قتل مواطنيهم. وما يعزّز هذه الفكرة هو ما يتّصف به رمز الضّبع فهو ليس سبعًا متوحّشًا، وحسب (أي كناية عن عدوّ غاصب)؛ بل من الحيوانات التي تخرج ليلا للصّيد، وتعتاش أيضا على الجيف، وبقايا صيد الحيوانات الأخرى، له أصوات بشعة ومرعبة ورائحة كريهة كذلك، ولعلّ ذلك كناية عن اعتياش العملاء على ما يرميه لهم العدوّ، أو لحم إخوانهم.

في  قصّة "تلويحة للغياب تلويحة للضوء"، إشارات عوامل الهزيمة كالإعلام الكاذب، إذ يقول على لسان العمّ قسّومة: "وفي برهة الهدوء.. اقتاد العجوز طوله، ومضى نحو النسوة الهاجعات، وهناك قبض على خطاه، وتمتم: قتلتنا الإذاعات هذه المرّة" ص41؛ ولكنّه هذه المرّة مع كلّ الحزن والأسى والقتل يُنهي القصّة في الموقع والمكان الذي شهد فيه العمّ قسّومة الجريمة، بعبارة "وظلّ في وقفته تلك يرى ويسمع، وينزف دمًا ولم يسقط" . 

في  قصّة : "يا مرحبا باللي جاي" تظهر المفارقات الزمنيّة في الاسترجاع لتدلّ على  تسلسل لأفعال المحتلّين لمّا يتوقّف؛ حيث انتقلت أم رشيد للعيش في المقبرة منذ سنوات؛ بدأ القصّة بخبر قتلها للّضابط الآن، ثم يسترجع زمنيًا، كيف قُتل أولادها وهم ينشدون نشيد الصّباح اقتحمهم رصاص الخواجات.. وأيديهم قابضة على حقائبهم الملأى بالدفاتر والكتب والأقلام وعروسات الزيت والزعتر واللبنة والمقدوس.. يومذاك لم يقرأوا أو يكتبوا حرفًا واحدًا، ولم يأكلوا لقمة واحدة أيضًا.. لقد افترشوا أرض باحة المدرسة الترابيّة قسرًا، وسال دمهم.. وباتوا خلال لحظات كتلة من اللّحم وسط بحيرة صغيرة من الدّم الأحمر الطريّ"(ص 74)، ثم يروي  أيضا كيف قتل الضابطُ أبا رشيد. وبعد كلّ هذه التّسلسلات نصل إلى زمن  تقول فيه أم رشيد قولتها: "آتية آتية يا حجي، حالة واعتدناها. ويا مرحبا باللي جاي" ص 77 .

    إنّ الاسترجاع هنا يبطل تلك الجدليّة التي تبناها كثيرون، فتحسمها أم رشيد، لأن اعتداءات المحتلّ ليست ردّ فعل،  وهي بكلّ الأحوال واقعة سواء قاوم الفلسطينيّون أم لم يحرّكوا ساكنا. والزمن يفتح النافذة على مثل أمثال العرب وتقاليدهم الشّعبية  "والبادي أظلم" وانتصارٍ لأهزوجة تراثيّة "يا مرحبا باللي جاي". وعلى صعيد المكان "فالسّاقية" هي علامة تدلّ على مفهوم الاستمراريّة، وكأنّ أم رشيد تتوعّد بالقادم من أمثال ردّ فعلها. وتؤسّس لانتصار الانتقام من الظّالم. وفي قصة "حوار" تحمل مفردة الخوف ما تحمله من دلالات آثارها في حياة المحتلين المستوطنين الذين غرقوا في انتصار بأس الأطفال المقاومين عليهم وحتى في اليأس من المستقبل؛ فنقرأ عن سارة الهاجسة بزوجها عازوري: "هل أنساه أطفال المخيمات الفلسطينيّة واجباته البيتية؟ أم أنهم غيروا عاداته؟ أم ماذا؟ وحسما لأي نقش أجابها عازوري بأسى:
- إنّه الخوف يا سارة الخوف يهدّ الحيل..

تبتسم سارة هازئة وتناكفه كعادتها
- "لا يا عازوري المستقبل هو الذي يهد الحيل.." [20]

وفي  قصّة "مابين صافرتين" يقول الراوي: "كانت العتمة في داخل الزنازين معشوشبة. وكان الضّوء في خارجها، فسحة صغيرة، راعشة بالألوان. حالًا، وفوق خطا قصيرة، مشى العجوز "عبد اللطيف العايدي" والشّاب "زكي حمدان" إلى الفنّاء الصّغير المفروش بالضّوء والملتفّ بالهواء الذي لم يفسد بعد، ومع امتداد الخطى واصلا حوارا كانا قد بدآه في عنبرهما. سأل الشاب:
- "لكن أتراها تدوم يا عمّي"؟! (وغمزة بعينه)! 
- "أبدا، يا بنيّ، لن تدوم"! 
- "لكن أمريكا وراءها"! 
- "حتّى  ولو كانت أمريكا"! 
- "لماذا يا عمّي"؟! 
- "يا بنيّ، الشجرة، عندما تتساقط أوراقها، وتتكاثر الثّقوب في جذعها تتركها قرودها"!

تكلم الرجل عن خبرة بالكيان المحتلّ، فرأى ما تكاثر فيه من الثّغرات (الثّقوب) وصار في خريف عمره (تتساقط أوراقه) وسوف يتركه المستوطنون ويعودون إلى حيث أتوا؛ لأنّهم فقدوا ما ظنّوه أمانًا في فيء شجرة. وفي هذا النص نداء لتمزيق السّجن والخروج من ربقة الاحتلال، وتركيز في ضعف العدوّ من الدّاخل سواء بتأثير ضربات المقاومة أو من الخلل في بنيانه المتآكل.

ينتقل السّرد إلى نغمة السّخرية من المحتلّ المتمثّل بحارس الزنزانة؛ وذلك من هذا الرجل المتحدّث مع شاب، يقول في القصّة المذكورة نفسها: "أمّا الحارس فقد رابه كلامهما! لذلك سأل العجوز عن قصده. فقال: "أقصد جنوب أفريقيا يا خواجه لا "إسرائيل"! فاكفهرّ وجه الحارس وسكت العجوز ودوى صوت الصافرة مرّة  ثانية معلنا انتهاء وقت الفسحة. ومضى العجوز والشاب مع الآخرين إلى داخل زنازينهم، وعنابرهم، مخلّفين وراءهما الخواجة الحارس مبلولا بغيظه!"[21].

في قصة العودة إلى البيت[22]، يروي السرد عن فلسطيني عاد إلى بيته في القدس، مع ما في "أيونة العودة" من رموز النصر، تتراءى للراوي مشاهدات في الواقع وفي تيار الوعي، ويقول: "وهذه هي أسيجة البيوت الحجريّة مملوءة بكتابات وصور واضحة، وممحوّة. أقرأ همهمة: من غزّة لبيروت شعب حي ما بيموت" (ص 49)؛ ففي الدّال المكانيّ إنهيار الحواجز بين مدن الأوطان المتألّمة بعد تحقق الغلبوة على المحتل؛ والعبارة تناصّ دقيق من شعارات تظاهرات طلبة جامعة بيرزيت [23] أوائل العام 2000، ردّا على زيارة رئيس الوزراء الفرنسيّ آنذاك إلى قبر "رابين" في الأراضي المحتلّة، "وتصريحاته التي  وصف بها عمليّات المقاومة اللبنانيّة بالإرهابيّة"[24]؛ ولبنان ممثّل هنا بعاصمته بيروت.

خاتمة
أبرز البحث أن القصّة القصيرة الفلسطينيّة شهدت ملامح اليأس من زمن الهزائم، وبرغم تبدل الأحداث وقيام الانتفاضة وصورة الطائر الذي ينهض من الركام ظلت هزيمة ما, مخزونة في بعض القصص. ولكن  مع ذلك انبثقت موضوعات جديدة، بين النماذج المدروسة فتجلت رغبة الخروج من زمن الهزائم وعلامات الانتصار، وتلك غالبة في قصص حسن حميد، ومنها الآتي في أحزان شاغال الساخنة:

- إظهار بشاعة العدّو. مثال:" يا إلهي إنّهم بشعون في الأحلام أيضًا"[25]، ويقول أحد الجنود الموحتلّين لأبيه شاغال:" قتلوني.. قادتي يا أبي.. لأنّني قلت لهم معركتنا في هذا الجانب خاسرة!" (ص 128).

- التّركيز على دور المرأة في  كسر الخوف والمواجهة. مثال:"رفعت عصاها وضربت رأسه ..لقد مات الرّجل من المفاجأة والمباغته لا من قوّة الضّربة، برغم أنّ أمّ رشيد عاودت ضربه عدّة مرّات" (ص 73).

- التّركيز في عدم نسيان قيم التّراث (لفظًا وفعلًا..) في بادرة  تشبه الدّفاع عن النّفس من خلال الدّفاع عن تقاليد حتّى لا تذيبها سنوات الاحتلال الطّويلة فبرز هنا الانتصار للتراث الثقافي لفلسطين. مثال:" وظللت أسقي القبور والنباتات" (ص70) و"ولو ياحيف! ونشمية" (ص76).

- رأينا النصر النفسي من خلال استهزاء الفلسطيني بالسجانين؛ "يخافون من العدوى، يخافون إذا ما قامت في جباليا تقوم  في الدهيشة أيضا" (ص91).
لقد ظهر واضحًا ما حصل من الانتقال من يأس الهزائم وظلم الاحتلال إلى أمل الانتصار؛ وذلك في زمن الانتفاضة في وجه المحتل؛ يقول:" ومع وضوحه الشديد كان دولاب الجلخ ماضيا في تجليخ النصال والفؤوس وفي تشكيل دروب الضوء والنار.. أيضا" (ص93). وفي زمن تحرير لبنان وانتصاره في تموز، عندما حققت المقاومة الغلبة والنّصر، ورد التعبير عن رمزيّة مقاومة "بيروت" وصمودها مباشرة في قصة "العودة إلى البيت". أما في "قرنفل أحمر لأجلها" فغاب خوف المعذَّب تحت الاحتلال أو المظلوم بل شاع الخوف والقلق والأرق في ناس الاحتلال أنفسهم - وذلك طبعا بحسب حبكات السرد - نتيجة قوة المنتفضين. أخيرا، إنّ حضور إرادة الانتصار في مقتطفات قليلة من فن القصص القصيرة شابه ارتدادات الزلزال، فأمسى يهزّ الكاتب الفلسطيني وجدانيا، ويملأ بحرا لحبره.  والأمل أن يزداد هذا الفنّ في نتاج القصصي لدى كل الكتاب الفلسطينيين "واقعيّة والتزاما وجديّة على صعيد الموضوعات، وعلى صعيد الشّكل الفنّيّ؛ بحيث تهيّء للفترة القادمة الأرضيّة الخصبة للإبداع"[26].


[1]  - شوقس ضيف، البحث الأدبيّ طبيعته مناهجه أصوله  مصادره، دار المعارف، مصر، الطّبعة السابعة، 1972، ص 96.
[2]  - Keir, Elam: The Semiotics of Theatre and Drama ,2nd edition , Taylorond Francis Group, 2002 , p 14  
[3]  - سعيد علّوش، معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة " دار الكتاب اللبنانيّ والدّار البيضاء سوشبيرس، بيروت، 1985، ص 33.
[4] - كنفاني، غسّان: الأدب الفلسطينيّ المقاوم تحت الاحتلال،1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، بيروت، ط1، 1968م ، ص 9
5- اللّقيس، بلال: الأمن القومي الإسرائيليّ  بعد العام 2006 دار المعارف الحكميّة، بيروت، لبنان، ط1، 2015 ، ص 119.
[6] - أديب فلسطيني (1953) بكالوريوس في الآداب. شغل مناصب سياسية؛ منها مستشار ياسر عرفات في مفاوضات كاملب ديفيد. له ست مجموعات قصصيّة.
[7] - من مجموعة السفينة الأخيرة الميناء الأخير (الأعمال الكاملة)، دار الفارس للنشر والتوزيع، الأردن، 1979.
[8] - من مجموعة قصص أكرم هنية، ص 58.
[9] - المرجع نفسه، ص 65.
[10]  - عبد الملك مرتاض، في نظريّة الرواية، بحث في تقنيات السرد، إصدار عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنّون والآداب – الكويت، كانون الأوّل 1998، الصفحة 114.
[11]  - مجموعة عندما أضيء ليل القدس (من الأعمال الكاملة)، دار الفارس للنشر والتوزيع، الأردن، 1979 م. ص211.
[12] - عبد الله محمّد مصطفى العوض، أكرم هنيّة دراسة في قصصه القصيرة، جامعة النّجاح، نابلس، فلسطين، 2003، ص 39
[13] - هنية، أكرم: الأعمال القصصية الكاملة، دار الفارس للنشر والتوزيع، الأردن.
[14]- شعيب حليفي، هويّة العلامات في العتبات وبناء التأويل، دار الثّقافة للنّشر والتّوزيع، ط 1 2005، الدّار البيضاء، المغرب، ص 11. 
[15]  - عبدالله حمد مصطفى عوض، أكرم هنيّة دراسة في قصصه القصيرة، جامعة النّجاح، نابلس، فلسطين، 2003، ص 148
[16]  - سامي سويدان، أبحاث في النص الروائي العربي،  دار الآداب، بيروت، ط1 ، 2000، ص 18.
[17] - أديب فلسطيني (صفد 1955) له 13 مجموعة قصصية. مجاز في اللغة العربية وآدابها، والتربية. وعمل صحافيًا.
[18]  - فيصل الأحمر، معجم السّيميائيّات، الدار العربيّة للعلّوم ناشرون،  ط1، 2010، ص226-227.
[19] - حسن حميد، أحزان  شاغال السّاخنة، دار المنارة للدراسات والنشر، اللاذقية، سوريا، 1989.
[20] - حسن حميد، قرنفل أحمر لأجلها، اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق ، ط1 1990، ص 58.
[21]  - حسن حميد، قرنفل أحمر لأجلها،  م. س. ص 22.
[22] - - حسن حميد، العودة إلى البيت، اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق ، ط1، 2009، قدّمت الباحثة رسالة ماجيستير في تحليل المجموعة، وهي قيد النشر.
[23]   - www.albayan.ae\ lastpage\2000-2-27-   زرته في 8\9\2018 الساعة 10:47
[24]  - الموقع الّسابق نفسه .
[25]  - من قصة أحزان شاغال الساخنة. م.س. (ص 95). 
[26]  - نصر محّمد ابراهيم عباس، الفن القصصي في فلسطين، الرياض، دار العلوم، 1982م، ص 546.

أضيف بتاريخ: 07/09/2022