مقالات عامة

الغزو الناعم حرب، ولكن!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الغزو الناعم حرب، ولكن!

 

د. احمد الشامي

 

إنّ ما تشهده المجتمعات الإسلاميَّة من انجذابٍ ملحوظٍ نحو ثقافة لا تنسجم مع ثقافتها ومنظومتها القيميَّة، جدير بالنقاش، وبالتحديد، حول التساؤلات الآتية: هل انجذابهم هذا هو سلوك إراديّ ناتج عن قناعة بأن ثقافتهم الإسلاميَّة ومنظومتهم القيميّة ضعيفة، أم هو استلاب ناتج عن ضعف وعدم فهم في مستوى متانة انتماءهم لدينهم وقيمهم؟

بدايةً، يجدر التسليم بتباين في الموقف لجهة انفتاح المسلمين نحو ثقافة الآخر المختلف، فبينما يراه البعض فرصةً تساهم في ارتقاء الوعي لأنفسهم وللآخر، يذهب آخرون لوصف هذا الانفتاح أنّه يشكل تهديدًا، لما يُحدِثه من تداعيات على مستوى الهويّة والسلوك. وهذا ما يُحدم النقاش على جبهته الأيديولوجيَّة حول الخيار الأفضل، بين الاستمرار في الانفتاح وتوسيع رقعته والتفاعل الثقافيّ، وبين العودة إلى سيرة الجماعات الأولى حيث الانغلاق على الآخر أو ضبط العلاقة به وحفظ التوازن معه.

وفيما يلتقي أغلب الرأي بموضوعيّة، على أنّ مشهديّه تطوّر البشريّة تتصل بجانب مع الذي شهده العالم -ولا يزال- من انفتاح بين مجتمعاته وعلى اختلاف ثقافاتهم، لكنّ الذي يجعل الموقف من الانفتاح ببعده الثقافي يأخذ بُعدًا إشكاليًّا هو سعي غربي دؤوب لجعله الوسيلة نحو غزو ناعم للآخر، حيث تلتقي أغلب دراساته أنّه بات أكثر جدوائيّة - في إدامة التفوّق والغلبة- من خوض الحروب العسكريّة والاحتلال المباشر

صحيح أنّ الدعوة للعودة نحو التقوقع والانغلاق، فيها إشارة استسلام وتسليم لوجود ضعف وعجز، إذ وحدهم من لديهم ثقافة هشّة هم الأكثر ميلًا لبناء جدران مرتفعة اتجاه الآخر. ولكن هذا لا يتناقض مع ضرورة التأكيد على وجود تمايز جلي بين ما هو تفاعل ثقافي وبين ما هو غزو ثقافي، والذي يتموضع بين حدّي الحريّة والاستلاب.

وفي ظلّ تأكيدنا على أنّ الإسلام كعقيدة ومنظومة قيميّة، لديه من القوّة بحيث من الطبيعي تدعيمه لمنحى الانفتاح والحوار مع الثقافات المختلفة، من موقع الواثق باقتداره على التأثير الإيجابي، ورفد حركة البشريّة -بنزعتها التطوريّة- بما يحقق الخير للإنسانيّة كافّة؛ هنا، يصير لزامًا التوجه نحو إخضاع المجتمعات الإسلاميَّة للمساءلة عن مسوّغات الانجذاب والتفاعل مع ثقافة وسلوكيّات هي على هذا المستوى من الهزالة والركاكة وتتعارض مع تعاليم دينهم وقيمهم.

في حقيقة النقاش الدائر، يلاحَظ ارتفاع مستوى التأييد في المجتمعات الإسلاميَّة كونها تتعرّض لغزو ناعم وممنهج من قبل ثقافة غربيّة مناقضة، وحوله، تتعدّد المقاربات في قياس مستوى ما يُحدثه الغزو من اختراقات، وفي كيفيَّة التعامل معهما. بحيث يمكن تقديم مقاربتين أساسيّتين في هذا المجال:

المقاربة الأولى-تذهب هذه المقاربة في قراءتها لما تشهده مجتمعاتنا الإسلاميّة من اختراقات مناقضة لثقافتها إنّما يعود بالدرجة الأولى إلى ما مستوى الدفق الهائل لثقافة الغرب وبما يملكه من وسائل وأدوات، وهذا ما شكّل وعي ملتبس حول ما يجري أنّه مجرّد تفاعل ثقافي طبيعي، وبالتالي، فإنّ أنجع سبل المواجهة هو في تكثيف الجهود للكشف والتوعية على حقيقة أهداف الغرب بأدبياته الوافدة وأدواته وطرقه.

المقاربة الثانية- تؤكّد على أهميّة التبيين والتوعية بأنّ ما يحصل ليس من أشكال التفاعل الثقافي الحميد بل بلغ مستوى الغزو الناعم البغيض، إلّا أنّ ذلك وحده يُعد مقاربةً منقوصة، فما يُكشف عن مؤشّرات الاختراق الثقافي المناقض للإسلام، إنّما يشير إلى ضعف ما قد سهّل عمليّة الاختراق هذه. وهذا ما يستدعي بالضرورة التوجه نحو إعادة قراءة المناهج والأساليب التي يُستند إليها في بناء شخصيّة الإنسان المسلم، فهذه الكيفيّة يبدو جليًّا احتياجه التطوّر في المضمون والأسلوب. 

ولكن، حتى لا نبقى في إطار العرض والتحليل، الذي قد يدخلنا في ترف فكري لا يرقى إلى مستوى التحدّي، سيّما، وأنّ المعالجة المطلوبة ليست في حدود الواجب الكفائي بل العيني، والتي نقترحها وفق الترتيب الآتي:

  1.  إعلاء شأن مسألة تحصين هويّة الإنسان المسلم، بحيث تتعاهد كلّ المؤسّسات والجهات ذات الصلة، وفي مقدّمتها الأسرة، للتعامل مع هذه المسألة بوصفها هدف وأولويّة. وأن يعمل على تظهير ما تحويه الهويّة الإسلامية من قوّة ناعمة على مستوى العقيدة، والقدوة، والقيم، والتاريخ.
  2. تحصين الهوية يبدأ من خلال تقديم وبناء النموذج الأصلح في مجالات الحياة كافّة، نظرًا لأهميّة النموذج في شخصيّة الإنسان، فقد ثبت بما لا يحتمل الشك، أنّ من أهم عوامل الاختراقات هو التأثر بما يُقدّمه الغرب لنماذجه في الحياة. وأنّ هذا التأثر يعود إلى مسألة أساسيّة، حيث عمل الغرب– باحتراف وإبداع – أن يحيط نماذجه بهالة من الجاذبيّة مقابل شيطنته وتسخيفه للنموذج عند المسلمين، وأنّه ما كان لينجح في ذلك، إلّا لأنّنا مقصّرون في تقديم عمليّ وليس النظريّ للنماذج الأصلح، وما أكثرها في هويتنا.
  3. عندما تحفل المجتمعات الإسلاميّة بنماذج لا تتوافق مع دينها وقيمها، فهذا يدل على وجود مشكلة في فهمها لحقيقة تكليفها في الحياة، فما خلق الله الجن والإنس إلّا ليعبدون، قولًا وفعلًا، وعندما يتعارض الفعل مع القول، فهذا يعني أنَّ هذا الإنسان لم يُدرك حقيقة تكليفه، فكيف لإنسان يعبد الله فيؤدّي الصلوات الخمس، بينما هو يغش ويحتكر...؛ ألا يشير ذلك إلى انفصام بين حقيقة التكليف والامتثال العملي، هذا ما يستدعي العمل الجاد لمعالجته من قبل المعنيين بالتبليغ الديني وتحصين هويّة الفرد المسلم والمجتمع الإسلاميّ.
  4. لم يعد من الواقعيّة الحديث عن ضعف المعالجات، والشُح في الإمكانيّات والموارد، وعدم كفاية علماء الدين والمبلغين المتصدّين في الساحة، وإن كانت التحدّيات تفرض عدم التوقف عن عمليَّة تطوير كل ما لدينا من عناصر بشريَّة وإمكانيَّات وموارد وعمليَّات ومناهج...، ورفد المجتمعات الإسلاميَّة بالمزيد من العلماء والمبلّغين المتخصّصين.
  5.  بات من الهام والضروري توجيه الأنظار نحو مشكلة ما في التأثير والجاذبيَّة، ولا سيّما على مستوى الخطاب الدينيّ والتوعويّ، والذي يتطلّب تطوير المضمون وأسلوب الخطاب.

 

ختامًا

تكمن أهميّة التحدّيات كونها تجوهر الإنسان فتكشف عن عمق هويّته وشخصيّته، وإمكانيّة صلاحه، إذ ليس من عاقل يظن أن الغرب بنزعته السلطويَّة سيصل إلى يوم يتوقّف فيه عن زرع الشكوك وتفكيك الهويّات، فهذه وسيلته التي أدامت له حتى الآن إمكانيّة الغلبة والهيمنة، فكيف إذا ما بدأ يستشعر بروز حركة نهضويّة تغييريّة في الفكر والخيارات عند المسلمين؛ هو يظن أنّه الأقدر في هذا الميدان ويبقى على المسلمين أن يُثبتوا العكس!

 

والحمد الله رب العالمين

أضيف بتاريخ: 19/01/2023