مقالات عامة

القوّة الناعمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القوة الناعمة[1]

ترجمة الدكتور علي الحاج حسن

 

يرى الواقعيّون أنّ القوّة الصلبة هي الأداة الأساسيّة لإيجاد الأمن والحصول على المصالح الوطنيّة. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى "بسمارك" الذي رأى أنّ السياسية تصل إلى النتيجة بالدم والحديد، وليس بالحوار والاحترام. ويؤكّد "مائو" أيضًا، أنّ القوّة تخرج من فوّهة الأسلحة. وتُبيّن الوقائع المعاصرة، أنّ الاعتماد الصرف على القوّة الصلبة لم ولن تنجح بالشكل المطلوب. واليوم، لم يعد استخدام القوّة مقتصرًا على الأبعاد الصلبة والملموسة، بل أصبح استخدام مختلف الأدوات ومن جملتها القوّة الناعمة، ضمن برامج الدول في الوصول إلى أهدافها. وعلى هذا النحو، فإنّ عدم لجوء المجتمعات إلى الأساليب الناعمة يضعها في معرض التهديد والاستحالة الثقافيّة والسياسيّة. (ضابط پور وقربى، 1390: 92).

يؤكّد "بالدوين" في كتاب "القوّة والعلاقات الدوليّة" على أنّ الاتّجاه التقليديّ المتعلّق بتحليل القوّة، يعتمد على قوّة العناصر الوطنيّة، والتي تحسب قوّة البلدان بناءً على بعض العوامل من قبيل السكّان، والأرض، الرفاهيَّة الماديّة، القوة العسكريّة والقوة البحريّة. ويعتمد هذا الأمر بدوره على إدراك الاتّجاه الواقعيّ، والذي أدّى إلى الغفلة عن أبعاد القوّة الأخرى أو عدم ايلائها الأهميّة المطلوبة. (Baldwin, 2003: 182).

يجري النظر لموضوع القوّة في الخطاب والنهج التقليديّ من بُعْد واحد، أدى إلى تهميش أبعاد وبرمجيّات القوّة، وهيّأ الأرضيّة للفشل وللمزيد من التكاليف. من هذا المنطلق، ظهر نوع من خطاب البرمجيَّات في الأدبيَّات السياسيّة، والذي يُراد منه ترميم الصورة الصلبة للقوّة، والتي جرى الحديث عنها تحت عنوان القوّة الناعمة (رفيع، قربى، 43: 1392).

كما يرى العديد من المفكّرين، أنّ أقوى الدول لا تبقى هي الأقوى إلّا إذا تمكّنت من تحويل قوّتها إلى حقّ، وترجمة هذه المقولة يكون في تحويل القوّة الصلبة إلى قوّة ناعمة؛ لذلك لا مفرّ من الاهتمام بالقوّة الناعمة.

وسّع "جوزيف ناي" مصطلح القوّة الناعمة في كتابه "القوّة الناعمة؛ وسيلة النجاح في السياسة الدوليّة". وقد أوضح ناي أنّ القوّة هي القدرة في التأثير على سلوك الآخرين للوصول إلى الأهداف المطلوبة. وذلك عبر ثلاثة أساليب:

  • الإجبار.
  • التهديد.
  • التشجيع أو الدفع والجذب والمماشاة.

إنَّ القوّة الناعمة هي قدرة الأمّة على تشكيل ترجيحات الآخرين. (سيف، 12: 1393). وتهدف عمليّة التأثير في سلوك الآخرين في القوّة الناعمة، إلى تحقيق النتائج المطلوبة عن طريق مصادر أخرى. ويرى ناي أنّ القوّة الناعمة هي القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبيّة بدلًا من الإرغام، ويحصل هذا الأمر عن طريق جاذبيّة الثقافة والمثل السياسيّة والسياسات، وعندما تبدو سياستنا مشروعة من وجهة نظر الآخرين تصبح قوّتنا الناعمة أكثر قوة.

في الحقيقة، عندما تدفعون الآخرين لقبول ما تريدون من دون أن تتكبّدوا تكاليف كبيرة (امتيازات وإرغام)، عند ذلك تكونون قد استخدمتم القوّة الناعمة. (گلشن ﭘﮊو، 1387: 22).

يتشكّل هذا النوع من القوّة على أساس تبديل الميول إلى نواتج، وموضوعه الجاذبيّة بدل الإكراه. هذا النوع من القوّة، يعتمد على إقناع الآخرين في الاتّباع أو الموافقة على الأسس والقواعد والمؤسّسات التي تنتج السلوك المطلوب. ويرتبط هذا الاتّباع، وقبل أيّ شيء آخر، بمقدار ما تحمل المعلومات المتوفّرة من إقناع، فيعمل الطرف الآخر على نقلها. (Nye, 2004: 15).

القوّة الناعمة هي القدرة على التوجيه والجذب والنمذجة، وهي قدرة بلد ما على جذب بلد أو بلدان أخرى نحو مُثُله وقيمه وأيديولوجيّاته، أو هي قدرة بلد في دفع البلدان الأخرى للتفكير كما يفكّر. وترتبط هذه القوّة برباط وثيق بالقوى الفاقدة للشكل [Formless powers]، كالثقافة والأيديولوجيا... والعولمة الثقافيّة لبلد ما وقدرته على تعيين المعايير والقواعد والأنظمة (بمثابة العناصر المنظّمة للسلوك الدوليّ في ذاك البلد) هي من المصادر الأساسيّة لقوّة ذاك البلد.

يظهر من أغلب المصادر، أنّ ظهور القوّة الناعمة من الناحية المفهوميّة والتصنيف العلميّ يعود إلى آثار "جوزيف ناي"؛ والحقيقة أنّ المفهوم يعود إلى مرحلة سابقة على جوزيف ناي، حيث فَصَّل "برتراند راسل" الحديث حول ماهيّة هذه القوّة في كتابه "القوّة"، فعمد إلى تجزئة وتحليل هذا المفهوم (رفيع، قربى، 43: 1492). استند ناي أثناء تفصيل فكرة القوّة الناعمة إلى تحليل "روبرت كاكس" حول الأنظمة الاقتصاديّة في القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين. وبالاعتماد على استدلالات كاكس، أراد ناي الإشارة إلى آثار "آنتنيو غرامشي" المفكّر الماركسي الإيطاليّ، بخاصّة إلى مفهوم الهيمنة. وتأثير غرامشي على ناي جلي واضح: الهيمنة كالقوّة الناعمة من حيث اعتمادها على مجموعة من الأصول العامّة، والتي تضمن تفوّق مجموعة وتضفي نوعًا من الرضا النسبيّ على المجموعات الأخرى. (ﭘارما 1390: ص42-43).

أراد غرامشي من استخدام مصطلح الهيمنة الإشارة إلى الوجه الواقعيّ للنظام الرأسماليّ المتخفّي وراء حجاب جاذبيّته الظاهريّة، ويرى أنّ النظام الرأسماليّ ينتج القوّة بالاعتماد على هذه الجاذبيّات، وبها يمنع أيّ مقاومة ضدّ أهدافه. (عيوضى وامامي، 1390: 106).

إنّ القوّة الناعمة التي أراد بها ناي جعل الآخرين يفكّرون كما يفكّر، والتي هي أسلوب غير مباشر، تعتمد على جاذبية مجموعة من الأفكار أو القدرة على فرض أعمال سياسيّة تساهم في تشكيل ترجيحات الآخرين. (ﭘارما، 42: 1390). ثمّ يوضح ناي في مكان آخر المصادر المولدة للقوة الناعمة في كلّ بلد على النحو الآتي: ثقافة ذاك البلد (عندما تكون جذّابة للآخرين)، قيمه (عندما تكون جاذبة ولا تساهم في إضعاف السلوكيّات غير الملائمة)، وسياساته الخارجيّة (عندما يعتبرها الآخرون مشروعة وعامّة). (م. ن.: 25).

 

 القوّة الناعمة من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه (دام ظله)

من جملة التصنيفات الهامّة والأساسيّة للقوة، والمبنية على الأصول والقيم الدينيّة، تقسيمها إلى قسمين: القوّة الماديّة والقوّة المعنويّة. يقول الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه في هذا الشأن:

"إنّ كل شعب يحتاج لتقوية نفسه من أجل الدفاع عن المبادئ السامية. طبعًا تعريف القوة وفق المنطق الديني والمعنوي يختلف كثيرًا عن تعريف القوّة في المنطق المادي، فالمنطق المادي يرى القوة في الأجهزة والآلات، وفي السلاح النووي والكيماوي والجرثومي وفي مختلف المعدّات المادية المتطورة.

وهذه ليست كلّ القوّة، فالجانب الأعظم من القوّة يتمثّل بوجود الذين يعملون على استخدام هذه القوة.

تتمتع جماعة بالصلاح جاهدة لإحقاق الحق والمثُل والقيم السامية، وتكون مستعدة لاستخدام وجودها وإمكانياتها وكل قوّتها في هذا السبيل. فهذه هي القوّة الحقيقية، والجماعة التي تعمل من أجل الحق والقيم الحقة تأبى استخدام القوّة بصورتها الحيوانيَّة، ولا ترتكب الظلم والاستكبار، ولا تُهين الإنسان ولا تتجاوز أو تعتدي على أراضي الغير، ولا تسلب الأمم والشعوب ثرواتهم وإمكانياتهم وتضمّها إليها. إنّ هذه هي أخلاق القوّة المعنويّة.

إنّ القوة المادّية لا تعرف الأخلاق ولا علم لها بها، وإنّ القوّة المادّية لا تُستخدم من أجل الحق والقيم الحقّة، وإنّ منطق أصحاب القوّة الماديّة هو منطق الغاب، فنظرًا لامتلاكهم القوة المادية هم يرون الحقّ مختصًّا بهم؛ وهذا أمر خاطئ ومعادلة باطلة". (من كلام الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه أثناء زيارته معرض الابتكارات العسكرية للقوة الجوية في الحرس. (29/4/1382)

القوّة المعنويّة في الرؤية الإسلاميّة هي التي تعتمد على المعنويّات ﴿والله على كلّ شيء قدير﴾ (آل عمران: 189)، وهناك العديد من الآيات القرآنية المشابهة التي تحمل المعنى نفسه.

في المجال السياسيّ، وبناءً على الفكر الإسلاميّ، فإنّ القوّة في الدولة الإسلاميّة هي أمانة إلهيّة والحاكم أو الوليّ الفقيه، هو خليفة الله وخليفة الرسول الأكرم (ص)، وهو وارث هذه الأمانة.

يقول الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه في هذا الشأن:

"بفضل الله تعالى تم بناء نظام الجمهورية الاسلامية على أُسس هذه القوة. يعتمد هذا النظام على القوة المعنويَّة وعلى الإيمان وعلى الأسس العقائديَّة الراسخة. إنّ الفكر الذي يشكّل اليوم أساس نظام الجمهوريَّة الإسلاميَّة، هو فكر راسخ ومحكم، ومنطقيّ واستدلاليّ ولا يقبل الطعن. إنّ إيمان أفراد الشعب وعشقهم لله وأولياءه وللنبي (ص) وأهل بيت النبي (ع)، هو أكبر رأسمال وأفضل أدوات وأساس لقوة هذا البلد". (من كلام الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه بمناسبة يوم الحرس، 28/7/1387).

"إنّ عدونا ليس قويًا وإن تظاهر بذلك، إنّ قوة الاستكبار قوّة مادّية؛ القوّة المادية لا تستطيع مواجهة القوّة المعنويّة والإنسانيَّة. وما دامت القلوب متآلفة والأيدي متّحدة وكان الجميع يشعر بالمسؤوليَّة إزاء الأهداف الإسلاميَّة فإنّ الاستكبار العالمي وسائر القوى الأخرى لن تتمكن من إلحاق الضرر بنا أبدًا." (من كلام الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه بمناسبة بيعة علماء الدين، المسؤولين ولأبناء الشعب في محافظة آذربايجان، 30/3/1368).

انطلاقًا من هذه الرؤية يقول الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه حول الاختلاف بين القوّات المسلّحة في الجمهوريّة الإسلاميّة والأنظمة السياسيّة الأخرى:

"تُعدّ القوات المسلحة في كل أقطار الدنيا إحدى الأجزاء الهامة في تشكيل الاقتدار الوطني؛ وتتضاعف أهميّة وقيمة هذا الاقتدار ومظهر القوّة هذه في أنّ ما يظهر ويبرز منه، ليس مجرّد قوّة تتكوّن بواسطة السلاح فقط. السلاح هام والرجل المسلح يمتلك قدرة الدفاع؛ أمَّا الأهم من السلاح فهو القوّة المعنويّة والقوّة الروحيّة للرجل المسلح. هذا هو الشيء الذي يُحوِّل القوة الوطنيَّة في البلد إلى قوّة معنويّة وحقيقيَّة لا تقبل الزوال. الأمّة المقتدرة التي لا مثيل لها في انحاء العالم – بل على امتداد التاريخ- هي التي تمتلك رجالًا وشبابًا مسلحين وجنودًا شجعانًا واعين مفعمة قلوبهم بنور الايمان، وإرادتهم قويّة بقوّة الإيمان. وأنتم اليوم مشابهون لهم". (من كلام الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه في كلية الإمام علي (ع) العسكرية، 23/8/1378).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

 


[1]  مترجم من كتاب "دفاع هوشمند در انديشه امام خامنه اى (مد ظله العالى)"، تأليف رحمان لطفى مرزناكى، انتشارات آواى ىسبحان، 1394 ه.ش [2016م]

أضيف بتاريخ: 20/02/2024