مقالات عامة

حقائق في علاقة شيعة لبنان بعاشوراء

 

حقائق في علاقة شيعة لبنان بعاشوراء

الدكتور أحمد الشامي 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يؤكّد أغلب من كتب التاريخ اللبنانيّ على سِمتين أساسيّتين للشيعة فيه، تتمثّل الأولى بأنّ مشايعتهم للإمام علي(ع) كانت منذ الفجر الإسلامي، ولم يسبقهم في ذلك إلًا جماعة من أهل المدينة، وأنّه سابقٌ على ما شهده لبنان من هجرات وافدة، وتشيّعهم قديمٌ جدًا يمتدّ إلى عهد عثمان بن عفان. وأمّا السمة الأخرى لشيعة لبنان، فهي وثاقة ارتباطهم الروحيّ والعمليّ بثورة الإمام الحسين(ع) وأهدافها.

لا يعكس ارتباط شيعة لبنان بالثورة الحسينيّة طبيعة هويّتهم الدينيّة فقط، وإنّما أيضًا اتصاله بواقعهم الاجتماعي وظروفه التاريخيَّة. فالشعائر الدينيَّة تُعدّ من المسائل الأساسيّة في فَهم الواقع الاجتماعي، نظرًا لما تؤدّيه من وظيفة مستمرّة في هذا المجال، حيث ذهب عالم الاجتماع الفرنسي "إميل دروكهايم" إلى القول إنَّ هذه الشعائر تشكّل لبّ الحياة الدينيَّة، فمن خلال قوّتها الاحتفاليَّة يتمّ إحياء روح التضامن بين أعضاء الجماعة، ما يفضي إلى إنشاء النظام المجتمعيّ بأسره.

وأنّ الاحتفالات الشعائريَّة لا يمكن فَهمها بشكل كامل، بمعزلٍ عن بقيّة مجالات الواقع الاجتماعيّ، فهي غير منفصلة بعضها عن بعض، ولا بدَّ من نظرة شاملة إلى المجتمع بكلّيّته، بما فيها هذه الاحتفالات، حيث لا يظهر معناها الكامل إلًا في سياق النظام الاجتماعي الشامل.

بحسب الكاتبة "صابرين ميرفان" كان النفوذ الشيعيّ، تاريخيًّا، يعمُّ معظم المناطق اللبنانيّة، من الشمال إلى جبل عامل والبقاع، ولكن بسبب مواقفهم الأيديولوجيَّة بحسب المفكر اللبناني جورج قرم، كان الشيعة على الدوام عرضةً للاضطهاد من قبل السلطة الحاكمة، بدءًا من الأموييّن الذين اتّخذوا من بلاد الشام منطلقًا أساسيًّا لحُكمهم، واستمرّت معاناتهم مع العباسييّن، ومن بعدهم أكمل المماليك الحرب عليهم حتى الإبادة في كثيرٍ من مناطقهم، ثم العثمانييّن، والفرنسيّين. فانهارت سلطاتهم لصالح العائلات الدرزيّة أوَّلًا ثم لصالح الموارنة.

كما تذهب تدوينات المؤرّخين والباحثين في تاريخ شيعة لبنان، أنّ مكانة الحق ومقاومة الظلم هي واحدة من أهمّ ما أحدثته ثورة الإمام الحسين(ع) على مستوى فِكرهم ووعيهم، وهذا ما يجعل تفاعلهم العمليّ مع قضيَّة عاشوراء أكثر فهمًا، لما يختزنه وعيهم الجمعيّ من تلك المظالم المتمادية التي أصابتهم، والتي استمرّت بوتيرة متصاعدة ومستمرّة إلى الآن دون توقف، حتى باتت الملحمة الحسينيَّة أنموذجهم الأبرز في صراعهم مع ظالميهم. ويختصر الباحث "روبير بندكتي" الهويّة الشيعية بأنها مقاومة للظلم والنضال من أجل الحقّ

حول ذلك يشير سماحة الأمين العام لحزب الله، "السيد حسن نصر الله" بقوله للباحثين في أنموذج المقاومة الإسلاميَّة في لبنان: أنتم الذين تبحثون من خلال دراساتكم عن هذه المُقاومة، أقول لكم، إنّ قوّة هذه المُقاومة وجوهرها وهويّتها وماهيّتها وروحها وأنفاس مجاهديها، يكمن في سرّ الحسين بن علي(ع)، فإذا كنتم قادرين على اكتشاف هذا السر، فستفهمون المقاومة في لبنان.

تحتلّ التضحية مكانًا مهمًّا في وعي الشيعة بشكل عام ونظرتهم إلى الحياة، بوصفها ليست موقفًا من الحياة، إنّما هي موقف للحياة. فإقدامهم على التضحية ليس تعبيرًا عن التعب واليأس من الحياة، أو رغبةً في الانتقام من المعتدي، أو مجرّد طموح ساذج للاستشهاد والذهاب إلى الجنة، بل يعبّرون من خلالها عن إنسانيّتهم وحبّهم للصالح العام، حتى لو اقتضى ذلك التضحية بأغلى ما لديهم، أي وجودهم.

لذلك، جهد الحُكّام التاريخيّون للبنان لمنع الشيعة من إحياء ذكرى عاشوراء، وهذا ما دفع الشيعة لإحيائها سرًّا، فالسلطة العثمانيّة كانت تلاحق من يقومون بممارسة هذه الشعيرة، من خلال دوريّات للشرطة تسيّرها في الأزقة والأحياء، واستمر هذا الوضع إلى مطلع القرن العشرين. باستثناء عهد الزعيم العاملي "ناصيف النصّار" (1715-1780) الذي استطاع حكم جزءًا من جبل عامل، فكانت تُقام في عهده عاشوراء علنًا، في البيوت والمساجد.

أشار عالم الاجتماع "فريدريك معتوق" إلى أن تمثيليَّة واقعة كربلاء- في البداية- كانت إحدى أهم الأساليب التي اعتمدها الشيعة في لبنان لإحياء الذكرى، فقد وجدوا فيها وسيلةً للتعبير عن هويّتهم ومواقفهم، فكانوا يُلبسون من يمثّل دور قاتل الإمام الحسين(ع)، زيّ الجندي العثماني. وبعد انهيار الطوق العثماني انطلق المنبر الحسينيّ ليكون الوسيلة الأهم والأساس في الحفاظ على هويّتهم وانتقالها من جيلٍ إلى آخر، وفي تحديد مواقفهم اتّجاه من يمثّل يزيد في عصرهم الحالي.

أضيف بتاريخ: 25/07/2023