مقالات عامة

الغرب، أنموذج فقد سحره

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الغرب، أنموذج فقد سحره

الدكتور أحمد الشامي

 

          حسنًا يفعل بعض صنّاع الوعي الغربيّ في نقدهم لمقولاتٍ أطلقوها وسط لحظة انفعاليّة لمّا تهاوت معاقل الاشتراكيّة ومنظومتها الاعتقاديَّة، فهم يسعون بذلك، لاستعادة ما افتقدوه من مصداقية علميّة بعدما استفاقوا من سكرة الشعور بالغلبة والتفوق ووهم خلوّ الساحة العالميّة من منافسٍ لليبراليَّتهم على بلوغ هدف النموذج الأرقى للبشريّة.

          في الحقيقة، لا يعدّ سقوط الاشتراكية انكشافًا لها وحدها، بل انكشافًا للرأسماليَّة الليبرالية أيضًا، فالحرب الباردة بين المعسكرين ساهمت في تضليل الوعي العام، حيث عملت هذه الثنائية على احتكار خيارات البشر، وما إن فشلت وسقطت الأولى حتى راحت عيوب الثانية تتكشّف تباعًا.

          تؤكّد الوقائع ذلك، فمنذ أن سادت الأحاديّة القطبيّة، وتربَّع الغرب الرأسمالي بليبراليته المتوحّشة على عرش قيادة العالم، حتى فقد سحره وبدأت حقيقته تصبح أكثر وضوحًا، وهو يأخذ المجتمعات في الشرق كما في الغرب، نحو مزيدٍ من المظالم الاجتماعيّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والثقافيَّة، بتأثيراتها المدمّرة.

          أكّد على هذه الحقيقة المفكّر اللبناني "جورج قرم" في مؤلّفه «أوروبا وأسطورة الغرب» بأنّ الغرب اخترع مفهوم تمدين الآخر ليبرّر سيطرته على الشعوب ويقلّل من إنسانيتها. فسياساته كشفت وحشيّته تحت ذريعة «التمدين». إذ لم تأت رفاهية الغرب بسبب النهضة الاقتصاديَّة والثورتين الزراعيَّة والصناعيَّة، بمقدار ما أتت إثر نهب واضطهاد للشعوب ومواردهم وإحكام قبضتها على عقولهم؛ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمساواة والمحاسبة والمساءلة، لم تكن صدقًا في صلب السياسات الداخليَّة والخارجيَّة للنخب الحاكمة.

          يزداد التوحّش الاقتصاديّ التصاقًا بالغرب الليبرالي، أشار إلى ذلك الباحث الدنماركي "يورغ سورنسن" في كتابه "إعادة نظر في النظام الدولي الجديد"، حيث نجد التطرّف بالحريّة الاقتصاديّة، وإنكار دور الدولة في ضبط الرأسماليّة والتخفيف من شرورها الاجتماعية (تحديدًا في مجال التوزيع والعدالة الاجتماعيّة)، والهيمنة على المنظّمات الماليّة الدوليّة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) والتعامل مع البلدان النامية من منطلق التكيّف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي.

          الأمر الذي ساهم في اتّساع الهوّة بين طبقة غنيّة قليلة، وبين أكثريّة ساحقة تلهث خلف احتياجاتها الأساسيّة، فتزداد قلقًا وشعورًا بالإقصاء، كما عبّر " فرنسيس فوكوياما" رائد نظريّة نهاية التاريخ، عن تأثير تلك المظالم الاقتصاديّة البنيويّة، في قوله: أن تكون فقيرًا يعني أن تصبح لا مرئيًّا للبشر من حولك، وإهانة أن أكون لا مرئيًّا أسوأ من الفقر نفسه.

          كما اعترف" فوكوياما" بالانهيار الاجتماعي في كتابه "الانهيار العظيم"، قائلًا إنَّ العلاقات والأخلاق الاجتماعيّة إنّما تشهد انهيارًا عظيمًا في الدول المتقدّمة، منها، مثل ازدياد معدلاتُ الجريّمة، وتسارع انهيار العلاقات والروابط الأسريَّة، وكذلك تراجع معدّلات الزواج ومعدّلات الخصوبة ما يُنذر بانقراض الشعوب الأوروبيّة، وتحوّلها إلى مجتمعات لقيطة، فثلث الأطفال في الولايات المتحدة يُنشؤون خارج مؤسّسة الزواج، في حين تبلغ هذه النسبة 50% في الدول الإسكندنافية.

          يسعى الغرب اليوم - مستعينًا بالهيئات الدوليّة- إلى نشر الإباحيّة والشذوذ على المستوى العالمي، حيث يعمل على تقنين العلاقات الزوجيّة غير الشرعية، والعلاقات الزوجيّة الجديدة، ومن بينها الزواج بين ذوي الجنس الواحد؛ بهدف تغيير القواعد، ومنحها الحقوق والامتيازات نفسها.

          بين الغرب والحروب ومآسيها، علاقة يصعب تفكيك رموزها بعيدًا عن كونها تخطيط مسبق، واستجابة لرغبة مؤجّجة في زيادة الثروة والمكانة والسلطة قبالة الآخر، وهنا يُحدث ما يُسمّيه علماء النفس "الإقصاء الأخلاقي"، حينما نحرِم الآخرين من حقوقهم الأخلاقيَّة وإنسانيتهم إلى حدّ قتلهم. إن أغلب الحروب والصراعات التي نشبت بين عامي 1740 و1897، كانت في أوروبا، وقد أدّت إلى مقتل 30 مليون إنسان، وفي الحرب العالميّة الأولى ما بين 5 ملايين إلى 13 مليون إنسان، أمّا في الحرب العالمية الثانية فتجاوز عدد ضحاياها 50 مليون إنسان؛ ولا ندري ما سوف تحدثه الحرب الأوكرانية الآن.

          لم تسلم بلادنا ومجتمعاتنا من هذه النزعة الغربيَّة في توليد الحروب والصراعات والمآسي، فمنذ تصدّر الأمريكيّ وحلفه الناتو الأمن العالمي مع بداية الألفيّة الثالثة، ونحن ننتقل من حرب إلى أخرى، من اجتياح أفغانستان، إلى العراق، ثم الحرب على اليمن، ثم في سوريا، وليبيا، والحروب الدائمة التي يحدثها الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، إلى جانب الاضطرابات الأمنيَّة والسياسيَّة والاقتصادية التي تجتاح دول المنطقة.

          نعم، إنّ هذا النموذج الغربي بحسب المفكر الأمريكيّ "باتريك جيه بوكانن" لم يفقد سحره فقط بل هو آيل للموت كما جاء في كتابه الشهير "موت الغرب"، ولأسباب بنيويَّة ذاتيَّة، لأنَّ مجتمعاته منحطّة وحضارته تُحتضر، فالغرب لا يمكن أن يكون حرًا، إذ لا وجود للحريّة دون الفضيلة، ولا وجود للفضيلة بغياب الإيمان. وفيما يتهاوى النموذج الليبرالي الغربي في مواطنه المثال، نجد في بلادنا ومجتمعاتنا من لا يزال يرى – عن وعي أو بالتبعية - بأنّ هذا النموذج هو الخيار الأصلح للتقدّم الحضاري، وأنّ من يخالفه هو المتخلّف.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

أضيف بتاريخ: 26/04/2023