مقالات عامة

غزَّة تفضح المعايير المُزدَوَجة لحضارة الغرب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

غزَّة تفضح المعايير المُزدَوجة لحضارة الغرب

الدكتور حسن الزين

 

 

المُقدِّمة:

يُلاحظ من يرصد المواقف الأميركيَّة والغربيَّة اتّساع الفجوة بين مواقف الحكومات الرسميّة المسانِدة للكيان الصهيونيّ في جرائِمه، وبين شريحة مُهمَّة من الجمهور الغربيّ تُعبّر عن مواقفها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الخروج في مظاهراتٍ في كبرى مدن وعواصِم أميركا والغرب وبشكلٍ متواصلٍ لإدانة المذابح والجرائم ضدَّ الإنسانيَّة التي يركبها الكيان الصهيونيّ في فلسطين وغزة.

إنَّ تحليل هذه المواقف يأخذنا الى إشكاليَّة ثقافيَّة عميقة تضرب الحضارة الغربيَّة، إشكاليَّة المعايير المُزدوجة والشعارات الإنسانيَّة التي يستخدمها الغرب في مواقفه وسياساته، وهي إشكاليَّة في وجه الوعي البشريّ، قد تطيح بالمنظومة الدوليَّة من مؤسّسات الأُمم المتّحدة وسائر المنظّمات الدوليَّة، التي كشف التجربة أنَّها مجرّد أدوات للسيطرة والهيمنة.

 

ازدواجيَّة المعايير:

إنَّ إشكاليَّة المعايير ليست قضيَّة سياسيَّة وتكتيكيَّة عابرة، فهي تطرح بقوَّة مسألة فكريَّة تتّصل بالاختلال القيميّ والأخلاقيّ داخل المدرسة الليبراليَّة التي تسود وتحكم الغرب، وبشكلٍ أعمق الجذور الدينيَّة والعنصريَّة والقوميَّة داخل بنية المدرسة الليبراليَّة، وداخل المدرسة والنزعة الرأسماليَّة التي تتحكّم بالليبراليَّة وتستعين بها لتحقيق مصالحها.  كلّها تكشف عن المنهجيَّة الإقصائيَّة التي لا ترى الآخر من منظور تشاركيّ بقدر ما تراه منافسًا لدودًا وعدوًّا مُحتملًا.

زعمت المدرسة الليبراليَّة ومن خلفها الرأسماليَّة الغربيَّة لنفسها وللعالم أنَّها تُناضل وتُقاتل من أجل الإنسان بالمُطلق، في حين أنَّ ممارساتها في فلسطين وفي أحداث غزّة بعد عمليَّة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023 كَشَفت عن حقدٍ حضاريٍّ وعقد نقص تتحكَّم بمفاصل تفكيرها وتوجّهاتها وسلوكيَّاتها المُزدَوجَة، فنراها مُنسَحِقة تبكي على اليهود والمُستوطَنين الصهاينة، فيما هي تغضّ البصر عن مذابح غزَّة وعن الإبادة الجماعيَّة التي تُرتكب، وتميل بكلّ قوّتها ضدَّ الشعب الفلسطينيّ المظلوم بكلّ وقاحة، رُبَّما تكفيرًا عن مظالم معينة ارتكبها الغرب نفسه في صراعاته وحُروبه الداخليَّة في الحربين العالميّتين.

كيف يُمكن أن نقتنع بإنسانيَّة الحضارة الغربيَّة وهي تزعم أنَّ للحيوان حقوق، وأنَّ للبيئة حقوق، وأن للإنسان الشاذ حقوق، وأنَّ لكلّ كائن حيّ حقوق، ومن ثمَّ نلوي هذه الحقوق عندما تصل إلى أطفال ونساء ورجال فلسطين، في صمت القبور أمام جريمة ضدَّ الإنسانيَّة تُرتكب وضَح النهار وأمام شاشات التَلفزة ومنصَّات التواصل الاجتماعيّ.

إنَّ ما يحصل في غزَّة طرحَ سؤالًا جوهريًّا: هل ينظر الغرب فعلًا إلى البشريَّة والإنسانيَّة نظرةً عامّة موحّدة حقيقيَّة غير اصطناعيَّة، وعلى معيار ومقياس إنسانيّ واحد، أم أنَّه يستبطن عنصريَّة حضاريَّة ونعرة عرقيَّة لها خلفيَّات دينيَّة وتاريخيَّة واستعماريَّة؟

هل يقبل الغرب الحقّ والعدل والإنصاف والحريَّة والكرامة لكلّ الإنسانيَّة والبشريَّة من كلّ الأعراق والأجناس بنفس المستوى والدرجة، أم أنَّه يتوارى خلف الشعارات الحقوقيَّة والإنسانيَّة لإخفاء نَظرته الحضاريَّة المعياريَّة المُزدَوجة التي تستخدم فقط لأغراض وأهداف استعماريَّة رأسماليَّة حديثة، رأسماليَّة الشركات والاقتصاد المتحكّمة في السوق.

 

أميركا والغرب؛ تاريخٌ من العنصريَّة:

لقد نظّر آباء وفلاسفة الغرب الحديث للفرد والإنسان المتساوي الحقوق والواجبات، من جون لوك إلى مونتسكيو، ورفعوا شعارات إنسانيَّة جذبت العديد من شعوب ونُخب الشرق والعالم، ولا يزالوان على هذا النهج، إلَّا أنَّ الممارسات الغربيَّة لم تتمكَّن من إخماد وتصفية النزعة العنصريَّة التي تدّعي التفوّق العرقيّ للإنسان الأبيض، ومع الأسف للإنسان البروتستنتي أو الكاثوليكي أو اليهوديّ، وهي المذاهب التي شكّلت الحضارة السائدة في أميركا وبلدان الغرب الأوروبيّ.

إنَّ نظرة فاحصة على عمق الأفكار التي جسّدت قيم الحضارة الغربيَّة تُحيلنا إلى جذور تبشيريَّة وتطلّعات دينيَّة ترتدي ثوب المُعاصرة والحداثة، فهناك في عمق الليبراليَّة قيم بروتستانتيَّة وكاثوليكيَّة ويهودّيَّة مُتغلغلة في ثنايا المنظومة الفكريَّة والأخلاقيَّة والحقوقيَّة وفي الحسابات الاستراتيجيَّة للسياسات والمواقف والمعايير الغربيَّة.

إنَّ من يقرأ تاريخ القرون السالفة يصل إلى هذا الاستنتاج، فنجد ذلك بوضوح عند وصول الأوروبيّين لأستراليا مثلًا إذ لم يبقَ فيها سوى آثار من الشعوب الأصليَّة حتى باتوا يدرسونها على أنَّها فلكلور وحالات انتروبولوجيّة، كما نجده في تاريخ الإبادة التي تعرّض لها المسلمون الأندلسيّون على يد الحضارة الأوروبيَّة في محاكم التفتيش لتكتشف بما لا يدع مجالًا للشك بأنّها حضارة قامت على الدماء والإقصاء وطرد الآخر.

 دأبت أميركا وبريطانيا وبلدان الغرب على ارتكاب إبادات ومذابح جماعيَّة بحقّ الهنود الحمر والسكان الأصليين والأفارقة السود، ويذكر المؤرّخون ما قام به الجنرال جورج روجرز كلارك ورجاله من أعمال قطع الرؤوس وسلخ الجلود، فكانوا يتباهون بعدد «فروات» رؤوس الهنود التي يعلّقونها على خصرهم، كما تشير سجلّات المكتبة التاريخيَّة لولاية "إلينوي" الأميركية أنَّ كلارك قطع وحده 73 فروة رأس في حملته على هنود «الشاوني»[1].

فَصَّل المؤرخ منير العكش في كُتِبه سيرة جورج واشنطن «مالك العبيد[2]» و«القاتل الديني[3]»، والذي كان يُطبِّق وصيَّة توراتيَّة حرفيَّة وفق ما كان يؤمن: «أبد سكان أرض كنعان ولا تُشفق عليهم، اقطع حناجرهم، اذبحهم جميعًا رجالًا ونساءً وشيوخًا، وأطفالًا وبهائم، ليتمجّد الرب بذلك». فوق كل هذا، كان «الرئيس المؤسّس» كاذبًا ومخادعًا، فيتّضح هذا الكذب من خلال عدد الاتفاقيَّات التي وقّعها مع الهنود الأصليّين بهدف تحييدهم عن الصراع مع غيرهم من الهنود، أو حتى إشراكهم فيه ثم قتلهم لاحقًا، كما حدث مع الزعيم وايت آيز من شعب الدولاوير، الذي سُمِّم بالجدري بعد أسبوعين فقط من توقيع المعاهدة معه، رغم أنه كان من أبرز المؤيّدين لتلك الاتفاقيَّات[4].

 

غزّة فضحت أميركا والغرب:

تتكرر اليوم مشاهد الإجرام وتبريرها وتسويغها على يد الكيان الصهيوني المؤقت، هذا الطفل المدلّل لأميركا والغرب، عن طريق المعايير المُزودَجة وطريقة تفسير وتوجيه هذه المعايير بما يخدم أغراضهم بثوب "حداثي" تبريري يعطي الضوء الأخضر لإبادة الشعب الفلسطيني تحت ذرائع وعناوين واهية ومُضللة منها "مكافحة الإرهاب" و"الدروع البشريَّة"، و"حق الدفاع عن النفس". وقد كشف وزير خارجيَّة الكيان الصهيونيّ هذا الضوء الأخضر عندما قال إنَّ " المجتمع الدوليّ سيبدأ بممارسة ضغوط ثقيلة علينا وسيتحوّل الضوء الأخضر الذي أعطانا إيّاه عشيَّة عمليَّة 7 أكتوبر من برتقالي إلى أحمر في غضون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع".

الأكثر من ذلك، أنَّ هذا الغرب ساهم في منع وصول المساعدات، ورفض الضغط على الكيان المؤقّت لإيصال المساعدات إلى غزَّة المُحاصرة، تحت ذريعة الخشية من استفادة حركة حماس والمقاومة الفلسطينيَّة من هذه المساعدات، ضاربين بكلّ اتفاقيَّات جنيف - التي شرّعوها وروّجوها بأنفسهم- عرض الحائط، رغم أنَّ من يقرأ هذه الاتفاقيَّات يجد أنّها تُنظِّم – بالظاهر - بشكل مفصّل قواعد وأخلاق الحرب في كلّ الحالات، ولا تسمح بمثل هذه الأعمال على الإطلاق، وهو ما أقرّت به عشرات المنظمّات الدوليَّة ومنظّمة الأمم المتحدة.

يتضح لنا، في ضوء ما سبق، حجم الخلفيَّات العنصريَّة الكامنة في مواقف الإدارة الأميركيَّة وحكومات الغرب اتّجاه المذبحة، على الرغم من أنَّ أمين عام الأمم المتحدة "غوتيريش" أكّد ارتكاب جرائم دوليَّة مُصنَّفة بأنَّها جرائم حرب وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة في غزة، وكذا فعلت منظمة هيومان رايتس واتش.

يمكن القول إنَّ الغرب يعيش اليوم أسوأ جولاته وحالاته وانكشافاته الحضاريَّة، التي يمكن وصفها بمرحلة انفصام الشخصيَّة الحضاريَّة، حيث بلغ انفصام النُخبة الحاكمة عن منظومة القيم والشعارت التي ترفعها بمساحات ودرجات كبيرة وواسعة، أنتجت فجوة أخلاقيَّة مزَّقت صورة هذه الحضارة، وأحدثت اضطرابًا فكريًّا وثقافيًا وإفلاسًا أخلاقيَّا، عبَّر عنه بعض المؤثّرين على منصّات التواصل الاجتماعي وبعض المقالات المُنصِفة.

لذلك، شهدنا نزول الملايين من المواطنين والشباب والنساء الأوروبيّين، وسمعنا مواقف العديد من النواب في البرلمانات الأوروبيَّة والأميركيَّة، وتصريحات لفنّانين ونجوم كبار أيَّدت قضيَّة فلسطين، وحقّ الشعب الفلسطيني بإقامة دولته مُقابل الفصل العنصريّ، وأدانت المذبحة في غزة بخلفيَّات إنسانيَّة.

 لقد فسّر البعض هذا التحرّك بوصول الحقائق من خلال الفيديوهات المؤثّرة لقتل الأطفال والنساء والشيوخ في غزَّة، وهدم المساكن على رؤوس ساكنيها بفعل منصّات التواصل الاجتماعي. وتحدّث بعض الخبراء عن طفرة الجيل «Z» الشاب الذي وُلد بعد العام 2000، فهو أكثر استقلاليَّة في تفكيره وموقفه من الجيل السابق. كما يرى الخبراء أن الجيل «Z» نشأ في العصر الرقمي، حيث أفاق على دنيا فيها منصَّات التواصل الاجتماعي وهواتف ذكيَّة وتطبيقات لا تُحصى، وتمتّع بوصول غير مسبوق إلى المعلومات من مصادر متنوّعة، جيل واعٍ وعلى دراية كبيرة بما يحمله من ضغوط اقتصاديَّة وسياسيّة واجتماعيَّة ورثها من أجيال سابقة[5].

لم تكتفِ حكومات أميركا وبلدان الغرب بمنع التظاهرات الشعبيَّة، بل قمعت حريَّة التعبير على منصات التواصل الاجتماعيّ، وقامت شركات صناعة منصّات التواصل والانترنت، بخاصّة غوغل ويوتيوب وميتا وواتسأب وتيك توك، بحظر ومنع وتضليل أي كلمة أو صورة أو مقطع فيديو قد تُعطي الفلسطينيّ بعضًا من حقوقه في المقاومة والتحرّر[6].

 

الخاتمة:

لقد أحدثت عمليَّة طوفان الأقصى والمعركة التاريخيَّة في غزة وفلسطين زلزالًا مدوّيًّا خَرَق وهَشَم صورة الغرب المُنافق، وكَشف زيف حضارته ومعاييره المُزدَوجة التي تستبطن أحقادًا عرقيَّة وعقائدًا عنصريَّة، كان يتمّ تغليفها بشعارات مُصنَّعة يتمّ تسويقها والمُتاجرة بها لدى شعوب العالم باسم حقوق الإنسان وحريَّاته لاستغلاله واستعماره بالقوة الناعمة، وسيكون لهذا الزلزال تداعيات على وعي وإدارك الأجيال الجديدة والحاليَّة التي استعادت قضيَّة فلسطين التي أحياها شُهداء غزَّة الأبرار، وسيكون لذلك تداعيات كبيرة في بلدان وشعوب الغرب نفسه على مستوى أجياله الصاعدة التي تكشَّف لها بعضًا من النفاق الذي يتحكّم بنُخبها وحكوماتها المتوحّشة البعيدة عن القيم الإنسانيَّة. 

 

 

 


[1]عبد الرحمن جاسم، منير العكش إبادة أهل الأرض من أميركا إلى فلسطين، جريدة الأخبار، نُشر بتاريخ 5/9/2015.

[2] تشير الوثائق إلى أنه كان يمتلك أكثر من 123 عبدًا، وكان معظم أسنانه في أواخر حياته مُقتلعة من عبيده وهم أحياء كي يستخدمها للوك طعامه.

[3] شعارات حملاته على الهنود: أزيلوا كلاب جهنم هؤلاء من على وجه الأرض.

[4]راجع: سلسلة كتب الباحث منير العكش تحت عنوان (أميركا والإبادات الجماعيَّة وأميركا والإبادات الثقافيَّة)، وهو صاحب مقولة أننا لن نفهم قضية فلسطين دون أن نفهم ما قامت به أميركا وبريطانيا من إبادات واستعمار.

[5] علي عواد، طوفان فلسطين يجتاح العالم- إسرائيل تخـسر الجيل Z، نشر بتاريخ 8 تشرين الثاني 2023، جريدة الأخبار

[6] قام تطبيق تيك توك TIKTOK منذ 7 أكتوبر تشرين الأول بحذف وحجب حوالي 775 ألف مقطع فيديو، وأغلق أكثر من 14 ألف بثّ مباشر تحت ذريعة الترويج للعنف والكراهيَّة والارهاب.

أضيف بتاريخ: 29/11/2023