مقالات عامة

معالم ومُنطلقات استهداف الدين في العقل الأميركيّ (الجزء الأوَّل)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

معالم ومُنطلقات استهداف الدين في العقل الأميركيّ (الجزء الأوَّل)

بقلم الدكتور علي الحاج حسن

 

كانت الولايات المتّحدة الأميركيَّة، بخاصَّة مراكز الدراسات فيها، السبَّاقة في رسم معالم الحرب الناعمة، واعتمدها كمنطلقٍ استراتيجيٍّ لفرض سيطرتها وهيمنتها على الشعوب والأُمم. مؤسِّسةً بذلك لعولمةٍ أكثرَ توغُّلًا في الإجرام وإلغاء الآخر. فما هي المعالم والمُنطلقات الأميركيَّة في محاربة الدين بشكلٍ عامّ؟ وهل تعمّدت هذه الإدارة إنتاج ما يحطّ من قيمة الدين؟ وما هي البدائل الأميركيَّة للشعوب؟

هذا ما سيحاول هذا المقال-في جزأيه- الإضاءة عليه، فاتحًا المجال أمام التعمّق في هذا النوع من الأفكار.

 

تمهيد

ساهمت مراكز الأبحاث والدراسات الأميركيَّة في التنظير للقوة الأميركيَّة الجاذبة (الناعمة) التي يمكنها، إلى جانب القوّتين العسكرية والاقتصاديَّة، من إخضاع الآخر والهيمنة عليه والسيطرة على ثرواته. وعندما كانت تُخفق القوّة الخشنة في تحقيق الأهداف الاستعماريَّة، كانت القوَّة الاقتصاديَّة والناعمة كفيلتين بتغيير مزاج الشعوب والحكومات؛ إلّا أنَّ المسلّم في القضيَّة ككلّ أنَّ الأميركيّ كان يُخطّط في مراكزه لكيفيَّة تعزيز وسيطرة الأنموذج الخاص به. من هنا يمكن القول إنَّ سياسات العولمة بدأت من مراكز الأبحاث والدراسات لتأخذ بالحسبان كلّ ما له علاقة من تأثيرات على المستويات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، والتي تهدف لإزالة الحدود والمُعتقدات والقيم والثقافات التي تتعارض مع الأميركيَّة منها. 

تكمُن النقطة الجوهريَّة للهيمنة وللسيطرة (العولمة)، في تعميم وترويج القيم الأميركيَّة على اختلافها، وتذويب الثقافات والقيم الأخرى، بخاصَّة تلك التي تمنع الآخر من الاندماج في المشروع الأميركيّ، فكان لا بدّ من تشويهها وإسقاطها عند أصحابها. ومن هنا يمكن الحديث عن استهداف الدين عند الأميركيّ كمقدمِّة للوصول إلى عصر الهيمنة والأحادية الأميركيَّة. ويعود السبب في ذلك أنَّ الدين، كونه الجزء الأهم من هويَّة الشعوب، يشكِّل حاجزًا أمام نفوذ الأنموذج الأميركيّ، وعند انعدام إمكانيَّة إقناع الناس بالتخلّي عن هويَّاتهم وقِيمهم بخاصَّة الدينيَّة منها، كان لا بدَّ من رسم خُططٍ قدَّمها الأميركيّ تحت عناوين العولمة والتفوق الأميركيّ والقوة الناعمة الجاذبة. وهذا يعني أنَّ الدين، الذي هو مصدرٌ أساسيٌّ للهويَّات، مرفوضٌ عند الأميركيّ وصبّت محاولاته في تشويهه بشكلٍ ناعم، لذلك استهدفت الاستراتيجيَّات الأميركيَّة الأديان على اختلافها ما دامت لا تتناغم ولا تتماهى مع قيم الحداثة الأميركيَّة.

 

أوَّلًا: الاستراتيجيَّات الأميركيَّة في استهداف الدين

أصدرت مراكز الدراسات الأميركيَّة مجموعة من الأبحاث والدراسات التي شكَّلت أساسًا لسلوك الإدارة الأميركيَّة وكيفيَّة تعاطيها مع الشعوب الأخرى. وتظهر أهميَّة هذه الدراسات في كونها صادرة عن مراكز تدخل في صميم النظام وهي تابعة بشكلٍ مباشر لوزارة الدفاع، وتخرج بتوصيفات واقتراحات وتوصيات تُعمَّم على الوزارات والإدارات لتكون أولويَّات في السياسات الأميركيَّة.

 

1. بناء شبكات إسلاميَّة معتدلة

 نشر مركز راند للدراسات الاستراتيجيَّة عام 2007م دراسة تحمل عنوان: "بناء شبكات مسلمة معتدلة". تقع الدراسة في 217 صفحة، واستُغرق إعدادها ثلاث سنوات من البحث. تدعو الدراسة إلى أمركة مفهوم الاعتدال، وتفكيك وتفرِقة الصفّ الإسلامي، ومما ذكر في أهداف الدراسة:

  • دعم المعتدلين وُفق الرؤية الأميركيَّة لمواجهة الإسلاميّين.
  • التحذير من دور المسجد في المعارضة السياسيَّة، وعدم تمكّن التيّار العلمانيّ من استخدام هذا المنبر.
  • مقارنة بين الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي والمرحلة الحاليَّة، وأنّ الخصم في هذه المرحلة هو الإسلام.
  • تحديد ملامح الاعتدال بحسب المفهوم الأميركيّ، والذي هو عبارة عن: القبول بالديموقراطية، والقبول بالمصادر غير المذهبيَّة في تشريع القوانين- أي رفض الشريعة- واحترام حقوق النساء والأقليّات الدينيّة، ونبذ الإرهاب والعنف..[1].

من خلال مجمل الدراسة وما جاء فيها من تفصيل، يتبين الآتي:

  • يبذل الأميركيّ جهودًا بحثيَّة لتوجيه حركته العمليَّة في الاستفادة من الإسلام الموجود بما يخدم مصالحه.
  • وجد الأميركيّ أنّ الإسلام المعتدل هو الأكثر فائدةً وتلبيةً لمصالحه، لذلك اتّخذ قرارًا بتحويل المسلمين إلى معتدلين، وهذا يتطلب جهودًا ثقافيَّة في الدرجة الأولى، فكانت فكرة اللجوء إلى القوَّة الناعمة بهدف تحديد أولويَّات الآخر وترتيب أفكاره طِبق العقل الأميركيّ ومن ثم تغيير نمط حياته.
  • ركز الأميركيّ في دراسته هذه على النقاط الأكثر حساسيَّة عند المسلمين. فقد وجد أن تمسك المسلم بأساسيَّات دينه وقيمه يمنعه من الانخراط في الرؤية الغربيَّة، لذلك رفض المسجد، كما رفض دَور القرآن والسنّة النبويَّة في التشريع، ودافع (كما يرى) عن حقوق الأقليَّات والمضطهدين ومن جملتهم المرأة وحجابها، وصولًا إلى تقديمه تصوّرًا للدعاة للإسلام وضرورة تربية دعاة جُدد يتماهون مع قيم الحداثة الغربيَّة، فأثنى على التجارب الموجودة التي يمكن الاستفادة منها في إبعاد المسلمين عن الإسلام.
  • لا يدعو الأميركيّ إلى إنهاء الإسلام، بل يريد إسلامًا يتماهى مع قيم الغرب، ويبتعد عن قيم الدين الأصيل والصحيح.

 

2. مشروع الإسلام المدني الديموقراطي

دعم الأميركيّ تطوير وتفسير ديموقراطيّ للإسلام منذ عقود، وأصبح أكثر إلحاحًا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. فقد أدرك أنّ الإسلام قديمٌ ومهمٌّ ولديه نفوذٌ بين أتباعه، فهو يلهمهم مجموعةً من الأيديولوجيات التي تُهدِّد الاستقرار العالميّ -حسب ما يدّعي-، لذلك كان التوجّه الى بناء إسلام مدني ديموقراطي حديث وسلمي يتناغم مع النظام العالمي الذي يرونه ديموقراطيًّا، وقابلًا للنمو الاقتصادي، ومستقرًا سياسيًّا، ومتقدّم من الناحية الاجتماعيَّة، ويتبع قواعد السلوك الدولي وقوانينه.

من هنا حدَّدت الدراسة التي أعدّتها شيريل بينارد تحت عنوان "الإسلام الديموقراطي المدني"[2]، الاتجاهات الأساسيَّة للمسلمين، وبحثت في الفوائد المُترتّبة عليها؛ بمعنى البحث عن شكل الإسلام والمسلمين الذي ينطبق عليه الإسلام الديموقراطي المدنيّ، وهي أربع اتجاهات: الأصوليّون، والتقليديّون، والحداثيّون، والعلمانيّون.

نجد في الرؤية الأميركيَّة عدم إمكانيَّة دعم الأصوليّين والتقليديّين -إلا لأسباب تكتيكيَّة-، بينما الحداثيّون والعلمانيّون هم الأقرب إلى الغرب من حيث القيم والسياسات. ولأن العلمانيّون غير مرحب بهم في العالم الإسلامي بسبب انتماءاتهم الأيديولوجية، فإنَّ الخيار الأفضل يكمن في دعم الحداثيّين لأنّهم الأكثر فاعليَّة على مستوى التحوّل في العالم الإسلاميّ نحو القيم الغربيَّة.

من هنا تقترح الدراسة مجموعة من الخطوات العمليَّة الهامة عند مطالعة أوجه وأشكال استهداف الدين والتي تكمن في دعم الحداثيّين عبر الآتي:

  • نشر أعمالهم وتوزيعها بأسعار مدعمة.
  • تشجيعهم على الكتابة للجماهير العريضة والشباب.
  • دمج آراءهم في مناهج التعليم الإسلامي.
  • منحهم منابر عامة.
  • نشر آرائهم وتفسيراتهم وفتاويهم على نطاق واسع لمنافسة آراء وفتاوى الأصوليين والتقليديين.
  • طرح "العلمانية و"الحداثة" كبديل ثقافيّ للشباب "الساخط".
  • تعبيد الطريق نحو الوعي بالتاريخ والثقافة الجاهليَّة السابقة على الإسلام في المناهج الدراسيَّة للبلدان الإسلاميَّة. (ليتبيّن أن الإسلام التقليديّ والأصوليّ -بحسب زعمهم- عمل على الانحدار بالمجتمع والقيم الاجتماعيَّة).
  • المساعدة في تطوير منظّمات المجتمع المدنيّ المستقلّة من أجل تعزيز الثقافة المدنيَّة.

من جهة ثانية تقترح الدراسة وضع خطط وبرامج للتقليل من انتشار الإسلام الأصوليّ والتقليديّ من خلال الآتي:

  • تشجيع الخلافات بين الإسلام الأصوليّ والتقليديّ.
  • تشجيع التعاون بين الحداثيّين والأصوليّين.
  • زيادة وجود الحداثيّين ونشاطاتهم داخل المؤسَّسات التقليدية.
  • التمييز بين القطاعات المختلفة للتقليديّين وتشجيع أقربهم للحداثة، ويذكرون على وجه الحصر أتباع المذهب الحنفي الذين هم بنظرهم تقليديّون قريبون للحداثة.
  • تشجيع انتشار التصوّف والعمل على تقبّل المجتمع للمتصوفة (يحمل المتصوفة آراءً مَرنة تُمكّنهم من قبول القيم الغربيَّة وإقناع الجماهير بها، ويقدّمون نماذج من الحركات الصوفيَّة مثل تلك التي يقودها فتح الله غولن في تركيا).[3]
  •  

ثانيًا: التديّن الجديد

عالج مجموعة من المفكرين ظاهرة التدين الجديد بمظاهرها الوافدة من الغرب والمتأثّرة بالحداثة الأميركيَّة التي تتناغم إلى حدّ كبير مع قيم الليبراليَّة المطلقة. وكتبوا محلّلين ضروراتها في ظلّ صيرورة العالم الجديد البعيد عن الأيديولوجيَّات التقليديَّة التي أثبتت عدم جدواها في العالم المعاصر حسب ادعاءاتهم.

يشير البعض إلى أنَّ انتشار مظاهر التديّن الجديد هو من إفرازات الثورة التكنولوجيَّة الحديثة والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ممّا أدّى إلى صياغة شخصيَّة إسلاميّة جديدة ابتعدت عن النمط الكلاسيكيّ والتقليديّ في التديّن، وباتت تعمل للموائمة بين منظومة الإيمان المستجدة ومتطلّبات الحداثة.

كما طغى على الإسلام الشبابيّ الحديث البُعد الفرديّ، وساهم في زعزعة مواقع الإسلام التقليدي، ويرى البعض أنّ التديّن الشبابيّ المُعاصر يُعيد التديّن الفرديّ كما عَرِفه عصر التنوير الأوروبيّ، فأضحى الدين عبارةً عن وعيٍّ أخلاقيّ يلزمه وجود حريّة في اتّخاذ الخيارات الدينيَّة وينحصر في الحيز الخاص بعيدًا عن الجبر، وهو تديّن متفلت إلى حدود كبيرة من قبضة المؤسّسة والسلطة[4].

وهنا على سبيل المثال نقرأ عن التدين الجديد وأهدافه ونماذجه مع الباحث باتريك هايني في كتابه "إسلام السوق"[5]. فيقول إنَّ المقصود من إسلام السوق هو "الربط بين أنماط مُعيّنة من التديّن الإسلامي والأُسُس الفلسفيَّة للسوق مثل النزعة الفرديَّة والانفتاح وأولويَّة الشأن الخاص على العام والتخلّي عن السرديَّات الأيدولوجيَّة الكُبرى". هذا النمط، كما يبدو من سياق الكتاب، هو نمط تديّن جديد تُمليه التحوّلات في العالم المعاصر ولا مفرّ منها، كما يمتاز إسلام السوق بمجموعة من الميزات التي تُبيّن أُسس الحداثة الغربيَّة في أنماط التديّن عند المسلمين منها:

  • الانفتاح على العالَم على حِساب الهويَّة.
  • غلبة النزعة الفرديّة ونزع القداسة عن الالتزام التنظيميّ.
  • إعادة النظر في فكرة شموليَّة الإسلام لجميع نواحي الحياة وسيولة المبادئ.
  • عدم إيلاء مسألة الدولة والقضايا السياسيَّة والأمور المرتبطة بالطبقة الاجتماعيَّة أيّ اهتمام.
  • التخلّي عن السرديات الكُبرى مثل: إحياء الخلافة، والحاكميَّة، وشعارات مثل "الإسلام هو الحل".

 

يتبع............

 

 


[1]  راجع دراسة: بناء شبكات مسلمة معتدلة الصادرة عن مركز راند للدراسات الاستراتيجية.

[2]  دراسة: " الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات"، اعداد شيريل بينارد، مركز راند للدراسات الاستراتيجيَّة، 2004

[3]  راجع كتاب: الاسلام الديمقراطي المدني، شيريل بينارد، اصدار مركز: تنوير للنشر والاعلام، ترجمة ابراهيم عوض، ط1، 2013، ص: 18،19، 20، 21، 25.

[4]  مقال: التدين الشبابي بوصفه نمطًا منفلتًا من المؤسّسة الايديولوجية، هاني عواد، مجلة "عمران"، العدد 2، خريف 2012

[5]  اسلام السوق كتاب باللغة الفرنسية، للكاتب باتريك هايني. صدرت النسخة الاول منه عام 2005، يُمكن تصنيف الكتاب على أنّه واقع ما بين "الاجتماع الديني" و"الفكر الإسلامي" وقد قامت الجزائرية عومرية سُلطاني الباحثة في العلوم السياسية وحركات الإسلام السياسي بنقل الكتاب إلى العربية ، وقد نُشر الكتاب لأول مرة بالعربية بواسطة مدارات للأبحاث والنشر  مطلع عام 2015 .اما المؤلف فهو باتريك هايني باحث سويسري في العلوم الاجتماعية، حائز على جائزة أفضل أطروحة عن العالم العربي باللغة الفرنسية عام 2001، عمل في مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (السيداج) بالقاهرة، ومُنتَدَب عن وزارة البحث العلمي الفرنسية ومَرصَد الأديان بسويسرا، تعلّم اللغة العربية وتعرّف على الإسلاميين، قضى وقت طويل مُتنقلاً في البلاد العربية وأقام في مصر لفترة طويلة ومن ثم إندونيسيا وتركيا .

<span ms,helvetica,sans-serif\"="">

أضيف بتاريخ: 17/08/2023