الاحتضار الأخير للحضارة الغربيَّة
الشيخ حسن أحمد الهادي
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو أنّ القارئ المتفحّص في تاريخ الغرب، وبُنيان حضارته، وأُسُسه الفكريّة والفلسفيّة، لن يجد ذلك الفرق الجوهريّ والكبير بين العصر القديم، والعُصُورُ الوسطى (القُرُونُ الوسطى)، والعصر الحديث في تاريخ الغرب، فكلّها تقسيمات تقليديّة للتاريخ الغربي، يجمع بينها قواسمٌ مشتركة تتمظهر في حالة الاضطراب المستمرة؛ فكريًّا وقيميًّا وإنسانيًّا واجتماعيًّا، منذ القدم وحتى ما يسمّى بعصر النهضة.
كما يعيد الكثير من الباحثين والمفكّرين السبب في ذلك إلى الغرب ذاته الذي أضحى عدوّ نفسه، بمعنى أنّه يتآكل من الداخل ويتساقط تدريجيًّا ليهوي إلى مراحل الاحتضار الأخير للحضارة الغربيَّة، بحسب تعبير المفكّر الأمريكيّ باتريك بوكانان في كتابه "موت الغرب"، والذي حذّر فيه الحضارة الغربيَّة من رعب كبير يزحف إلى بيوتهم وأوطانهم وقلوبهم بكلّ قساوة وضراوة، وليس بوسع أُمم الغرب فعل أي شيء لوقف الاحتضار الأخير للحضارة الغربيَّة التي أصبحت تواجه الانقراض والفناء لصالح أُمم أخرى؛ فالقرن الأمريكيّ الثاني يبشّر بحالة من الكآبة والخوف على المصير، وضياع الهويَّة، وتحوّل المواطن الغربيّ، مع مرور الزمن، إلى أقليّة هشّة في مجتمعه الذي شهد موطئ قدم أجداده ومعاركهم وبطولاتهم.
سنستنتج عند تحليل الأسباب المباشرة العديد من القضايا والأسباب التي اصطنعها الغربيّون أنفسهم، والتي تشكّل السبب الأساس في هذا السقوط، إذ لم تتبدّل المباني الفكريّة والفلسفيّة والقيميّة عند الغربيّين- لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ الحديث- في نظرتهم الدونية إلى الآخر؛ الإنسان والفكر والمجتمع والقيم والحضارة، وأنّ كلّ المشاريع التي قدّمها ويقدّمها الغرب بعناوين برّاقة إلى المجتمع الإنساني، لم تكن يومًا بمعزل عن المواقف والخلفيّات الأيديولوجيَّة التي تسرّبت إلى تلك المنهجيَّة؛ ذلك لأنّ الغربي يبقى متأثّرًا بالحواضن الفكريّة والحضاريّة والسياسيّة التي أسهمت في تشكيل عقليّته، فيبقى أمينًا لتوجّهاته الذاتيَّة وخلفيّاته الدينيَّة أو السياسيَّة.
الأمر الذي يفسّر كثرة الاضطرابات التي انتشرت في البلدان، والحروب والمعارك التي خاضها الغربيّ ضدّ الآخر، فقتل البشر حينًا، واستعبدهم حينًا آخر، وسيطر على مواردهم الطبيعية والثروات الوطنيّة للدول حيث أمكنه ذلك.
لم يهمل الغربيّون، مع كل هذه الاضطرابات والحروب والاعتداءات، أمرين أساسيين أينما حلّت رحالهم الاستعماريَّة، الأوّل يرتبط بتراث الأمم والشعوب المرتبط بهويّة الآباء الأجداد، والثاني يتمثّل بالعنصر الإنساني بمعنى السعي لتغييره فكريًّا ومعرفيَّا وقيميًّا. فيظهر بوضوح للباحث في كيفيّة تعامل الغربيّين مع تراث الآخر ولاسيما تراث الحضارة الإسلامية، أنّ الحركة العلميّة للغربيين تجاه الشرق بشكل عامّ والإسلام بشكل خاص، لم تخلُ من رواسب وخلفيَّات الأوروبيّين وأطماعهم في خيرات الشرق من العلوم والمعارف وبقيّة موارده الفيّاضة، وإن قُدّمت إلى الآخر على أنّها ظاهرة منظّمة تمثّل جهدًا بحثيًّا معرفيًّا كبيرًا قام به الغرب في محاولته لفهم الحضارة الشرقيَّة والإسلاميَّة. يرتبط كل هذا الجهد العلميّ والبحثيّ والترجمات والتحقيق في المخطوطات، بالبحث عن المعرفة وتطويرها، تمهيدًا لوضعها في خدمة الإنسان والإنسانية، وما يؤكّد هذا الفهم اختلاف نتائج هذه الدراسات باختلاف اتجاهات المفكّرين والباحثين باختلاف المدارس التي ينتمون إليها، حيث تلوّنت بتلوّن الأفكار والمؤسّسات التي ينتمون إليها، ولم تغب الإسقاطات والقبليَّات المُشبعة بتصوّر الذات الغربيَّة عن الشرق وحضارته.
كما يتمظهر العمل على العنصر الإنسانيّ ابتداءً من أصل النظرة الفلسفيَّة إلى الوجود والإنسان، مرورًا بكلّ النظريَّات الاجتماعيَّة والتربويّة والتعليميَّة، والتشريعات القائمة عليها، وصولًا إلى صورة الإنسان وتحديد نوعه من حيث الذكورة والأنوثة، ونمط الحياة والعيش التي ينبغي أن يتربّى عليها ويحياها بكلّ متطلّباتها.
إنَّ البحث في وظائف الإنسان مع الجماعة وحضوره الاجتماعيّ وفلسفة وجوده، من القضايا التي شغلت الأرض بما تمثّله من فكر إنساني، والسماء بما تمثّله من تشريع إلهي؛ فالأرض بحكمائها وفلاسفتها وعلمائها على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الفكريَّة- الدينيَّة منها والوضعية – من علماء النفس والاجتماع والطبيعة، والمادة، وغيرهم، قدّم كل منهم نظريّته ورؤيته حول طبيعة أدوار الإنسان وفلسفة وجوده في الحياة. وأعطت السماء حكمها الواضح بواسطة الوحي والأنبياء(ع)، بتفضيل هذا الإنسان عن سائر المخلوقات، وتحميله الأمانة الإلهيَّة كخليفة لله في الأرض.
بين تشريع السماء هذا، وتعدّد نطريَّات أهل الأرض وفلاسفتها حول وظيفة الأنسان وفلسفة خلقه ووجوده في الحياة، تكاوَن وتوالد الكثير من المناهج والمذاهب والمدارس حول الإنسان، ما أثّر مباشرةً على الحياة الإنسانيَّة، وانعكس على المجتمع الإنساني والشخصيَّة الدينية والاجتماعية والسياسيّة للبشر، وتحوّل هذا المجتمع الكبير إلى مجتمع أسير وتابع في فلسفة وجوده، ونمطه في الحياة لتلك الرؤى والأفكار والفلسفات الواردة من أعماق التاريخ، وهو ما أدّى إلى تحوّل الحياة الاجتماعيَّة إلى ما يشبه الصحراء الهائجة برمالها لتبتلع الضعفاء والفقراء، وتسيطر على العقول والأفكار الشهوات وحب الجاه والمال؛ قِسْ على هذا من السياسة والحكم والحقوق البشريّة وغيرها، وكانت لهذا كلّه أهميَّة العودة إلى تعاليم السماء بخاصّة ما جاء في الشريعة الإسلاميَّة من نظرة حول وظائف الإنسان والحياة والوجود.
يُربّي النظام الإسلامي الفرد المسلم على النظرة الدينيّة إلى الحياة والكون، ويدرك الإنسان في هذه النظرة أنّه يسير على خطٍّ طويل لا يحدّده الموت، وأنّ الموت ليس إلّا انتقالًا من مرحلة معيّنة في هذا الخطّ إلى مرحلة أخرى أوسع أُفقًا وأرحب مجالًا وأطول بقاءً. وحين يزرع التنظيم الاجتماعي البذور الأخلاقيّة في نفوس الأفراد ويجعل من القيم الخُلقيّة قوى فعّالة في سلوكهم وحياتهم، يحصل من ناحية على ضمانات ذاتيّة للتنفيذ والإجراء نابعة من شعور الفرد بالمسؤوليّة الأخلاقيّة، ويستطيع من ناحية أخرى أن يتسامى بالفرد تدريجيًّا ويفجّر كلّ طاقات الخير فيه، ولا يعود النظام مجرّد تحديد خارجي صارم لتصرّفات الأفراد، بل يصبح مجالًا يتسامى الأفراد ضمن إطاره وخلال تطبيقه روحيًّا، ويحقّقون المثل الصالح للإنسانيّة على الأرض.
رأى الشهيد محمد باقر الصدر(قده) أنّ الدين هو صاحب الدور الأساسيّ في حلّ المشكلة الاجتماعيّة عن طريق تجنيد الدافع الذاتيّ لحساب المصلحة العامّة، فما دامت الفطرة هي أساس الدوافع الذاتيّة التي نبعت منها المشكلة فلا بدّ أن تكون قد جُهّزت بإمكانات لحلّ المشكلة أيضًا؛ لئلّا يشذّ الإنسان عن سائر الكائنات التي زُوّدت فطرتها جميعًا بالإمكانات التي تَسُوق كلّ كائن إلى كماله الخاص. وليست تلك الإمكانات التي تملكها الفطرة الإنسانيّة لحلّ المشكلة إلّا غريزة التديّن والاستعداد الطبيعيّ لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام، من هنا كانت الفطرة تُملي على الإنسان دوافعه الذاتيّة التي تنبع منها المشكلة الاجتماعيّة الكبرى في حياة الإنسان (مشكلة التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقيّة العامّة للمجتمع الإنساني)، ولكنّها في الوقت نفسه تُزوّده بإمكانيّة حلّ المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التديّن، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفّق بين المصالح العامّة والدوافع الذاتيّة، وهذا الدين الذي فُطرت الإنسانيّة عليه يتميّز بكونه دينًا قيّمًا على الحياة وقادرًا على التحكّم فيها وصياغتها في إطاره العام.
نجد، في سياق الكلام عن الإنسان، أنّه من الأولويَّات التي يعمل عليها الغربيّون بشكل مُلِحّ في العالم في المجالين الإنساني والاجتماعي، ويستهدفون تغيير ثوابت المجتمعات البشريَّة وأنماط العمل والعِشرة والحياة، أي بشكل عام ما يرتبط بدور ووظائف ومكانة الرجال والنساء، والعمل على إزالة الهوّة النوعيّة بينهما. وعلى هذا الأساس ترى "الجندريّة" أنّه يمكن تغيير -بل وإلغاء- الأدوار المنوطة بالرجل والمرأة، وكذلك الفروق بينهما من ثقافة المجتمع وأفكاره السائدة، بحيث يمكن للمرأة أن تقوم بأدوار الرجل، ويمكن للرجل أن يقوم بأدوار المرأة، وهذا يعني أنَّ "الجندريّة" تتنكّر لتأثير الفروق البيولوجيَّة الفطريَّة في تحديد أدوار الرجال والنساء، فـ "الجندر" بناء اجتماعي وثقافيّ أيضًا، وهو عمليَّة تاريخيَّة مستمرّة تُدار في كلّ المؤسّسات المجتمعيَّة في كل يوم من الحياة؛ إن كان على وسائل الإعلام أو المدارس أو الأُسر أو المحاكم أو غيرها.
بناءً عليه يتّخذ "الجندر النسوي" قاعدة ينطلق منها، وهي إلغاء كلّ الفروق الطبيعيَّة أو المختصّة بالأدوار الحياتيَّة بين الرجال والنساء، ويدّعي بأنّ أيّ اختلاف في الخصائص والأدوار، إنّما هو من صُنع المجتمع، وأنّ النوع الاجتماعيّ حقّ أساسيّ من حقوق الإنسان، والمجتمع وحده هو الذي يضمن أنَّ كافّة النساء والرجال يدركون ويستفيدون من هذا الحق.
تخضع مُقاربة هذه الأسباب لضابطة كلّيّة ترتبط بالضغوط التراكميَّة التي تتجمّع بهدوء، ثم تنفجر فجأةً لتُثقل كاهل كلّ الآليَّات الحافظة لاستقرار المجتمع وتماسكه. وإذا أردنا مقاربة مصاديقها سيبرز أمامنا العديد من هذه الأسباب، فقد أثبتت السُنن والتجارب التاريخيَّة أنّ انهيار الحضارات مرهونٌ عادةً بطيف واسع من العوامل، منها على سبيل المثال لا الحصر:
كي لا يُفهم كلامنا حول الاحتضار الأخير للحضارة الغربيَّة، أيديولوجيًّا أو أنّه من باب التنظير والحرب الناعمة في مواجهة الغرب، نعود إلى التاريخ الغربي نفسه لنقرأ في صفحاته عن ذلك الانهيار الكبير للإمبراطوريَّة الرومانيَّة الغربيَّة وتآكلها؛ الدولة التي امتدَّت في أقصى اتّساعها من المحيط الأطلسي غربًا حتى نهر الفرات شرقًا ومركزها روما، الدولة العظيمة التي هيمنت على العالم القديم، وقد وُصِف انهيارها كواحد من أشهر الانهيارات للإمبراطوريَّات الأسطوريَّة التي عرفها التاريخ. ولهذا فقد شَغل هذا السقوط الباحثين، ولكثرة ما حلّل المؤرّخون في أسباب وعناصر هذا الانهيار والسقوط تأسّست عشرات النظريَّات والأقوال والتوجيهات فيها- ليس هنا محلّ بحثها.
إنَّ ما يؤَسف له أنّنا عندما ننظر إلى الكثير من المفكّرين العرب والمسلمين، لا نجد وضوحًا في الرؤية والموقف، بل نجد تفاوتًا في النظرة والمنطلقات الفكريَّة تجاه الفكر الغربي، فطائفة منهم تنظر نظرة إعجاب تصل أحيانًا إلى الانبهار بل ونسبة الفضل لجهودهم العلميَّة في كلّ مجالات المعرفة، وطائفة رافضة رفضًا مُطلقًا لكلّ ما يأتي من الغربيّين، وإن اصطبغ بالصبغة العلميَّة، ويوجد طائفة ثالثة سلكت خط الوسط فتعاملت بموضوعيَّة مع نتاجاتهم العلميَّة والتقنيَّة، ووقفت موقف المتأمّل، فلم تنبهر ولم ترفض، بل أخضعت نتائج هذا المفهوم لأحكام علميَّة خالصة فرفضت وقبلت[1].
نحن معنيون بدراسة الغرب في كل الحالات؛ مفهومًا وتاريخًا وأهدافًا ومدارسًا ومناهجًا واتجاهات، وتقديم معالجات علميَّة ومعرفيَّة ونقديَّة لأطروحاتهم في كلّ المجالات المعرفيَّة والمنهجيَّة التي طرقها الغربيّون بالبحث والنقد وإثارة الشُبهات والإشكاليَّات، ليس من باب ردّة الفعل على نتاج معرفيّ غربيّ، بل من باب تصويب الأمور، وتقديم تراثنا إلى الآخر كما نقرأه ونفهمه نحن لا كما يؤوِّله ويراه غيرنا، وهذا من الحقوق الطبيعيَّة لأهل التراث أنفسهم. وهذا ما يتطلّب إجراء عمليّة بحثيَّة مُركّزة في فحص المباني والنظريات والمناهج، وبيان مواطن ضَعفِها وعثراتها وثغراتها، وتسليط الضوء على تناقضاتها الداخليَّة وتهافتها وعدم تماسكها، وضعف انسجام أفكارها، وإبراز النتائج غير المنسجمة مع المقدِّمات فيها، ولوازمها الفاسدة، والآثار السلبيَّة التي تترتّب عليها، وأخيرًا بيان سلبيات أفعالهم المتعارضة مع القيم والأخلاق الإنسانية، بخاصّة في الأبحاث التاريخيَّة والحروب بهدف كشف همجيّة الغرب وتوحّشه وماديّته.
والحمد لله ربِّ العالمين