بسم الله الرحمن الرحيم
معرفة الحرب الناعمة(الجزء الأوَّل)[1]
ترجمة الدكتور علي الحاج حسن
عُرفت الحرب أنّها جزءٌ طبيعيٌّ من طبيعة البشر، والتي تصل في قِدمها قِدم تاريخ البشريَّة، وكان لها العديد من التقلبات والتطوّرات، كما تمّ تصنيفها بحسب مقارباتٍ متنوّعة؛ ومن أكثر أنواع التصنيفات المعروفة، التصنيف على أساس شِدَّة الحرب، حيث قُسّمت إلى الصراعات قليلة الشدّة، أو متوسّطة الشدّة أو عالية الشدّة. وهناك تصنيفٌ ثانٍ، يفكّك الحروب بحسب نوع استخدام السلاح إلى حروبٍ باردة وحارة. كذلك قُسّمت الحروب إلى حروبٍ علنيّة النزاع أو مخفيّة النزاع، أو حروب مُعلنة، أو نصف مُعلنة أو مَخفِيَّة. وهناك نوع آخر من التصنيفات بلحاظ موضوع الحرب، وقسِّمت إلى حروب سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو ثقافيَّة أو عسكريَّة. وفي النهاية، تمّ تصنيف الحروب على أساس "أدوات وأساليب فرض الإرادة".
بناءً على ما سبق، تنقسم الحروب إلى حربٍ ناعمة وحربٍ صلبة. في البدء، قام جوزف ناي بهذا النوع من الفصل في تقسيمه للقدرة ناعمة وصلبة. وقد نُشر مقال حول القوة الناعمة عام 1990م في مجلة "السياسة الخارجية الأمريكيَّة" العدد 80، وكان هذا المفهوم مورد نقاشٍ وتوسيع من قِبل بعض الباحثين في العقدين الأخيرين.
كما أوجبت الاتّجاهات والخطابات الأمنيَّة الناعمة الأخيرة في حصول تحوّلٍ في مفهوم القوَّة والأمن والتهديد، ففي الاتّجاه التقليديّ، تمّ تعريف الأمن بأنّه أمر يحصل بواسطة فقدان عاملٍ آخر يُشار إليه على أنّه تهديد. ولهذا الاتّجاه والخطاب سابقة تاريخيَّة طويلة، والمؤشّر البارز فيه التأكيد على البعد العسكريّ في تحليل الأمن والتهديدات. على هذا الأساس، يتمّ التوجّه والإصرار على عنصر القوَّة العسكريَّة في مواجهة التهديدات والاستراتيجيَّة المعتمدة في هذا المجال استنادًا على زيادة القوَّة العسكرية. أمّا في الاتّجاه والخطاب الجديد للأمن القوميّ، فالتهديدات والقوَّة متعدّدة الأوجه وذات أبعادٍ مختلفة. بعبارةٍ أخرى، تتأثّر ظاهرة التهديد والقوَّة بالظواهر المادّيَّة وغير المادّيَّة المختلفة، ولها وجوهًا ناعمة وصلبة.
بناءً عليه، تشمل التهديدات بحسب هذا الاتّجاه، التهديدات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة والعسكريَّة وغيرها، كذلك فإنّ للقوَّة نفس تلك الأبعاد المُختلفة. وهكذا، يصبح الأمن قائمًا على أساس الأمور الناعمة في البيئة القوميَّة والعالميَّة وبعبارةٍ أخرى ستُشكّل القوَّة ذات الأساس الناعم البنية التحتيَّة والجوهر الأصليّ للأمن الشامل في أيّ نظامٍ سياسي.
قامت مجموعة من الباحثين، عبر دراسة المسار التاريخي لنشأة وتطور أنواع الحروب، بتصنيف الحروب من حيث قوّتها وأشكالها وأدواتها المُستخدمة في الوصول إلى أهدافها وإعمال السلطة وسمّتها بتسميات مختلفة. وترى هذه المجموعة أنّ التعرّف على الحرب الناعمة وميادينها ومصاديقها يقتضي دراسة المسار التاريخيّ لنشأة الحروب، أو بعبارة أخرى، دراسة المسار التاريخيّ لتطوّر أنظمة السلطة. فمن وجهة نظرهم، يمكن الإشارة إلى ثلاثة محطّات تاريخيَّة قامت فيها الأنظمة السُلطويَّة بفرض إرادتها على العالم لتأمين مصالحها وأهدافها الحيويَّة، وهي كالآتي:
كما يشير هؤلاء الباحثون إلى أنّ ماهيَّة واستراتيجيَّة السلطة كانت مُتفاوتة عبر التاريخ، وكانت تستخدم في كل مرحلة مصاديق وأدوات وطُرق مُختلفة في فرض الإرادة وتأمين المصالح بما يتناسب مع الأهداف والمصالح والظروف. على سبيل المثال، يشير منصوري (1386هـ.ش) إلى مرحلة الاستعمار ما بعد الحديث بصفته مرحلة الحرب الناعمة أو مرحلة الحروب السياسيَّة-الثقافيَّة؛ إذ تُستخدم فيها كافَّة الأدوات والوسائل في مُختلف أبعادها السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة. ويُقسّم أحمديان وعباسي (1385هـ.ش) الحروب من حيث ماهيَّتها ومسارها التاريخيّ إلى ثلاثة أنواع هي الحروب الصلبة والحروب النصف صلبة والحروب الناعمة. كما يُعرّف عباسي الحرب الصلبة بأنّها عبارة عن إعمال القوّة العسكريَّة لفرض الإرادة وتأمين المصالح، ويكون الهدف في هذا النوع من الحروب احتلال الأراضي، إذ تعتمد الحرب الصلبة على الطرق والأساليب المادّيّة، الملموسة (الصلبة) وتكون مترافقة مع أفعالٍ وسلوكيّاتٍ عُنفيَّة، مثل الإبادة والتخريبٍ الظاهر أو العلني والإلغاء الدفعي واحتلال وضمّ الأراضي. ويرتبط ظهور هذا النوع من الحروب بمرحلة الاستعمار القديم حيث يقوم نظام السلطة بفرض إرادته وتأمين مصالحه من خلال الاحتلال العسكريّ والقتل والسيطرة على الأراضي وضمّها[2].
أمَّا الحرب نصف الصلبة فهي عبارة عن إعمال قوّة النظام السياسيّ-الأمنيّ للسيطرة على الدولة أو السياسة في بلدٍ ما، بهدف فرض الإرادة وتأمين المصالح. ويكون الهدف في هذا النوع من الحروب احتلال الدولة والمجال السياسيّ، إذ تعتمد الحرب نصف الصلبة على استخدام النظام الاستخباراتي-الأمني واختراق الدول بحيث تكون أساليبها مركّبة (صلبة وناعمة). يرتبط ظهور هذا النوع من الحروب بمرحلة الاستعمار الحديث حيث يقوم النظام السلطوي عمليًّ بالسيطرة على نظام السلطة والسياسة لبلدٍ ما من خلال استخدام القوّة الأمنيَّة من دون اللجوء إلى القوّة العسكريّة والاحتلال المادّي للأراضي؛ هكذا يفرض هذا النظام السلطويّ إرادته ويؤمّن مصالحه.
أخيرًا، الحرب الناعمة هي عبارة عن إعمال إرادة ومصالح نظام السلطة من دون اللجوء إلى الصراع بل من خلال احتلال الأفكار والنماذج السلوكيَّة لكافّة الجهات في بلدٍ ما في مختلف المجالات الاجتماعيَّة، فالحرب الناعمة تعتمد على الأساليب الناعمة غير المحسوسة والتدريجيّة. يتمّ هذا النوع من الحروب من دون صدور أيّ ردة فعلٍ مادّيّة، فيكون نوعًا من الاحتلال الشامل غير المرئي والثابت، فيُصار إلى احتلال مختلف الساحات الاجتماعية الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيَّة من خلال فرض ثقافة وفكر وسلوكيَّات نظام السلطة. في الواقع، إنّ هدف الحرب الناعمة هم "الشعب"، في حين كان هدف الحرب الصلبة "الأراضي" وهدف الحرب نصف الصلبة "الدولة". بناءً عليه، تتعلّق الحرب الناعمة بمرحلة الاستعمار ما بعد الحديث أو مرحلة عولمة الثقافة.
كما رأت مجموعة ثانية من الباحثين أنّ العولمة مُرادفة مع الحرب الناعمة، والعولمة من المفاهيم التي أثّرت على كافّة المجالات الاجتماعيَّة في عقد الثمانينيَّات تقريبًا. وقد قُدّمت تعاريف وتعابير مختلفة حول هذا المفهوم وتشكّلت الكثير من الآراء والنظريَّات من قِبَل عُلماء الاجتماع والثقافة والسياسة والعلاقات الدوليَّة. حيث ركّزت كلّ مجموعةٍ من هؤلاء على جانبٍ من جوانب عمليَّة العولمة وتناولت خلفيّاتها وأبعادها وآثارها ونتائجها. ضمن هذا الصعيد، يُعرّف غيدنز عمليَّة العولمة بأنّها ليست سوى نشر الحداثة والثقافة الديمقراطيَّة –الليبرالية، كما يرى ماركس وإنغلز أنّ إدراك تاريخ العولمة وبداية هذه العمليَّة يستلزم إدراك ومعرفة تاريخ الرأسماليَّة، لأنّه برأيهما كان ديدن النظام الرأسمالي الدائم العمل على توحيد النسيج الاقتصادي والثقافي العالمي (تاميلسون،1381)؛ بالالتفات إلى هذا الاتّجاه، يجب رؤية العولمة كتوأم لـ "الرأسمالية" و"التغرّب" والاتحاد" و"توحيد المعلومات والاعتقادات" وفي النهاية "أسلوب الحياة المشترك".
كما يرى هؤلاء الباحثون أنّ ظاهرة العولمة تُشكّل تهديدًا بالنسبة للدول الضعيفة واللاعبين المنفعلين على الساحة الدوليَّة، فهذه الظاهرة هي نوعٌ من السلطة الجديدة، ويُنظر إلى الدول التي تتمتّع بقوّة ناعمة عالية على أنّها "تهديدٌ" للدول المنافسة لها، ومن وجهة نظر "جوزيف ناي" المنظّر للحرب الناعمة، تستطيع الدولة المتمكّنة من ثلاثة أنواع من الجاذبيَّة على صعيد "الثقافة" و"الفكر السياسي" و"السياسة الخارجية" التأثير في ثقافة وسياسات والنماذج الاجتماعية والسياسيّة للدول الأخرى، وتستطيع فرض إرادتها بشكلٍ غير مباشر عليها.
بناءً على ما تقدّم، العولمة هي عبارة عن عمليّة مخططٌ لها، ومفروضة لأجل إعادة بناء المجتمعات على المستوى الدولي؛ وهي نظامٌ يهدف إلى تبليغ وفرض الإيديولوجيا النيوليبراليّة (الليبراليَّة الجديدة) والرأسماليَّة الغربيَّة وفي صدد إشاعة نموذج الحياة الغربيَّة بخاصَّة الأمريكيَّة منها. على هذا الأساس، يرى الباحثون أنّ العولمة مشروعٌ مخططٌ له مُسبقًا من قِبل مراكز القدرة، بهدف فرض نموذج سلوكي معيّن شمولي وذو اتّجاه واحد، ويؤدّي إلى سيطرة الثقافة والقيم الغربيَّة وجعل الآخرين في حالة انفعالٍ. أضف إلى ما سبق أنَّ للعولمة آثارٌ ونتائج عدة من جملتها انهيار الدولة - الشعب، وتحوّل النموذج الحكوميّ والسلوك السياسي، والمخاطرة بالهويّات القوميّة - الدينيّة، وتسلّط النظام الليبراليّ - الديمقراطيّ، وظهور وانتشار ثقافة عالميّة واحدة.
انطلاقًا من هذا الاتّجاه، يمكن القول أنّ عمليَّة ومفهوم العولمة، بصفتها أسلوبًا للسيطرة ومترافقة مع ماهيَّة عولمة الثقافة ونموذجًا سلوكيًّا لليبراليّة الديمقراطيَّة، فهي بلا شكّ تتطابق مع ماهيَّة الحرب الناعمة، وتشمل كافّة الأبعاد السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديَّة وتُقلّل من سعة قوّة وميزان فعاليّة ومشروعيّة واعتبار الدول.
كما يرى مجموعة أخرى من الباحثين أنّ وظيفة الثورات الملوّنة مرادفة لوظيفة الحرب الناعمة؛ بدون أدنى شك، إنّ "الثورات المخمليّة" أو الثورات الملوّنة هي أحد أساليب الإلغاء التي تتّبعها الحرب الناعمة، وهي تشمل نوعًا من التحوّل وانتقال القدرة بالترافق مع عصيان مدنيّ ومقاومة سلبيّة. والمسألة المهمة التي يجب أن نلتفت إليها ترتبط بالسعي في تبديل "الثورات المخمليّة" إلى أنموذجٍ لتغيير البُنى السياسيَّة في الدول المخالفة للغرب بخاصّة أمريكا. وهذا ما نراه في نوع التحوّل والتغيير، فما يُدعى بالثورات الملونة تشترك في الأسباب وأشكال التحول. فقد انتصرت جميعها (ما عدا قرقيزستان) بواسطة تظاهرات الشارع من دون اللجوء إلى استخدام العنف، وشعاراتها كانت المطالبة بالديمقراطيَّة والليبراليَّة، وكان ثقل تحرّكاتها أثناء إجراء الانتخابات، فقد كان يُشاع وجود تزويرٍ فيها وضرورة إبطالها وإعادتها تحت إشراف مشرفين دوليين.
عليه، من الصحيح النظر إلى الثورات الملوّنة بصفتها نوعًا من الحرب الناعمة، مَثلها كمَثل نظريَّة عولمة الثقافة، التي تسعى إلى التقليل من قدرة ومستوى فعاليَّة ومشروعيَّة وموثوقيَّة الحكومة، بالإضافة إلى إثارة الأزمات في وجه الأنموذج السياسي القائم والنظام المستقر. لكن من وجهة النظر هذه، تقتصر الحرب الناعمة على الحرب السياسيّة الناعمة عبر تنظيم الحركات المُعارضة في السياق المدني مثل الانتخابات، وهذا الأمر، لا يجعل الحرب الناعمة تشمل كافّة الأبعاد مثل البعد الثقافيّ الذي يترافق مع تحوّلات تدريجيَّة.
ويُلاحَظ في العقود الأخيرة ظهور عدّة خصائص مُشتركة في بنية نظام القدرة وهي كالتالي:
يتبع...
