بسم الله الرحمن الرحيم
دور معرفة الذات ومعرفة العدو في المواجهة الناعمة[1] (الجزء الثاني)
ترجمة الدكتور علي الحاج حسن
يختار كل عدوّ عادة مجموعة من الأصول التي يستخدمها لإركاع منافسيه بما يتناسب مع أوضاع وظروف الصراع، وعليه يُخطط لمجموعة من الطرق والمراحل للوصول إلى تلك الأهداف المطلوبة.
أما العوامل التي تلعب دورًا أساسيًّا في تعيين هذه السياسات الأصوليَّة نجد:
ووفق هذه الاستراتيجية، فإن الشيطان لا يلجأ في حربه إلى سياسة الدفع والضرب والهرب، بل يعتمد على سياسات أصوليّة، ويتابع على أساسها تكتيكات بما تقتضيه قدرته وبما يتناسب مع نوع المخاطب. وأما هذه التكتيكات فهي عبارة عن:
سياسة الهجوم من كافة الجوانب: يُخطط الشيطان للهجوم عادة من جوانب أربعة يتحدّث عنها القرآن الكريم على النحو الآتي: ﴿قالَ فَبِما أغْوَيْتَنِي لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ "[2] .
وهنا يُطرح السؤال حول ما يقصده القرآن الكريم من هذه الجوانب الأربعة؟
أمَّا الجواب فنجده في حديث عن الامام الباقر(ع) قال:" ثم لآتينهم من بين ايديهم" معناه: أهون عليهم أمر الآخرة "ومن خلفهم" آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم "وعن ايمانهم" أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة "وعن شمائلهم" بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم"[3].
سياسة الكمين والاستفادة من الغفلة: الشيطان يكمن باستمرار وهو ينتظر غفلتنا. تتحدّث آيات القرآن الكريم حول هذا الانتظار: ﴿قالَ فَبِما أغْوَيْتَنِي لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ [4]. والعدو يبدأ العمل بمجرد انشغال الإنسان وغفلته ليباغته بما يريد. في هذا الإطار يُمكن تقسيم البشر إلى مجموعتين: الأولى تتكوّن من الأشخاص العُمي الذين تكون غفلتهم واضحة قد بلغت الأوج، والثانية تتكوّن من الأشخاص الذين تكون غفلتهم في لحظاتٍ دون سواها حيث يغفلون عن الله تعالى للحظات يستغلّها الشيطان ليوسوس لهم، ثم إذا استفاقوا وعادوا إلى وعيهم يلتفتون إلى الخطر الذي يشكّله العدو حيث يتمكّنون من النجاة من كمين الشيطان بما يمتلكون من التقوى ولا يسمحون للعدو من الاستفادة منهم.
ورد في القرآن الكريم حول هذا الأمر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[5].
عليه، فالإنسان التقي يتخلّص من وساوس وكمائن العدو بما يمتلك من قوة التقوى، وأمَّا الإنسان غير التقي الغارق في العمى فقد أضاع وعيه وفقد نفسه وآخى العدو الذي أخذ سبيله إليه.
يتحدّث القرآن الكريم حول الذين وقعوا في الكمين ويقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾[6].
سياسات التدرّج والخطوة تلو الخطوة: صحيحٌ أنَّ العدو يعتمد سياسة الهجوم الكامل للحضور إلى الساحة، إلّا أنَّه يتقدّم فيها خطوة بخطوة، ويمهّد في كل خطوة للخطوة اللاحقة. وبما أنَّ فطرة الإنسان صافية غير ملوّثة وتميل نحو الطهارة والكمال، فإنَّ ارتكاب الجرائم الكبيرة عن وعي ومعرفة صعب، لا بل غير ممكن في البداية، لأنَّ حياة الإنسان الذاتيَّة تمنعه من العبثيَّة، من هنا يلجأ العدو إلى سياسة الخطوة تلو الخطوة آخذًا بعين الاعتبار روحيَّة الإنسان، فيستعين بالعديد من المهارات ليقوم بإغراق الإنسان شيئًا فشيئًا بالمعاصي الكبيرة؛ ولسياسة الخطوة تلو الخطوة مرحلتان:
سياسة المتابعة والاستمرار: لا يحتاج هذ الأصل لمزيد من التوضيح بعد ذكر الأصول المتقدّمة، حيث أنَّ الاستفادة من فعل المضارع "يوسوس" في الآية الشريفة ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾[7] يبيّن استمرار ودوام الوسوسة، والواضح أنّ وسوسة وحرب العدو لا تنتهي، وهكذا تستمر على هذا المنوال.
سياسة الهجوم الجمعي: يدعو الشيطان جنوده عادة إلى الاصطفاف مقابل الحق على شكل جمعي. يقول القرآن الكريم في هذا الاطار: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[8] .
تُبيّن هذه الآية الشريفة أنَّ الشيطان ليس وحيدًا، بل يقف إلى جانبه حزب وجمع قبلوا أهداف الشيطان ويسيرون معه نحوها.
ينبغي، ولأجل مطالعة ودراسة الحروب بين الحق والباطل والتي تهدف إلى تغيير مزاج المؤمنين طوال التاريخ، أن نتعرّف بدايةً على إطار ودائرة وأساليب وحِيَل العدو، ثم التعرّض بعد ذلك بشكل تفصيليّ للمصاديق.
بناءً على وجود حركتي الحق والباطل في الحرب الناعمة ودراستهما من الناحية التاريخية ودراسة جبهة الباطل منذ زمان إبليس إلى الآن، ينبغي دراسة الأبعاد التي تتعرّض للهجوم في جبهة الحق، فما لم يجرِ التعرّف على دائرة القيم والاستعدادات الموجودة في جبهة الحق، لا يمكن معرفة مراكز هجوم الأعداء، وبعد معرفة إطار ودائرة قيم الحق، نصل إلى دراسة طرق وتكتيكات هجوم العدو الناعم.
يشكّل التوحيد والمعارف التوحيديَّة، التي يتشكّل على أساسها هيكل المعارف ونموذج الحياة التوحيديَّة، الحجر الأساس لبناء الحق. وبما أنَّ الاشخاص العاديون عاجزون عن الوصول إلى هذه المعارف وتطبيق هذه النماذج، لذلك كان لا بدّ من واسطة بين السماء والأرض لتكون بمثابة القيادة السماويةّ للناس. وعلى هذا الأساس فان العناصر المفتاحيَّة لجبهة الحق على النحو الآتي:
بما أنَّ دائرة جبهة الحق واسعة في كافة الشؤون والأبعاد الفرديَّة والاجتماعيَّة، كذلك دائرة الهجوم الناعم للعدو واسعة وعريضة أيضًا، حيث يستخدم العدو في هجومه الواسع الكثير من الطرق والتكتيكات، قد يظهر هذا التنوّع أو الكثرة إما على شكل طولي أي في قالب الخطوة تلو الخطوة أو بشكل عرضي، وقد يحصل الاستفادة من أكثر من تكتيك في زمانٍ واحد. أما أبرز أصول هذه الطرق أو هذه الحيل :
والحمدلله ربّ العالمين
[1] مترجم عن كتاب جنگ نرو از ديدگاه قرآن، تدوين حسين جوشقانى، انتشارات ساقي، طهران، ط2، 1390 ه.ش[2012م]
[2] سورة الأعراف، الآيتين 16 و17.
[3] بحار الانوار، العلامة المجلسي، ج11، ص 113.
[4] سورة الأعراف، الآية 16.
[5] سورة الأعراف، الآيتين 201 و202.
[6] سورة الروم، الآية 10.
[7] سورة الناس، الآية 5.
[8]سورة فاطر، الآية 6.