بسم الله الرحمن الرحيم
الدبلوماسيَّة الثقافيَّة ذراع الحرب الناعمة الأنجع
د. علي الحاج حسن
المقدّمة
تُشكّل الثقافة بمعناها العام المحور الأساس والأهم في التواصل والتأثير بين الأفراد وتؤدّي دورًا استراتيجيًّا على مستوى سياسة الدولة الخارجية. وكما يمكن بواسطتها نقل المعلومات والتجارب والقيم و... كذلك قد تشكّل مدخلًا للتحوّل الناعم عندما تترافق مع مخطّطات وبرامج تستهدف الهويّات وتستبدلها بأخرى. وليس من السهل أنّ تقوم الثقافة بهذا الدور لولا حجم الإقناع والجاذبيَّة المختزن فيها، لذلك تترك تأثيرها انطلاقًا من إعادة صناعة العقول وإيجاد القيم. سنحاول في هذا المقال المقتضب الإشارة إلى المقصود من الدبلوماسية الثقافيَّة ودورها في القوة الناعمة.
ما هي الدبلوماسيَّة الثقافيَّة؟
عُرفت الدبلوماسية الثقافية على أنّها: تبادل الرؤى والفنون واللغات وغيرها من جوانب الثقافة بين الشعوب من أجل تعزيز التفاهم المتبادل[1]. وينطلق التعريف من المفهوم المتبادر إلى الأذهان بدايةً عنها، ولكن وكما تكون الدبلوماسيَّة وسيلة لتعزيز التبادل فقد أثبتت التجربة أنّها قد تكون وسيلة للسيطرة أيضًا. وللتأكيد على الفكرة يقول صاحب مفهوم القوّة الناعمة الأمريكيّ جوزيف ناي في كتابه الشهير " القوة الناعمة" إنَّ جاذبية الثقافة الأمريكية ساهمت في تحقيق الأهداف الكُبرى للسياسة الخارجية الأمريكيَّة، واستشهد في الكتاب عينه بعدّة أمثلة جعلت الثقافة الأمريكيَّة التي تم تسويقها عَالَمِيًّا تغزو العالم كقوة ناعمة مؤثرة.
تُصنَف الدبلوماسية الثقافيَّة على أنها عنصر من عناصر الدبلوماسيَّة العامة، وهي شكل من أشكال تبادل المعلومات وترويج الفنون والجوانب الأخرى للثقافة بين الأمم، فمنذ بداية القرن التاسع عشر عملت معظم البلدان وبأساليب وطرق منّظمة على انتهاج سياسة ثقافيَّة خارجيَّة واعية تهدف إلى تنفيذ مهام سياساتها الخارجيّة؛ أدى ذلك كله إلى ظهور شكل جديد من أشكال الدبلوماسية يُعرف بالدبلوماسية الثقافية[2].
تُترجَم الدبلوماسيَّة الثقافيَّة في الواقع بمختلف أنواع برامج التبادل التعليميّ والثقافيّ وتبادل المعلومات والدراسات وبعثات الطلاب ونشر اللغات والآداب، وفتح فروع للمكتبات الوطنية في الخارج وترجمة المحتوى الأدبي كالشعر والروايات والكتب بلغات مختلفة، عدا عن الفنون كالأفلام والموسيقى والرسم، والمعارض الفنيّة والثقافية.... وإلى ما هنالك من نشاطات تحكي ثقافة البلد، حيث تترك آثارها على المتلقي وتدفعه نحو ثقافة وقيم الآخر.
الدبلوماسيَّة الثقافيَّة والحرب الناعمة:
تؤدّي الدبلوماسية الثقافية دورًا على مستوى كونها واحدة من أدوات وأساليب الحرب الناعمة وتغيير هويّة الطرف المستهدف. وإذا كان التعاون الثقافيّ بين البلدان في السابق خاضعًا في تناوله لمفهوم التبادل أكثر من أي شيء آخر، فالمبادلات الثقافيَّة تنمو وتتطوّر عادة خارج نطاق عمل الحكومات، عبر انتقال القيم والسلوكيّات نتيجة التخالط إلّا أن مجرد التخالط بين الشعوب ليس مبرّرًا للغزو الناعم ما لم تتوافر فيه عناصر أخرى من قبيل الإعداد المسبق وايجاد البرامج الموضوعة أساسًا لسلب الآخر قيمه.... فالدبلوماسيّة الثقافيّة بهذا المعنى تعني توظيف عناصر عدة من الثقافة للتأثير في الجماهير الأجنبيَّة، وصُنَّاع الرأي، والقادة والنُخب المؤثّرة. وتقتضي استغلال الفرص التي تتيحها قطاعات عديدة من بينها الفنون، والتعليم، والأفكار، والتاريخ، والعلوم والدين، لقولبة الأفكار والانطباعات ...[3].
عندما نتطلع على الدبلوماسيّة الثقافيّة من ناحية النشاط والمحتوى، يمكن فهمها على أنّها نوع من المزج أو التفاعل التكاملي بين مـا يسميه جـوزيـف س. نـاي "القـوة الناعمة" التي تعني القدرة على تحقيق الأهداف عن طريق جاذبيَّة الثقافة بدلًا عن الضغط والإرغام، وبين "الدبلوماسيّة العامة" التي ترعاها الحكومة، وتهدف إلى إعلام الجماهير أو التأثير في الرأي العام في بلدان أخرى[4].
عندما تُستخدم الثقافة لدعم إمكانات القوة الناعمة، وإنتاج حسن النية، وتأطير جدول الأعمال الدولي بطرق معيّنة، وإقامة أو إعادة تمثيل الحدود أو إنشاء روابط مجتمعيَّة عبرها، عند ذلك تصبح جديرة بالتحوّل الهويّاتي عند المستهدف. الدبلوماسيَّة الثقافية هي أفضل مثال على القوة الناعمة، أي إمكانيَّة التواصل عبر القيم الثقافيَّة والأفكار. علاوةً على ذلك، هي القدرة على تحقيق ما هو مرغوب فيه بدلًا عن الإكراه. وبالتالي، فإن الدبلوماسيَّة الثقافيَّة هي عنصرٌ مهم في العلاقات مع الآخر، وبالتالي تلعب دورًا في تشكيل السمعة وممارسة المصالح السياسية[5].
أنشطة الدبلوماسيَّة الثقافيَّة:
ليس من السهل تعداد الأنشطة التي تندرج في إطار الدبلوماسيَّة الثقافية، ويكفي أنّ نلقي الضوء على بعض نماذجها، مثل المركز الثقافيّ الفرنسيّ، الذي يتمدد بشكل واسع ويعمل على نشر "الفرانكفوانية" التي تتجاوز حدود التعامل باللغة الفرنسية. وكذلك الأمر فيما يتعلق بألمانيا فقد أسّست في عام 1951 معهد جوتة ومقره الرئيسي في ميونيخ، ويعمل الآن في نحو 80 بلدًا. أما بريطانيا ذات الإرث الاستعماري الطويل، فقد أسست المجلس الثقافي البريطاني عام 1934، حيث يعمل حاليًا في أكثر من 100 دولة على تعزيز المعرفة بالمملكة المتحدة وباللغة الإنجليزية[6].
كان الأمريكي أكثر تعويلًا على الدبلوماسيَّة الثقافيَّة فأدرجها ضمن قواه الناعمة وأنتج العديد من البرامج التي تنشر ثقافته في العالم. وكُتِب الكثير حول النشاط الأمريكيّ ودوره في تجنيد العديد من مثقفي العالم استخباراتيًّا لعل أشهرها كتاب "من يدفع للزمار"[7]، الذي يشير إلى وجود مؤسّسات وهميَّة وتمويل سرّي ضخم وحملة إقناع هائلة نظّمتها الولايات المتّحدة في حرب دعاية ضارية خطّطت لها وأدارتها "منظّمة الحرّية الثقافيَّة"[8] التي كانت بمثابة وزارة غير رسميّة للثقافة الأمريكيّة، أو لتكون "الزمار" الذي تدفع له وكالة المخابرات المركزية الأمريكيَّة CIA ثمن ما تطلبه من ألحان.
الخاتمة:
ليس من المبالغة القول أنّ الدبلوماسية الثقافيَّة هي الذراع الأنجع للحرب الناعمة والتي تمهّد الطرق للإقناع بقيم وثقافة الآخر من خلال أدوات ووسائل الاتصال مع الآخر والجاذبيَّة التي تحملها. ومن هنا يجب الإشارة إلى أنّ التفاعل الثقافيّ مع الآخر ليس مرفوضًا ولكن ما يجب التوقّف عنده، الأهداف والنوايا التي يحملها ومدى قدرة الهويَّات والثقافات المحلّية على إنتاج أُسُس الحصانة الذاتيّة، فمن الجدير، وقبل التوجّه للنهل من ثقافة الآخر، أن يتوجه الفرد نحو ثقافته على سبيل المعرفة والتدقيق في صلاحيّتها وقدرتها على الحفاظ على هويّة الفرد، عدا عن ضرورة الذهاب نحو تعميق الممارسة الثقافيَّة التي تحكي عن الهويّة، فعندما ننخرط في الآخر نفقد أهم مكوّن من مكونات حقيقتنا أيّ الهوية.
[1] دور الدبلوماسية الثقافية في تطوير العلاقات بين الشعوب ، د. نجم الدين كرم الله، موقع الجزيرة ، 5 /7/2020
[2] م.ن
[3] نزار الفراوي، "الثقافة والقوة الناعمة... حروب الأفكار في السياسة الخارجية"، مركز برق للأبحاث والدراسات، 2016. http://barq-rs.com
[4] د. زايد عبيد الله مصباح، "السياسة الثقافية الأمريكية تجاه الوطن العربي... دبلوماسية ثقافية أم امبريالية ثقافية؟"، مجلة المستقبل العربي، العدد 427، سبتمبر 2014، ص 102
[5] دور الدبلوماسية الثقافية في تطوير العلاقات بين الشعوب ، د. نجم الدين كرم الله، 5/7/2020 الجزيرة
[6] الدبلوماسية الثقافية.... الفريضة الغائبة؟، سيد محمود، الاهرام، 27/9/2017
[7] ف. س. سوندرز، من الذي دفع للزمار... الحرب الباردة الثقافية.. المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب، ترجمة طلعت الشايب (القاهرة: المركز القومي للترجمة، الطبعة الرابعة، 2009)
[8] Congress for Cultural Freedom