مقالات داخليّة

دور معرفة الذات ومعرفة العدو في المواجهة الناعمة (الجزء الأوَّل)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

دور معرفة الذات ومعرفة العدو في المواجهة الناعمة[1] (الجزء الأوَّل)

ترجمة الدكتور علي الحاج حسن

 

 

المُقدّمة:

نجد من جملة المواضيع التي اهتمّ بها القرآن الكريم في مسيرة صناعة الإنسان، التأكيد على معرفة الذات. وفي هذا الإطار تأتي أبرز وأهمّ الطرق التي اعتمدها القرآن الكريم -وخلافًا للكتب السماوية الأخرى- أي الاهتمام بقصّة الخلق والتعمّق فيها من زوايا متعدّدة، وكان هذا الاهتمام من الناحية المضمونية على شكلين:

  1. إعادة التعرّف الفيزيائي على حركة الخلق وخلق البشر بالالتفات إلى سنّة النكاح والتناسل وحركة التكوين الجسدي والفيزيائي لظهور كل إنسان.
  2. الاستفادة من قصة خلق الإنسان الأوَّل مع كافّة المسائل المحيطة بها بهدف فهم الإنسان وتحليل استعداداته وضَعفه وأصدقائه وأعدائه.

الإنسان من وجهة نظر القرآن موجودٌ مركّب من جسم ترابيّ وروح سماويَّة، ويؤدّي هذا النوع من التركيب إلى جمع نقاط متعدَّدة من القوَّة والضعف فيه، ويوجب هذا الخلق العجيب والجامع للأضداد، الثناء على حُسن خَلْق الله تعالى  ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[2]. يحذّر القرآن الكريم، على أساس هذه الرؤية، الإنسان باستمرار أنّك إذا كنت إلى جانب الحق في الصراع القائم بين الحق والباطل فستكون من الذين تسجد لهم كافة الكائنات، وإذا كنت إلى جانب الباطل فسيكون مصيرك السقوط وستكون ﴿إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾[3].

ولا مفر للتخلّص من هذا الفساد والضياع سوى معرفة الذات ومعرفة العدو. بالاستناد إلى آيات القرآن الكريم فإنَّ العوامل والأمور التي تحصل على اثر عدم معرفة الذات بشكلٍ صحيح وإعادة المعرفة بنقاط الضعف والنقصان عند الإنسان والتي تكون سببًا لنفوذ الباطل والحرب الناعمة عند الإنسان، على النحو الآتي:

  1. الضعف: ﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا﴾[4] .
  2. الظلم: ﴿إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾[5].
  3. العجلة: ﴿وَكَانَ الإنسان عَجُولًا﴾[6].
  4. عدم الشكر: ﴿وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ كَفُورًا﴾[7].
  5. البخل: ﴿وَكَانَ الإنسان قَتُورًا﴾[8].
  6. الجدل: ﴿وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا﴾[9].
  7. الحرص: ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا﴾[10].

نُدرك، ومن خلال الدقّة في هذه العبارات وجود أرضيَّة للعداء والضلال، حتى لو لم يكن هناك عدوّ خارجي، وذلك لأنّ  ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾[11].

أشار القرآن الكريم في بعض الأماكن وبعبارات متعدّدة إلى الأرضيَّات النفسيَّة والداخليّة للحرب الناعمة ومنها:

  • ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾[12]
  • ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾[13]
  • ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾[14].
  • ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾[15]
  • ﴿وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾[16] / ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾[17]
  • ﴿وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ﴾[18]

نُدرك ومن خلال دراسة الأبعاد الوجوديَّة للإنسان من وجهة نظر ما يريده القرآن من الإنسان، أنَّ القرآن يشير إلى معرفة الآفَّات التي تَطال الاستعدادات، لذلك يُمكن الادّعاء أنَّ دائرة تكليف الإنسان والقيام بالوظائف أمام الخالق، تتمحور حول ثلاثة أُطر:

  1. إطار الفكر (إظهار الفكر والمعرفة).
  2. إطار الميل والجذب (توجيه المحبة والتعلّق والاعتقاد والقيمة).
  3. إطار الطبع والفعل (الأعمال والسلوكيَّات).

يُمكن، ومن خلال هذه الأطر الإنسانيّة الثلاثة أي العقل والقلب والجسم، تعريف حدود تكليف الإنسان في كافة العلاقات بخاصّة علاقته مع الله تعالى، ومن خلال هذه الأطر الثلاثة يتمّ تعريف مراتب ومصاديق الحرب الناعمة الداخليَّة، ويُمكن للإنسان أن يشخّص عمليَّة تصنيف الحق أو الباطل.

إنَّ العامل الأساسي لنفوذ وتأثير الحرب الناعمة وتقابل حركة الحق والباطل، عبارة عن حالات تنبع من داخل نفس الإنسان، وتنشأ من آثار الجهل وإغلاق أبواب المعرفة، ويَترك هذا الأمر آثارًا عديدة من أبرزها:

  • عدم التعقّل والتفكير والتدبّر.
  • تعطيل قوى العقل الرحمانية وكذلك القلب والفطرة.
  • ظهور انحرافات في الميول والرغبات، الحب والبغض والرغبات البشريَّة التي عبّر عنها القرآن الكريم بعبارة "حب الدنيا" ذات المصاديق العديدة من أمثال:
  • ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾[19]
  • ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾[20]
  • ﴿أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [21]

وعندما يحصل هذا الانحراف الكبير في مسائل الميول والرغبات والاعتقادات عند الإنسان، تخرج هذه الآثار الداخليَّة لتتجلّى في مسائل خارجيَّة كالقول والسلوك وتظهر على شكل الكفر والشرك والنفاق والرياء والتظاهر.

 

الخلق وإعادة التعرّف على أوّل وأخطر عدوّ للإنسان

كما تقدّم فإن من أهمّ القصص التي أكّد عليها القرآن الكريم وذكرها سبع مرّات، قصة خلق آدم (ع) وحواء (ع) التي تتضمن خمس مراحل:

الخلق – السجود – الإباء والإنكار – الإغواء – الهبوط.

وكانت أوج نقطة هذه القصة مع حضور شخصيَّة من جماعة الجن يُسمّى إبليس، الذي اتخذ لقب الشيطان الرجيم من خلال سلوكه. تعود جذور هذا النوع من سلوك الشيطان في الحقيقة إلى مسألة الضياع الحقيقيّ والانزلاق في مستنقع حب الذات والتكبّر، والحقيقة أنَّ من هذه المرحلة بالذات كانت بداية بناء الباطل في الماضي. صحيح أنَّ إبليس لم يكن من الملائكة ولا من جنس البشر لكنَّه استطاع، وعلى أساس السنّة السماويَّة، الوصول إلى مراتب الملائكة بسبب عبادته وعبوديّته، وقد ساهمت عبادته الكثيرة هذه في أن ينظر إلى نفسه نظرة غرور. أمَّا ظهور وبروز هذا الغرور فكان على إثر حادثة وامتحان جعل إبليس يُقارِن بين نفسه والمخلوقات الأخرى ممّا دفع به إلى نسيان العلاقة بينه وبين الخالق، وهذا الذي أودى به إلى السقوط. أدّى هذا الغرور بإبليس إلى التكبّر والكفر في مقابل الله تعالى، واكتسب في مواجهته للإنسان الحقد والنفور والكراهيَّة. وبما أنَّ سنّة الله تعالى تقوم على الإمهال (إمهال الكفّار) وعدم إنزال العذاب السريع، عمل الشيطان للاستفادة من هذه الفرصة ليتغلّب على منافسه الذي هو أشرف المخلوقات. من هنا بدأ التأسيس للعداء والحروب والمواجهة، وبما أنَّ هذا النزاع يميّز بين العبوديَّة والاستكبار، كان الإقبال على عبوديَّة الله يحمل عنوان الحق وكان الاستكبار أمام الله تعالى يحمل عنوان الباطل.

إنَّ موضوع نزاع وخلاف الإنسان والحياة الإنسانيَّة ومتعلّقاتها، هي الحق والباطل في كافة أبعاد حياة الإنسان. البحث الهامّ هنا هو أسلوب وأداة وسلاح وكيفيَّة هذه الحرب وهذا النزاع. مع العلم، وبحسب الاختلاف بين ماهيَّة الإنسان والجن ولأن الإنسان هو الأشرف حيث لا يوجد أيّ من مخلوقات الله تعالى أعلى وأشرف من الإنسان، فلا يوجد أيّ قرينة على تسلط أو نفوذ الشيطان الفيزيائي والواضح على الإنسان. ولكن وبما أنَّ النفس الإنسانيَّة تحمل مرتبة الأمّارة وبما أن هذه النفس كالجنّ وإبليس غير ماديَّة وغير محسوسة، لذلك هناك شيء من السنخيَّة والمُماثلة بين الإنسان والجن، وهذه الخاصيَّة هي نقطة عبور الشيطان إلى الإنسان عبر الإغواء والوسوسة للنفس البشريَّة وتشديد الإغواء والوساوس الباطنيَّة لتكون هذه الأمور بمثابة أسلوب الشيطان للنفوذ إلى الباطن والتغلّب على منافسه، وهذا ما يُعبَّر عنه اليوم بمفهوم "الحرب الناعمة"؛ تعني الحرب الناعمة هنا نوع من العمل للتأثير والتغيير في أفكار وميول الإنسان بواسطة الوسوسة والاغواء.

أمَّا دائرة الحرب الناعمة فهي منذ لحظة بداية تمرّد إبليس ورفضه السجود لآدم (ع) إلى "يوم الوقت المعلوم" الذي عبّرت عنه الرواية بزمان الظهور[22]. إن الحرب الناعمة الخفيَّة هي في الحقيقة أساس كافَّة الحروب الصلبة ونصف الصلبة والناعمة على امتداد التاريخ، وذلك لأنَّ إبليس يعمل بكلّ قواه بعد أن طُرد من السماوات والملكوت على إغواء وإضلال الإنسان.

عمل الشيطان في هذه المرحلة وطبّق الآية الشريفة ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)[23] للتأسيس لحزبه من الجن والإنس فكان حزب الشيطان وذلك بناءً على الآية الشريفة ﴿وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكم وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾[24].

الشيطان من وجهة نظر القرآن هو سبب كافّة أشكال العداء والاصطفافات والتحزبّات، وهو المدير الخفيّ لحركة الباطل التي كانت تستهدف الأنبياء وأولياء الحق، وأمّا هدفه فهو قيادة البشريَّة نحو الظلم والفساد والحؤول دون تحقق مسألة ظهور الإمام المهدي الموعود "عج".

 

يتبع.....

 

 


[1]  مُترجَم عن كتاب جنگ نرو از ديدگاه قرآن، تدوين حسين جوشقانى، انتشارات ساقي، طهران، ط2، 1390 ه.ش[2012م]

[2]  سورة المؤمنون، الآية 14.

[3]  سورة الفرقان، الآية 44.

[4]  سورة النساء، الآية 28.

[5]  سورة إبراهيم، الآية 34.

[6]  سورة الإسراء، الآية 11.

[7]  سورة الإسراء، الآية 67.

[8]  سورة الإسراء، الآية 100.

[9]  سورة الكهف، الآية 54.

[10] سورة المعارج، الآية 19.

[11]سورة يوسف، الآية 53.

[12] سورة المائدة، الآية 30.

[13] سورة النساء، الآية 79.

[14] سورة ق، الآية 16.

[15] سورة الحشر، الآية 9.

[16] سورة طه، الآية 96.

[17] سورة النساء، الآية 128.

[18] سورة النجم، الآية 24.

[19] سورة آل عمران، الآية 14.

[20] سورة القيامة، الآية 20.

[21] سورة البقرة، الآية 165.

[22]  تفسير العياشي، ج2 ص 242، الحديث 14، مطبعة طهران العلمية، 1380 ق.

[23]  سورة الناس، الآيتين 5 و6.

[24]  سورة الأنعام، الآية 121.

أضيف بتاريخ: 04/12/2023