مقالات عامة

الخلاص الموعود، بين التعجيل والتأجيل

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخلاص الموعود، بين التعجيل والتأجيل

د. احمد الشامي

 

المدخل:

يوجب الإيمان رسوخًا في الاعتقاد، بأنّ الخالق المدبّر، يستحيل أن يترك عباده الذين فطرهم على الميل نحو العدالة والإنسانية والحريّة والكرامة، تحت رحمة نفوس مشوّهة استحالت بهم الحياة مساحة للظلم والقهر والاستعباد، وشتى صنوف الاستغلال.

إذ ليس من باب الصدفة التقاء الأيديولوجيات المختلفة إلى حد التناقض- سماويَّة كانت أم غير سماويَّة- على وصف حال المجتمعات البشريَّة بأنّ استمراره محال، وأنّه سيأتي الخلاص الحتميّ بفضل سيادة العقيدة الأكمل والأشمل، وعلى يد شخص أو أكثر، ممّن حازوا على خصائص تؤهلهم لتحقيق هذا الأمل المتوارث من جيل إلى آخر.

هذا يعني التقاء مختلف الأيديولوجيَّات على أنّ هذا الأمل الأغلى، والأجمل في عمق الوعي البشري، إنّما يتجاوز في كونه خارقًا للطبيعة إلى مستوى الإعجاز، بل هو انسجامٌ مع سنن الكون والحياة، التي فيما تكشف عن مسارها المتّجه صعودًا نحو تلك الخاتمة السعيدة، هي تكشف أيضًا أنّها نتاج مقدّمات، إن تسارعت خطاها تعجّل تحقّق تلك الخاتمة، وإن تباطأت تُؤجّل، والتي يمكن تحديدها في مقدّمات أربع:

 

المقدِّمة الأولى: الانكشاف في المعتقدات الماديّة التي سادت طويلًا، وحفرت عميقًا في الوعي، وذلك حين يتبين محدّوديتها، وبطلان الادّعاء بأنّها الأكمل والأشمل، وما الذي شهدته البشريَّة من انهيار الاشتراكيّة واستقرارها في مزابل التاريخ إلّا البداية، وهكذا الرأسماليّة التي تؤكّد من خلال ما تُحدثه من ظواهر مأساويّة في العالم، بأنّها تحذو حذو الاشتراكيّة في خطٍّ متسارع، لتغدو أثرًا بعد عين، وفي أقلّ التقديرات، سقوطها المدوّي بوصفها الأنموذج الأرقى والنهائي للبشريّة؛ وأوضح دلالة جاءت على لسان دعاة هذه الأطروحة في محاولتهم إلى لملمة ما تبقى من مصداقيّة في المسارعة للبراءة منها.

المقدِّمة الثانية: إنّ حجم ما يشهده الوعي البشري من ارتقاءٍ إلى مستوى العالميّة وسط انحدارٍ متسارعٍ للإيديولوجيّات الماديّة المستندة على مسألة فصل الدين عن قيادة العالم كقاعدة أساسيَّة، وهذا ما يضع الرسالات السماويّة أمام استحقاقٍ حاسم وحتميّ لتأكيد مدى صدقيّة تمثيلها لمشروع الله على الأرض. إنَّ واحديّة الإله تفرض عالميّة الرسالة، وهذا ما يعني، ارتباط الخلاص بشكل وثيق مع الرسالة الكاملة والشاملة لرسالات السماء، والتي تسعى لتحقيق غاية بلوغ أهل الأرض قاطبةً -دون أي تمييز- المرحلة التي يكونون فيها أكثر أنسنة، حيث عبادة الله - بأشكالها كافة - تصوّب نحو تحقيق العدالة بين البشر كمعيار أساسي.

المقدِّمة الثالثة: إنّ مقياس الرسالة السماويَّة الكاملة الحقّة، يرتبط بمن يمثلها، وينطق باسمها، ويحمل لواء إنفاذها على الأرض؛ وما الفساد الذي عمّ الحياة والآلام التي تعاني منها البشرية إلّا نتيجة طبيعية بسبب الخطيئة الكبرى التي ارتَكبت بفرض وقبول الظالمين ممثلين للرسالة الحق. على الرغم من وضوح المعايير التي وضعها الله لمن يمثله في حواره مع نبيه الخليل إبراهيم (إني جاعلك للناس إمامًا، ولا ينال عهدي الظالمين)، فحتى يتحقّق الخلاص الموعود إنّما في وضوح التشخيص للإمام المعيّن من السماء برسالة شاملة للبشريِّة جمعاء، والذي يستحيل أن يكون من الظالمين.

المقدِّمة الرابعة: إنّ واحدة من أهم الأسباب التي حالت دون قدرة الممثّلين الحقيقيين لرسالة السماء من إحقاق الحق وإقامة العدل هي في افتقادهم للناصر. المخلّص الحق إنّما يحتاج إلى أنصار لتحقيق الأمل الموعود، والنصرة هنا تتجاوز حدود التعبيرات اللفظيَّة إلى حيث العمل لتوافر المتطلّبات الفعليَّة لإطلاق حركة التغيير الكبرى في العالم، وتوافر النواة الأولى لمجتمع المخلّص من قادة وأفراد، اختبرتهم التجارب فأثبتوا في الميادين أنّهم أصحاب بصيرة وعزم وقدرة على التحدّي وصناعة الحياة، لتستحيل ميادينهم ساحات جاهزة لخروج علنيّ للمخلّص وانطلاقه في تأسيس الأنموذج الاجتماعي القدوة الذي ستنجذب إليه قلوب البشرية حبًّا.

 

الخلاصة:

ليس من المبالغة القول إنّ تلك المقدّمات ما عادت مجرّد أمنيَّات، وإن حدود تحقّقها هو ما يزيد المؤمنين الصابرين والمكافحين والمقتحمين لجبهات التحدي إيمانًا بأن المسافة بينهم وبين إمامهم هي على درجة عالية من القرب، إنهم باتوا يستشعرون أنفاسه، ودفء وجوده حولهم، فالغربة بينهم تتلاشى تباعًا، مع كل خطوة تزيد الخلاص الموعود تعجيلًا.

كما ليس من المبالغة القول إن ما تحقّق من تلك المقدِّمات يزيد الظالمين والمتضرّرين من مسألة الخلاص المحتوم شراسة، من خلال القيام بشتى الأساليب التي تفقد المخلّص الأنصار، أو تُشوّه إيمانهم، وصفاء قلوبهم، والنيل من ثباتهم وصبرهم، فتلك هي خطوتهم الأخيرة كي يزيدوا مسألة الخلاص الموعود تأجيلًا.

أضيف بتاريخ: 07/03/2023