مقالات عامة

التربية الاقتصاديّة والتدبّر المعيشي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التربية الاقتصاديّة والتدبّر المعيشي  

الشيخ حسن أحمد الهادي

 

 

مدخل

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسول الإسلام محمّد(ص) وعلى أهل بيته الطاهرين(ع)، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين(ع)...

الإسلام دين الإنسانيّة، ونظامه نظام شامل لجميع نواحي الحياة، يربط بعضها ببعضها الآخر ربطًا عضويًّا منطقيًّا، وينطلق من واقع الحياة الإنسانيّة وخصوصيّاته لمعالجة قضاياها بشتّى مستوياتها، وبما يتناسب مع تطلّعات الإنسان في هذه الحياة وسواها من مراحل الحياة الأخرى.

ونظرًا إلى الكينونة الاجتماعيّة التي ينطوي عليها الإنسان منذ أن فطره الله وبرأه، ونظرًا إلى أنّه يولد اجتماعيّا؛ كان الإسلام دين المجتمع كما هو دين الفرد، وكان القرآن كتاب المجتمع الإنسانيّ كما هو كتاب كلّ فرد من أفراد هذا المجتمع بلا استثناء. وقد حملت نظرة الإسلام إلى البعد الأسري والاجتماعيّ في الإنسان كلّ دواعي الاستقرار والتوازن الاجتماعيّ؛ انطلاقًا من التوازن الفرديّ الخاصّ، وصولًا إلى التوازن المنظوميّ العامّ، فشرّعت قوانين تكفل حفظ جميع هذه التوازنات وصيانتها من الاهتزاز والخلل. وفي هذا الإطار، يمكننا أن نفهم الغرض من التشريعات الإسلاميّة الخاصّة بالعلاقات الأسريَّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، والذي يمكننا أن نلخّصه في مقولة واحدة؛ وهي: إنّ الإسلام سعى إلى تربية مجتمع متشرّع على أنقاض مجتمع مشرّع، فعوضًا عن أن يكون الناس مشرّعين لأنفسهم، يصبحون قابلين للشرع الإلهيّ، مسلّمين للشّارع أمرهم وقيادتهم، وهذا هو القدر المتيقّن من الإسلام.

 

التربية الاقتصاديّة للمجتمع على ضوء الرؤية الإسلاميّة

قبل الدخول إلى بحث عناصر التربية الاقتصاديّة على ضوء الرؤية الإسلاميّة والفقهيّة، نتوقّف مع مقدمة تأسيسيَّة هامة ترتبط بالخلفيّة الدينيّة لهذا النوع من التربية وغيره ترتبط بالعدالة الاجتماعيّة حيث جسّد الإسلام هذا المبدأ في تعاليمه؛ من خلال ما زوّد به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلاميّ من عناصر وضمانات تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلاميّة، وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها. فإنّ الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعيّة ضمن المبادئ الأساسية التي يتكوّن منها مذهبه الاقتصاديّ؛ لم يتبنَ العدالة الاجتماعيّة بمفهومها التجريديّ العامّ، ولم ينادِ بها بشكلٍ مفتوحٍ لكلّ تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانيّة التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعيّة؛ باختلاف أفكارها الحضاريّة ومفاهيمها عن الحياة...، وتحتوي الصورة الإسلاميّة عن العدالة الاجتماعيّة على مبدأين عامّين، لكلّ منهما خطوطه وتفصيلاته، وهما: مبدأ التكافل العامّ، ومبدأ التوازن الاجتماعيّ. وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلاميّ تُحقّق القيم الاجتماعيّة العادلة، ويوجد المثل الإسلاميّ للعدالة الاجتماعيّة.

 

منهج التربية الاقتصاديّة للمجتمع

تتعدّد أصول التربية الاقتصاديّة للأسرة والمجتمع في الإسلام وتتنوّع التشريعات التي تشمل الفرد والأسرة ولا تنتهي بالمجتمع والدولة بل تشمل نواحي الحياة كلّها انسجامًا مع الخلفيَّة العقديَّة في الدين الإسلاميّ، وحرصًا على الاختصار والإيجاز نتوقّف مع مجموعة رئيسة وأساسية من هذه الأصول والعناصر التي تشكّل ركائز هذه العملية التربوية للأسرة والمجتمع.

 

أوَّلًا: التكافل الاجتماعيّ

التكافل الاجتماعيّ هو جزء من عقيدة المسلم والتزامه الدينيّ؛ وهو نظام أخلاقيّ يقوم على الحبّ والإيثار ويقظة الضمير والشعور بمراقبة الله عزَّ وجل، ولا يقتصر على حفظ حقوق الإنسان المادّيّة؛ بل يشمل -أيضًا- المعنويّة، وغايته التوفيق بين مصلحة الأسرة والمجتمع ومصلحة الفرد. وقد عُني القرآن بالتكافل؛ ليكون نظامًا لتربية روح الفرد، وضميره، وشخصيّته، وسلوكه الاجتماعيّ، وليكون نظامًا لتكوين الأسرة وتنظيمها وتكافلها، ونظامًا للعلاقات الاجتماعيّة، بما في ذلك العلاقة التي تربط الفرد بالدولة، وليكون في النهاية نظامًا للمعاملات الماليّة والعلاقات الاقتصاديّة التي تسود المجتمع الإسلاميّ.

من هنا؛ فإنّ مدلولات البرّ، والإحسان، والصدقة تتضاءل أمام هذا المدلول الشامل للتكافل. قال الله تعالى:{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}.[1]

كما عدّ القرآن الإمساك وعدم الإنفاق سبيلًا إلى التهلكة، قال تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إنّ الله يحبُّ المُحسنين}[2]؛ وعدّ الكنـز وحجب المال عن وظيفته الاجتماعيّة مدعاةً للعذاب الأليم: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذابٍ أليم}[3]. وقد نفى الرسول(ص) كمال الإيمان عن مَنْ يبيت شبعان وجاره جائع وهويعلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم»[4].

لقد وضع القرآن أُسسًا نفسيّةً وأخرى مادّيّة؛ لإقامة التكافل الاقتصاديّ والاجتماعيّ بين أفراد المجتمع الإسلاميّ. ولعلَّ من أهمِّ الأسس النفسيّة هو إقامة العلاقات المادّيّة والمعنويّة على أساس الأخوّة؛ لقوله تعالى: {إنّما المؤمنون إخوةٌ}[5]، وربط الإيمان باستشعار حقوق الأخ، كما رتَّب على رابطة الأخوّة الحبّ؛ فلا يؤمن الإنسان المسلم ولا ينجو بإيمانه ما لم يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويعيش معه كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا. وجعل العدل وحفظ الحقوق من قيم الدين الرئيسة؛ بل نُدب إلى عدم الاقتصار على العدل؛ وهو إحقاق الحقّ، أو إعطاء كلِّ إنسان حقّه من دون ظلم، وإنّما الارتقاء إلى الإحسان؛ وهو التنازل له عن بعض الحقوق. ومن الأُسس النفسيّة -أيضًا- الإيثار؛ وهو عكس الأثرة والأنانية. والإيثار تفضيل الآخر على النفس من أجل إشاعة جوّ العفو والرحمة، وهي الغاية التي جاءت من أجلها الشريعة. وترتبط فلسفة التكافل في الإسلام كَون أنّ الدين الإسلاميّ ينطلق من رؤية كونيّة، وشريعة حياتيّة متكاملة. وبالتالي، لا يمكنه إهمال كلّ ما من شأنه التأثير في الإنسان ومحيطه، وتركه من دون ضوابط توجّهه. وحيث إنّه بات من البديهي أنّ تشكيل الاقتصاد يُعدّ أحد أهمّ هذه المؤثّرات؛ فقد جاءت الشريعة الإسلاميّة لتنظيمه. وخطوات الإسلام التي خطاها في سبيل إيجاد المجتمع الإنسانيّ الأفضل عبر تجربته التاريخيّة المشعّة، كانت واضحة وصريحة في اهتمامه بهذا الركن الرئيس من اقتصاده.

 

ثانيًا: تدبير شؤون الحياة ونَظمِها

لا يختلف اثنان في أنّ تدبير شؤون الحياة يُعدّ من الأمور الهامّة لكلّ إنسانٍ. وبالطبع، فإنّ هذا الأمر مرهونٌ بتطبيق تعاليم الشريعة، والانتهال من منهلها العذب، والاستعانة بما أنعم الله علينا من قوى إدراكيّة. فتنظيم شؤون الحياة حسب تعاليم ديننا الإسلاميّ التي وردتنا عن طريق الوحي المقدّس من شأنه أن يفتح لنا باب السّعادة على مصراعيه. والمجتمعات البشريّة اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى التّعاليم الدينيّة، والعمل بالوصايا المُطَابِقَة للفطرة التي فطر الله النّاس عليها. وحسب اعتقادنا، فإنّ الشريعة الإسلاميّة تكفّلت بوضع برنامج شامل ومتكامل يهدي الإنسان إلى السعادة المنشودة في الدّنيا والآخرة؛ لأنّها تتناول جميع جوانب الحياة المادّيّة والمعنويّة، للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان في بادئ الأمر بحاجةٍ ماسّةٍ إلى معرفة الدّين، وإدراك مفاهيمه، فالذي لا دين له لا حياة له. ومن هنا، ينبغي عليه المثابرة، لتنظيم شؤون معيشته، بحُسن التقدير، ثمّ بعد ذلك لا بدّ له من الصبر وتحمّل المصاعب التي تعترض طريقه. وقد أكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام على هذه الحقيقة، بقوله: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلا على ثَلاثِ خِصالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على النّائبَةِ"[6].

إذًا، تدبير شؤون الحياة لا بدّ وأن يكون متزامنًا مع أمرين هامّين، هما: التعمّق في تعاليم الدين، والصبر على النوائب. كما أنّ هناك أمران يُعدّان جوهر المعيشة وأساسها، وهما: أوَّلًا الاعتدال بمعنى عدم الإسراف واجتناب تبديد الجهود وإهدار الثّروة، وثانيًا التّدبير بمعنى التّفكير في عواقب الأمور وحسن التخطيط والإدارة الصحيحة. ويكون التّدبير - دائمًا - متناغمًا مع العلم والمعرفة والخبرة والعقل، فهو بطبيعته بعيدٌ عن العمل من دون تعقّلٍ. ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامٌ رائعٌ عن التدبير، عندما خاطب ابن مسعود، قائلًا: "يا ابن مسعود، إذا عملتَ عمَلًا فاعملْ بعلمٍ وعقلٍ، وإيّاكَ وأنْ تعملَ عملًا بغيرِ تدبّرٍ وعلمٍ، فإنّه جلَّ جلالهُ يقولُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا"[7].

وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ينقل فيها موعظةً للقمان الحكيم في هذا الصدد، يقول فيها: "إِعْلَم أَنَّكَ سَتُسأَلُ غَدًا إَذا وَقَفتَ بَينَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَن أربعٍ: شبابِكَ في ما أَبلَيتَهُ، وَعُمرِكَ في ما أَفنيتَهُ، وَمالِكَ مِمّا اكتَسبتَهُ وَفي ما أَنفَقتَهُ، فَتَأَهَّبْ لِذلِكَ، وَأَعِدَّ لَهُ جَوابًا"[8].

إذًا، يُعدّ - وفق هذه التعاليم السامية - التمهل في أداء عمل اليوم، وإيكاله إلى وقتٍ لاحقٍ، من الأخطاء التي لا يمكن تداركها. وبالطبع، فإنّ رواج هذه الظاهرة في المجتمع، سيؤدّي إلى انحطاطه وانهياره، لأنّ يوم غدٍ لا يأتي إلا في الغد.

لذلك، فإنّ النشاطات التي يمارسها الإنسان لتوفير معيشته، والخدمات التي يقدّمها للأسرة والمجتمع، وتوزيع الأعمال بين أفراد الأسرة الواحدة، كلّها أمورٌ تنطوي تحت مبدأي النظم والانضباط، كما كان يفعل أئمّتنا عليهم السلام، حيث روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "كانَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام يَحتطِبُ ويَستقِي ويَكنِسُ، وكانتْ  فاطمةُ عليها السلام تَطحَنُ وتَعجِنُ وتَخبُزُ[9].  فاتّصاف الإنسان بالنّظم والانضباط في تكاليفه المُلقاة على عاتقه، يحفّزه على السعي لأدائها، ويجنّبه اللامبالاة، كما يمكّنه من الوفاء بالتزاماته ووعوده في أوقاتها المحدّدة، فلا يخالف قول الله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُولًا﴾[10].

عليه فإنّ اجتناب الإفراط والتفريط في أداء الوظائف على المستويين الأسري والاجتماعيّ، والتقيّد بمنهجٍ منظّمٍ في الحياة، وإنجاز الأعمال والمشاريع في جميع جوانب الحياة، هي أوامر نابعةٌ من روح تعاليم ديننا الحنيف. فديننا يدعونا إلى تنظيم أوقاتنا، لكي نستثمرها خير استثمارٍ، خدمةً لأنفسنا ومجتمعنا، حيث أشار الإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هذه الحقيقة بقوله: "اجْتَهِدُوا فِي أَنْ يَكُونَ زَمانُكُمْ أَرْبَعَ ساعاتٍ: ساعَةً لِمُناجاةِ اللهِ، وساعَةً لأَمْرِ الْمَعاشِ، وساعَةً لِمُعاشَرَةِ الإِخْوَانِ والثِّقَاتِ الَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ ويُخْلِصُونَ لَكُمْ فِي الْباطِنِ، وسَاعَةً تَخْلُونَ فِيها لِلَذّاتِكُمْ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وبِهذِهِ السّاعَة تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلاثِ ساعاتٍ. لا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِفَقرٍ، ولا بِطُولِ عُمُرٍ، فَإِنَّهُ مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْفَقرِ بَخِلَ، ومَنْ حَدَّثَهَا بِطُولِ الْعُمُرِ يَحْرِصُ. اجْعَلُوا لأَنفُسِكُمْ حَظًّا مِن الدُّنْيا، بِإِعْطائِها ما تَشْتَهِي مِن الْحَلالِ، وما لا يَثْلِمُ الْمُرُوَّةَ وما لا سَرَفَ فِيهِ، واسْتَعِينُوا بذلِكَ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: لَيْسَ مِنّا مَنْ تَرَكَ دُنْياهُ لِدِينهِ، أَو تَرَكَ دِينَهُ لِدُنْياهُ"[11].

 

ثالثًا: العمل والمثابرة رأس مال اقتصاد المجتمع

يُعدّ السعي الحثيث من الاستراتيجيّات الأساسيّة في تدبير المعيشة. ويُعدّ هذا الأمر - بالنسبة للقوانين الحاكمة على وجود الإنسان - وسيلةً لبناء شخصيّته وترسيخها، وفي الوقت نفسه هو وازعٌ لاكتمال قدراته البدنيّة والعقليّة، ونضوج طاقاته الفطريّة والذاتيّة. وتطرّق كتاب الله المجيد - بدوره - إلى العمل والسعي في مواطن عديدةٍ، وأكّد على أهمّيّة ذلك في نظام التكوين والتشريع، حيث جاء في إحدى آياته المباركة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ فِي كَبَدٍ﴾[12]. والعمل والكبَد (المعاناة) هي أمورٌ ضروريّةٌ في حياة البشر، ولا بدّ لكلّ إنسانٍ من مكابدتها. لذا، يُعدّ الإنسان بذاته ظرفًا للحاجة، وبإمكانه أن يلبّي حاجاته ممّا هو موجودٌ في الطبيعة من ثرواتٍ. وبالتأكيد، فإنّ هذه الثروات ليست مُعدّة على طَبَقٍ من ذهب، بل إنّ استثمارها بحاجةٍ إلى جهدٍ وعملٍ دؤوبٍ، وهذه الضرورة فرضتها قوانين الطبيعة على الإنسان، ليتسنّى له الخلاص من الفقر والحرمان، وكلّ ما من شأنه الإخلال بنظم حياته الفرديّة والاجتماعيّة.

لقد كان دَيْدَن أنبياء الله تعالى وأوليائه الصّالحين عليهم السلام على هذا النهج، حيث أشار الإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هذه الحقيقة. فعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، قال: رأيتُ أبا الحسن عليه السلام يعمل في أرضٍ له وقد استنقعت قدماه في العرَق، فقلت: جُعلت فداك، أين الرجال؟ فقال عليه السلام: "يا عَليُّ، قَد عَملَ بِاليدِ مَن هُو خيرٌ مِنّي في أِرضِهِ، ومِن أبي". فقلت: ومن هو؟ فقال: "رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وأَميرُ المؤمِنينَ عليه السلام، وآبائي كُلُّهُم كانوا قَد عَملُوا بأَيدِيهِم، وهو مِن عَملِ النَّبييِّنَ والْمُرسَلينَ والأوصياءُ والصّالِحينَ"[13].

لذا، فإنَّ تعاليم ديننا لا تجيز لنا ترك أعمالنا، ومدّ أيدينا للآخرين، طلبًا للرزق، حتّى في أصعب الظروف. روي عن زرارة: أنّ رجلًا أتى الإمام الصادق عليه السلام، فقال له: إنّي لا أُحسن أن أعمل عملًا بيدي، ولا أُحسن أن أتّجر، وأنا محارفٌ[14] محتاجٌ! فقال له الإمام عليه السلام: "إعْمَلْ، فَاحمِلْ على رَأسِكَ، واسْتغنِ عَن النّاسِ، فإنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَد حَمَلَ حَجَرًا عَلى عُنُقِهِ، فَوَضَعَهُ في حائطٍ مِن حيطانِهِ، وإنَّ الحجَرَ لَفِي مَكانِهِ ولا يُدرى كَمْ عُمقُهُ"[15].

لهذا علينا أن نتّخذ الروايات الكثيرة التي تحفّز على العمل الحثيث، منهجًا نتّبعه في اختيار نوع العمل الذي يناسبنا، اقتداءً بأنبياء الله تعالى وأوليائه الصالحين عليهم السلام الذين كانت لهم نشاطاتٌ على جميع المستويات، مثل: التجارة، والمضاربة، والزراعة، وتربية الماشية، والسقاية، وما إلى ذلك من أعمالٍ كريمةٍ شجّعوا العباد على مزاولتها.

 

رابعًا: التربية على استثمار الموارد

إنّ استثمار الأموال يُعدّ أحد العوامل الأساسيّة في النموّ الاقتصاديّ. وعلى الرغم من ضرورة هذا الأمر، إلا أنّه لا يزال غير متعارفٍ في النشاطات الاقتصاديّة الأُسريّة، إذ أنّ الأُسرة هي المصدر الأساس للاستثمار. لذا، من الضروريّ السعي في إصلاح برنامج تخصيص الأموال وإنفاقها، بحيث يتمّ اجتناب الإسراف، والتبذير، وهدر الثروات، أو خمودها، لكي يتمّ تسخير الاستثمار والادّخار في خدمة التطوّر الاقتصاديّ. وهذه الاستراتيجيّة في تدبير المعيشة تؤدّي إلى القضاء على الفقر والحرمان، وتكون ذخرًا لا ينضب لأبناء المجتمع.

إنَّ المال والثروة - بطبيعة الحال - رصيدٌ للفرد والأسرة والمجتمع على حدٍّ سواء. وبعبارةٍ أخرى: إنّ المال قَوّامٌ عليهما، والخطابات القرآنيّة في هذا المجال جاءت بصيغة الجمع[16]، وذلك للدلالة على أهمّيّة الرصيد المالي وقوّاميّته في المجتمع. وأصل قوّاميّة المال تبيّن لنا أهمّيّة الاستثمار، حتى وإن كانت الثروة بأيدي الناس؛ لأنّ الثروة لو سُخّرت لخدمة المجتمع، وتأمين مصالحه، لن تفقد قوّاميّتها، لكنّها لو ادُّخرت وأصبحت خاملةً، ستفقد هذه القوّاميّة. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّما أعطاكُمْ اللهُ هذهِ الفُضولَ مِن الأموالِ، لتُوجِّهوها حيثُ وَجّهَها اللهُ، ولَم يُعطِكُموها، لتكنِزُوها"[17].

كما أكّد الدين الإسلاميّ على خاصّية العمل والاستثمار في جميع المجالات الاقتصاديّة التي تخدم الأسرة والمجتمع، كالزراعة، والصناعة، والتعدين، والخدمات العامّة، وما إلى ذلك من نشاطات. وتطرّقت المصادر الإسلاميّة إلى هذا الأمر وشجّعت الناس عليه، تحت عناوين مختلفةٍ: إمّا بشكلٍ مباشرٍ، مثل: إصلاح المال، والعمران، والإحياء، وإمّا بشكلٍ غير مباشرٍ، مثل: منع ركود الثروة، وحرمة الإسراف والتبذير، وحرمة إتلاف المال، وترويج مبدأ القناعة، والاقتصاد في استهلاك الأموال[18].

لقد صرّح القرآن الكريم بمشروعيّة جمع الثروة، وأهمّيّة تأمين المصادر الاقتصاديّة واستثمارها في مجال الإنتاج، وأشار إلى أنّ الله تعالى خلق الإنسان من الأرض، وسخّرها له، وأوكل إليه إعمارها، حيث قال: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[19]، وبالطبع، فإنّ عمران الأرض لا يتمّ إلا عن طريق الاستثمار.

هذا ما نجده صريحًا في الروايات المباركة التي تناولت قضيّة استثمار الأموال، روى محمّد بن عذافر، عن أبيه، قال: أعطى أبو عبد الله عليه السلام أبي ألفًا وسبعمائة دينارٍ، فقال له: "اتَّجِر لِي بِها". ثمّ قال عليه السلام : "أَما إنّهُ لَيسَ لِي رَغبَةٌ في رِبحِها، وإنْ كانَ الرّبحُ مَرغوبًا فيهِ، ولكِنِّي أحبَبتُ أن يَراني اللهُ عزَّ وجلَّ مُتعرِّضًا لفَوائدِهِ". قال: "فربحت له فيه مائة دينارٍ"، ثمّ لقيته، فقلت له: "قد ربحت لك فيها مائة دينارٍ"، ففرح أبو عبد الله عليه السلام بذلك فرحًا شديدًا، وقال لي: "أَثبِتْها في رَأسِ مالِي"[20].

كما أوصى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أحد أصحابه أن يشتري مزرعةً أو بستانًا، لأنّ الذي يمتلك رصيدًا مادّيًّا يؤمّن حاجاته وحاجات عياله، لن يعاني كثيرًا، وسيرتاح باله، لو تعرّض إلى نائبةٍ أو حادثةٍ. فقد روى محمّد بن مرازم، عن أبيه: أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال لمصادف مولاه: "اتّخِذْ عقدةً أو ضَيعةً، فإنّ الرّجلَ إذا نزَلت بهِ النّازِلةُ أو المصيبةُ، فذَكرَ أنّ وَراءَ ظهرَهُ ما يقيمُ عيالَهُ، كانَ أسخَى لنفسِهِ"[21].

وأوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس باستثمار أموالهم، وعدَّ ذلك من المروءة، حيث قال: "مِن المروءَةِ استصلاحُ المالِ"[22].

 

خامسًا: إدارة الإنفاق المالي وترشيده

لا ريب في أنّ الدخل المحدود، والإمكانيّات القليلة، وغلاء الأسعار، أمورٌ تحول دون قدرة الإنسان على تلبية جميع متطلّبات حياته الأسرية. لذا، فإنّ حسن التدبير في المعيشة يقتضي تقنين إنفاق الأموال حسب الأولويّات التي تتطلّبها ظروف المعيشة، أي يجب تسخير الأموال لتوفير المتطلّبات الضروريّة، أمّا الأمور الثانويّة، التي لا ضرورة لها، فهي في الدرجة الثانية في سُلّم الترتيب. فلو لم ينتهج الإنسان هذا النهج، ولم يُعِرْ أهمّيّةً لمتطلّبات حياته الأسرية الضروريّة، ولم يقنّن كيفيّة صرف أمواله، بخاصّة إذا كان دخله محدودًا وثابتًا، فسوف يضطرّ إلى الاقتراض، وبالتالي فإنّ القرض يسبّب ضغوطًا تنهك حياة الفرد والأسرة.

لذلك لا بدّ من التصرّف بوعيٍ في كيفيّة تسخير الأموال لموردٍ ما، وإنفاقها فيه. فعلى سبيل المثال: يجب العلم بمقدار الموادّ البروتينيّة اللازمة لجسم الإنسان، ومعرفة مصادر هذه المواد ونوعيّتها، فمن خلال هذه المعلومات يمكن للإنسان أن يشتري ما يحتاج إليه من دون إسرافٍ. فالتدبير الصحيح يقتضي التدرّج في الإنفاق الصحيح، وتعيين الأولويّة في بذل الأموال، ففي بادئ الأمر، يجب الإنفاق في الموارد المهمّة، ثمّ الإنفاق في الموارد الأقلّ أهمّيّةً.

ولا بدّ من تقسيم إنفاق الأموال، وتصنيف ذلك حسب الوقت الذي يتمّ فيه الإنفاق، وحدّ الأموال التي يجب صرفها على المدى القريب - النّفقات الثّابتة - وعلى المديَين المتوسّط والبعيد، فالنّفقات الثّابتة، هي الأموال التي يتمّ إنفاقها يوميًّا، مثل: أجور المأكل، والتنقّل، وإيجار المنزل، والنّفقات التي تُخصّص للاستهلاك في مدّةٍ طويلةٍ نسبيًّا - على المدى المتوسّط - هي التي لا يتمّ إنفاقها يوميًّا، مثل: ثمن الثياب، والأحذية، وما شابههم، أمّا النّفقات التي تُخصّص للاستهلاك على المدى البعيد، فهي التي تؤثّر على اقتصاد الأسرة، مثل: شراء منزلٍ، وسيارةٍ، وسائر الأجهزة المنزليّة. وبالتأكيد لا يمكن توفير هذه النفقات شهريًّا عن طريق الدّخل الشهريّ، لذلك يجب وضع منهجٍ مناسبٍ للنّفقات قريبة الأمد ومتوسّطة الأمد، يمكن من خلاله توفير النفقات بعيدة الأمد[23].

كما يكتسبُ الإنسان الخبرة اللازمة في تنظيم نفقاته من خلال حُسن التدبير، والبرنامج المنظّم لأمور المعيشة الأسريّة، في الموازنة بين متطلّبات الحياة والإمكانيّات المادّيّة المتوافرة، بعد إنفاق ما يلزم. لذلك، فإنّ تدوين مقدار النفقات وتحليلها، من شأنه أن يخفّف الضغط المادّيّ على العائلة ويوصله إلى أدنى مستوًى له، ويقلّص الشعور بالحرمان من السلع والخدمات التي يحتاجها. كما أنّ استخدام الطريقة الصحيحة في تدوين النفقات، من شأنه أن يُقنِعَ بعض أعضاء العائلة المعارضين لبرنامج الإنفاق المتّبع، وهو بحدّ ذاته يحول دون الإسراف[24].  وقد عُبّر عن التدوين في الأحاديث الشريفة، بالتقدير والتدبير، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "التَّقدِيرُ نِصفُ العيشِ"[25].  وعن الإمام عليّ عليه السلام: "قِوامُ العيشِ حُسنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسنُ التَّدبيرِ"[26].  إذًا، تدوين النفقات في مجالات الإنفاق العامّة - وكذلك الخاصّة -، ووضع برنامجٍ صحيحٍ لمداولة الأموال في إطار نظامٍ اقتصاديّ فرديٍّ وجماعيٍّ على جميع المستويات، يعدّ حلًّا ناجعًا للمشاكل الاقتصاديّة.

 

سادسًا: الدخل والكسب الحلال

الدخل هو المبالغ اللازمة، لاقتناء المؤونة، وسائر الأموال التي يَحظى بها الإنسان، أو الأسرة، ومصدر الدخل قد يكون إنتاجيًّا، كأجرة العمل، والربح، والإجارة، أو قد يكون هديّةً أو أيّ مبلغٍ مدفوعٍ ... ويُعدّ الدخل من المواضيع الهامّة جدًّا في التربية الاقتصاديّة للأسرة، وله تأثيرٌ ملحوظ على اختيار أسلوب الاستهلاك الأمثل، كونه عاملًا يحدُّ من كثرة الإنفاق، حيث إنّ الإنسان ذا الدخل المحدود لا يتمكّن من الإنفاق أكثر من وارده الماليّ؛ لأنّ التدبير في المعيشة يُلزِمُه بتخصيص دخله الثّابت لشراء السّلعِ التي يحتاجها فحسب. ولا بد عند الحديث عن دخل الإنسان المسلم بيان ما إذا كان مصدر الدخل لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلاميّة أم لا، أي تمييز الكسب المحلَّل عن الكسب المحرَّم. وبما أنّ الدخل من مواضيع الأحكام الإسلاميّة، فمن الضروريّ للمسلم أن يعلم مصدر تحصيل دخله، وكيف يحصل عليه، وأين ينفقه. عن الإمام علي عليه السلام قال: "إنَّ مَعايشَ الخلقِ خمسَةٌ، الإمارَةُ والعِمارةُ والتِّجارَةُ والإجارَةُ والصَّدَقاتُ"[27].

أقرّت قوانين الشريعة الإسلاميّة حقّ الإنسان في طلب متاعه، والسعي في كسبه، ومنحته الحريّة الكاملة في اختيار طريقة الكسب، إلا أنّها منعته من سلوك طريقٍ منحرفٍ يؤدّي إلى فساده وسقوطه الخلقيّ، أو يتسبّب في المساس بمدنيّة البشر وحضارتهم. فالشريعة الإسلاميّة لم تحرّم جميع المنكرات والفواحش فحسب، بل حرّمت جميع الطرق التي تؤدّي إليها، كإنتاجها، والتوسّط بين الآخرين لتحصيلها، والمعاملة بها، واستخدامها بأيّ شكلٍ كان. أمّا الأحاديث الشريفة فإنّها نهت بشكلٍ عامٍّ عن سلوك أيّ طريقٍ يؤدّي إلى تحقّق الفساد في المجتمع، أيّ أنّها لم تذكر بالتفصيل جميع الطرق المشروعة وغير المشروعة في المعاملات التجاريّة. روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "وأمّا وُجوهُ الحرامِ، مِن البيعِ والشِّراءِ، فكُلُّ أمرٍ يكونُ فيه الفسادُ مِمّا هو مَنهيٌّ عَنهُ، مِن جِهةِ أكلِهِ، وشُربِهِ، أو كِسبِهِ، أو نِكاحِهِ، أو مُلكِهِ، أو إمساكِهِ، أو هِبَتِهِ، أو عاريَتِهِ، أو شَيءٌ يَكونُ فيهِ وَجهٌ من وُجوهِ الفَسادِ"[28].

تجدر الإشارة إلى أنّ بعض الروايات أطلقت على اقتناء المال الحرام عنوان (أكل السُّحت) وعدّته من كبائر الذنوب، إذ نهت عنه نهيًا شديدًا. لذا يجب القول: إنّ المراد من أكل السُّحت لا يعني بالضرورة الأكل والشرب، بل يعني مطلق التصرّفات بالأموال المحرّمة، وعدم إرجاعها إلى أهلها، سواءٌ بتسخيرها للأكل والشرب، أم باقتناء أشياء أخرى بها، كثيابٍ أو منزلٍ، أم مطلق حيازتها وعدم إنفاقها. ففي جميع هذه الحالات يتحقّق موضوع أكل السُّحت، كما هو الحال في حرمة أكل مال اليتيم والمال المكتسب من المعاملات الربويّة، حيث تحرم جميع أنواع التصرّف فيه. ويوجد روايات مستفيضة حثّت الناس على ضرورة السعي في كسب لقمة العيش بطُرُقٍ مشروعّةٍ، نذكر منها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العِبادَةُ سَبعونَ جُزءًا، أفضلُها طَلَبُ الحلالِ"[29]. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم - أيضًا -: "مَن باتَ كالًا مِن طَلَبِ الحلالِ، باتَ مَغفُورًا لَهُ"[30]، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "... فبَكِّروا في طَلبِ الرِّزقِ، واطلُبوا الحلالَ، فإنَّ اللهَ سيرزُقُكُم ويُعينُكُم عَليهِ"[31].

كما نهى القرآن الكريم عن اتّباع الطرق غير المشروعة في الكسب نهيًا شديدًا، مثل أكل المال بالباطل، والرّبا، والظلم، والفساد. أمّا الأحاديث والروايات، فإنّها عدّت هذه الطرق من الكبائر، بل شبّهت بعضها، مثل: الاحتكار، والخيانة، والرّبا، بأقبح الذنوب، كالقتل، لأنّ هذه الأعمال تشلّ النشاط الاقتصاديّ للإنسان، وتسوقه إلى الهلاك التدريجيّ [32]. وللإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام كلامٌ طويلٌ ذكر فيه ما حرّم الله تعالى، منه: "واجتنابُ الكبائرِ، وهي قَتلُ النَّفسِ التي حرَّمَ اللهُ تعالى، وأكلُ الرِّبا بَعدَ البيٍّنَةِ، والبَخسُ فِي المكيالِ والميزانِ، والإسرافُ، والتَّبذيرُ، والخيانَةُ"[33].

 

سابعًا: ترشيد الاستهلاك

يُعدّ الاستهلاك من أهمّ طرق التدبير في المعيشة، وهو من الأبحاث الأساسيّة في مجال الاقتصاد. وهو من الأهداف الأساسية في الإنتاج وتوزيع الثروة، إذ له بالغ التأثير في هذا المضمار. من هنا، وضع علماء الاقتصاد أصلًا اقتصاديّا بعنوان (سيادة المستهلك)، وفحواه: أنّ المستهلك هو الذي يعيّن الإطار اللازم للإنتاج، وتخصيص مصادره، ويحدّد طريقة توزيع الثروة. واستنادًا إلى هذه النظريّة، فإنّ الاستهلاك ليس محض تابعٍ للإنتاج والتوزيع، بل إنّ الانتاج والتوزيع تابعان له من جهةٍ ما. وبعبارةٍ أخرى: هناك علاقةٌ متبادلةٌ بين الاستهلاك من جهةٍ، وبين الإنتاج والتوزيع من جهةٍ أخرى: فالاستهلاك يُعدّ آليّةً هامّةً في كيفيّة الإنتاج.
ولا شكّ في أنّ السياسات الاستهلاكيّة الصحيحة - ترشيد الاستهلاك - لها تأثيرٌ بالغٌ على السياسات الاقتصاديّة، فمن شأنها إيجاد حافزٍ في أسواق الاستهلاك، الأمر الذي يؤدّي إلى زيادة الإنتاج، وبالتالي ارتفاع مستوى الدخل العامّ. ولترشيد الاستهلاك فوائد جمّة، فإضافةً إلى كونه منهجًا ضروريًّا للادّخار والاستثمار، كذلك يُعدّ سببًا أساسيًّا للرقيّ الاقتصاديّ.

 

ثامنًا: الاستهلاك الأمثل واجتناب الإسراف والتبذير

إنّ أُسس الاستهلاك الأمثل في النظريّة الإسلاميّة هي عبارة عن التعاليم التربويّة السامية التي تشكّل منهجًا صحيحًا ومتكاملًا لتدبير المعيشة، ويأتي في مقدمها التوازن في الانفاق واجتناب الإسراف والتبذير.

  • وجوب اجتناب الإسراف: "السّرف هو تجاوز الحدّ في كلّ فعلٍ يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر" [34]. ونستلهم من آيات القرآن الكريم أنّ الإسراف يقابل التقتير، حيث قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقَتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا﴾[35].

تؤكّد تعاليمنا الدينيّة على أنّ الإسراف من الأعمال الذميمة جدًّا، حيث نهى القرآن الكريم نهيًا شديدًا عنه، وكذلك هو الحال بالنسبة للأحاديث الشريفة. فالله تعالى عدّه من السُّنَن الفرعونيّة: ﴿... وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾[36]، وتوعّد المسرفين بعذابٍ أليمٍ: ﴿... وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾[37]. ويُعدّ الإسراف في استهلاك الموارد الطبيعيّة تعدّيًا على حقوق الآخرين، وإهدارًا للثروة العامّة التي هي حقٌّ لجميع البشر والأجيال كافة. وحسب الرؤية الإسلاميّة، فإنّ نتيجة الإسراف والإنفاق المفرط  ليست سوى إهدار الثروة العامّة، وبالتّالي حرمان الشّعب منها. قال الإمام عليّ عليه السلام في هذا الصدد: "السَّرفُ مَثواةٌ"[38].  وذلك لأنّ الإسراف خروج عن مستوى التوازن، أي عن حكم العقل والإذعان لأهواء النفس. فهو إهدارٌ للنعمة التي أكرم الله تعالى بها عباده، لإمرار معاشهم. ونتيجة هذا الإهدار هي البعد عن رحمة الله تعالى ورضوانه[39].  فكما أنّ للمجتمع حقًا في الأموال العامّة، كذلك فإنّ له حقًا - أيضًا - في أموال الناس الخاصّة، وبما أنّ الإسراف يُعدّ تعدّيًا على حقوق المجتمع، فالنتيجة أنّ الإسراف في الأموال الخاصّة غير جائزٍ. يقول العلامة الشهيد مرتضى مطهّري رحمه الله في هذا الصدد: "إنّ الإسراف، والتبذير، وأيّ استخدامٍ غير مشروعٍ للأموال، ممنوعٌ. والمنع هنا ليس ناشئًا من حرمة هذا العمل فحسب، بل لأنّه - أيضًا - يُعدّ تصرّفًا في الثروة العامّة من دون إذنٍ. فهذا المال، وإن كان خاصًّا، فهو متعلّقٌ بالمجتمع - أيضًا -"[40].

  • وجوب اجتناب التّبذير: التبذير: التفريق، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكلِّ مُضيِّعٍ لماله، فتبذير البذر: تضييعٌ في الظاهر لمن لم يعرف مآل ما يلقيه[41]. والتبذير يخصّ الحالات التي يصرف فيها الإِنسان أمواله بشكلٍ غير منطقيٍّ وفاسدٍ. وبتعبيرٍ آخر: إنّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه، ولو كان قليلًا، بينما إذا صُرِفَ في محلِّه، فلا يُعدّ تبذيرًا، ولو كان كثيرًا[42]. لذا، فإنّ إهدار المال وإنفاقه عبثًا يُعدّ من الأفعال المحرّمة دينيًّا، سواءٌ أكانت هذه العبثيّة من الناحيّة الكمّيّة أم من الناحية النوعيّة، إذ يجدر بالإنسان أن يأخذ بعين الاعتبار الجوانب النوعيّة لمؤونته التي يقتنيها، ومدى كفاية المصادر الإنتاجيّة والخدماتيّة التي يعتمد عليها في معيشته، أي عليه أن يسخّر كلّ مصدرٍ إنتاجيٍّ أو خدماتي، بطريقةٍ يمكنه معها بلوغ أقصى درجات الاستثمار، لكي يستغلّ طاقته الكامنة بشكلٍ أمثل، والقرآن الكريم بدوره عدّ المبذّرين إخوانَ الشياطين، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾[43]. أمّا كون المبذّرين إخوان الشياطين، فذلك لأنّهم كفروا بنعم الله، حيث وضعوها في غير مواضعها تمامًا، كما فعل الشيطان مع نِعم الله تعالى، ثمّ إنّ استخدام (إخوان) تعني أنّ أعمالهم متطابقةٌ ومتناسقةٌ مع أعمال الشيطان، كالأخَوين اللَّذَين تكون أعمالهما متشابهةً[44]، وبتحريم الإسراف والتبذير، والمنع من اكتناز الأموال، والتشجيع على الإنفاق، فإنّ ديننا الإسلاميّ يكون كفيلًا بوضع منهج مناسب لاجتثاث الاختلافات الطبقيّة من المجتمع، إذ يتمّ ذلك عبر إتاحة الفرصة للطبقة المحرومة، لاستثمار ما كان زائدًا عن حاجة الأثرياء، الأمر الذي يؤدّي إلى تقليص الفارق الطبقيّ، ورفع المستوى المعيشيّ للفقراء.

كما أنّب القرآن الكريم المسرفين والمبذّرين تأنيبًا شديدًا، وذمّ تصرّفاتهم في موارد كثيرة، حيث أكّد على أنّهم سيُحرَمون من محبّة الله تعالى: ﴿... كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[45]، كما قال تعالى في الصدد نفسه: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[46].

 

خاتمة

لقد بات من الواضح أنّ التربية العشوائية أو العفوية تبدّد الطاقات والجهود، وتخلق الاضطراب والبلبلة في المجال النفسي والسلوكي، وتحرّف الأهداف والغايات التربوية عن مسارها الحقيقي؛ ومن هنا كانت الحاجة إلى منهج تربويّ ثابت في اُصوله واضح في مقوّماته وموازينه ضرورة من ضرورات التربية، فهو الذي يرسم للتربية مسارها السليم المتوازن، ويحدّد لها معالم طريقها، ويوجّه الجهود والنشاطات والبرامج التربوية لتقرير المفاهيم والقيم الصالحة والسامية في الواقع الانساني. وقد بذل العلماء والباحثون والمتخصّصون في شؤون التربية جهودًا كبيرة ومتواصلة للتوصل إلى منهج تربوي يستندون إليه في انطلاقاتهم نحو تربية الانسان والمجتمع على أُسس سليمة وصالحة، ولم تتوقّف هذه الجهود قديمًا وحديثًا ولا زالت مستمرة، إلاّ انها لم تتفق على نقاط مشتركة يمكنها أن تكون ميزانًا ومعيارًا للجميع؛ لاختلاف العلماء والباحثين في متبنيّاتهم العقائديّة والفكريّة، ولاختلافهم في معرفة القوى المؤثّرة في حركة الكون والحياة والمجتمع والتاريخ.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

 

 


[1]سورة البقرة، الآية 215.

[2]سورة البقرة، الآية 195.

[3]سورة التوبة، الآية 34.

[4]الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، كتاب العشرة، باب حقّ الدار، ح14، ص 668.

[5]سورة الحجرات، الآية 10.

[6] الحراني، ابن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لاط، قم المقدّسة، منشورات الشريف الرضيّ، لات، ص263.

[7] الطبرسي، الفضل بن الحسن: مكارم الأخلاق، ط1، طهران، منشورات دار المعرفة، 1365هـ.ش، ص458.

[8] الكليني، الكافي، مصدر سابق ، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا...، ح20، ص135.

[9] الكليني، الكافي، مصدر سابق، كتاب المعيشة، باب عمل الرجل...، ح1، ص86.

[10] سورة الإسراء، الآية 34.

[11] الحراني، تحف العقول، مصدر سابق، ص409.

[12] سورة البلد، الآية 4.

[13] الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، كتاب المعيشة، باب ما يجب من الاقتداء بالأئمّة عليهم السلام، ح10، ص75-76.  

[14] المحارف: المحروم، يطلب فلا يُرزق، وهو خلاف المبارك.

[15] الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، كتاب المعيشة، باب الحثّ على الطلب...، ح14، ص67-77.  

[16] وردت في القرآن الكريم عبارات عديدة بصيغة الجمع في هذا المجال، مثل: ﴿خلقَ لكم﴾، ﴿جعلَ لكم﴾، ﴿للنّاس﴾، ﴿رزقًا لكم﴾...

[17] الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج4، أبواب الصدقة، باب في أداء المعروف، ح5، ص32.

[18] الحسينيّ، رضا: نمط توزيع الدخل وسلوك المستهلك المسلم (اُلكوي تخصيص درامد ورفتار مصرف كننده مسلمان)، ط1، لام، منشورات مركز الثقافة والفكر الإسلاميّ، 1379هـ.ش، ص159.

[19] سورة هود، الآية 61.

[20] الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، كتاب المعيشة، باب ما يجب من الاقتداء بالأئمّة عليهم السلام، ح12، ص76.

[21] الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، كتاب المعيشة، باب الدين، ح5، ص92.

[22] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ح3616.

[23] رزاقي، إبراهيم: الأنموذج الأمثل في الإنفاق والهجمة الثقافيّة

[24] رزاقي، أنماط الاستهلاك والغزو الثقافي (الكوي مصرف وتهاجم فرهنكي)، مصدر سابق، ص187-188.

[25] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ح5904، ص416.

[26] الآمدي، غرر الحِكم ودرر الكلِم، م.س، ح6807

[27] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، قم المقدّسة، مطبعة مهر، 1414هـ.ق، ج19، كتاب المضاربة، باب استحباب الزرع، ح10، ص35. 

[28] د. ستغيب، عبد الحسين: كبائر الذنوب (كناهان كبيرة)، ط6، لام، لان، 1363هـ.ش، ج1، ص384-385

[29] الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، كتاب المعيشة، باب الحثّ على...، ح6، ص78.

[30] ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين(الصدوق): الأمالي، المجلس48، تحقيق ونشر تحقيق مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، 1417هـ.ق، ح9، ص364.

[31] الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب الحثّ على...، ح8، ص78-79.

[32] الحكيمي، المعايير الاقتصادية في السيرة الرضوية(معيارهاى اقتصادى در تعاليم رضوى)، م.س، ص55.

[33] ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين(الصدوق): عيون أخبار الرضا عليه السلام، لاط، طهران، منشورات الأعلميّ، لات، ج2، ص125.

[34] الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، م.س، مادة "سرف".

 [35]  سورة الفرقان، الآية 67.

[36] سورة يونس:الآية 83.

[37] سورة غافر:الآية 43.

[38] المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج68، ص347.

[39] مير معزيّ، حسين: نظام الإسلام الاقتصاديّ(نظام اقتصادى إسلام)، ط1، إيران، منشورات المؤسّسة الثقافيّة للعلم والفكر المعاصر، 1378هـ.ش، ج2، ص102.

[40] مطهّري، إطلالة على النظام الاقتصادي في الإسلام(نظرى به نظام اقتصادى اسلام)، م.س، ص55-56. أ

[41] الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة "بذر". 

[42] الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج8، ص452.

[43]  سورة الإسراء:الآية 27

[44] الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج8، ص453.

[45] سورة الأنعام:الآية 141

[46] سورة الأعراف:الآية 31.

أضيف بتاريخ: 20/03/2024