مقالات داخليّة

الغرب وتجذّر عقليَّة الهيمنة على الأخر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المُقدِّمة

ليس من المبالغة القول إنَّ النهضة الغربيَّة الحديثة والمُعاصرة قد اكتنفتها فكرة الهيمنة على الآخر والسيطرة عليه ما جعله مُنقادًا لقِيمها وقوَّتها الخارجيَّة.ففي اللحظة المفصليَّة لانتقال الغرب من سلطة الكنيسة -في عصر النهضة الأوروبيّ- إلى عالمٍ جديدٍ عُنوانه التقدّم والتطوّر والإبداع، كان فلاسفته يُنظِّرون لعقيدة التفوّق وامتلاك كافّة مقوّمات النهوض بالإنسان وبناء حضارة جديدة، بالإضافة إلى عقيدة "دونيَّة الآخر" وعدم قُدرته -بما يمتلك من قِيَم حضاريّة وإنسانيَّة- من الوصول إلى مراحل الغرب الحضاريَّة المتطوِّرة، لذلك أخذ الغرب على عاتقه فيما عُرف بالحركة الكولونياليَّة مَهَمَّة نقل ثقافته الغربيَّة إلى الشعوب الأُخرى؛ لا بل ألزام الشعوب الأخرى بقيم الثقافة الغربيَّة، ومن هنا كانت سلسلة اضطهاد الشعوب واستعمارها والتي ترافقت في الظاهر مع عزوٍ عسكريّ وخارجيّ مادّي، بينما كانت تُخفي -في الممارسة العمليّة- نوعًا من تغيير الأفكار والوعي كمُقدِّمة لتغيير السلوكيَّات.

لا نجافي الحقيقة إذا ادّعينا أنَّ هذا الأمر كان دَيْدَن الغرب وما زال، وانتقل بقوَّة أكبر للنموذج الأمريكيّ الذي تمكَّن بعد الحرب الباردة -بفعل قوَّته العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة- من فرض نموذجه الخاص من القيم، وشرع بعمليَّات التخطيط وإنتاج الأبحاث والدراسات، للانتقال إلى القطبيَّة الواحدة والتي تعني بوضوح هيمنة القيم الأمريكيَّة الغربيَّة وإلغاء القيم الأخرى.

أمَّا الأهداف المتوخّاةلم تكنْ كما هو الادّعاء العلنيّ، أي نَقل الشعوب الأُخرى إلى نعيم الحضارة والتقدُّم والتطوّر ومُحاربة الجهل والتخلّف، بل الحقيقة أنَّ السيطرة التي تضع كلّ الإمكانيَّات والقُدرات والثروات ومصادرها في أيدي المركز، أي النظام الأمريكيّ العولمي. وإذا كان الأمريكيّ على وجه الخصوص والغربي بشكل عامّ قد انتهج طريقة الغزو والإلغاء الخشن عبر حروبه وغزواته وتوسيع مُستعمراته، إلّا أنّه أدرك مدي فاعليّة هذا النمط من الهيمنة فابتدع نهجًا آخر، أكثر دقةً ونجاحًا وفاعليّة في تطويع الآخرين.

سنُحاول في هذه الصفحات القليلة التركيز على فكرة الهيمنة الغربيَّة كونها استراتيجيَّة محوريَّة حَكَمَت ذِهنيَّتهم، ودخلت في تفاصيل مُنطَلقاتهم الثقافيَّة والحضاريَّة، لنُبيِّن أنَّ الغرب يعمل من مُنطَلَق الهيمنة على الآخر والسيطرة عليه وإلغاء وُجُودِه -وليس من أي مُنطَلَق آخر-. إنَّ هذا النوع من الأبحاث يحتاج إلى كتابات موَسَّعة ومُفَصَّلة تُبيِّن المُنطَلقات والمبادِىء والخُطَط والسلوكيَّات الغربيَّة اتّجاه الشعوب الأخرى وهو خارجٌ بالتأكيد عن قُدرة هذا المقال على احتوائه، وقد دُوِّن الكثير في هذا الخصوص، لذلك سنكتفي بالإشارة إلى مُنطَلقَات الهيمنة الغربيَّة على لسان الغربيّين أنفسهم.   

 

مفهوم الهيمنة والمُصطلحات الرديفة:

بدايةً، لا بُدَّ من التوقّف عند معنى الهيمنة، وإنَّ ما يناسب المقال هو تجنّب التعريفات اللغويَّة والاستفادة من تقريرات مُنظِّري الحرب الناعمة؛ إذ تساعد أفكارهم في جلاء الصورة الحقيقة عما يراد من المفهوم. تحدّث كل من جوزيف ناي Joseph Nye وروبرت كوهين Robert Keohane عن المقصود من الهيمنة فعبّرا أنّها عبارة عن: "وجود قُوَّة دُوليَّة مُسيطرة، تكون لها الغلبة في المصادر الماديَّة، وتتوافر لديها القوَّة والإدارة اللازمة لصياغة قواعد للتفاعل فيما بين الدول في النظام الدوليّ". إنَّ ما يَظهر -ممّا تقدّم- هو استغلال الترسانة العسكريَّة الغربيَّة بهدف فرض النمط الثقافي والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ على العالم[1].

يُمكن القول إنَّ مفهوم الاستلاب المُستخدم في اللغة العربيّة هو الأكثر دلالةً على التبعيَّة للآخر والهيمنة بخاصَّة في الموضوع الثقافيّ، والمقصود هنا حالة الانسلاخ من الهويّة الذاتيَّة الثقافيَّة والتبعيَّة للآخر، الأمر الذي يترتّب عليه إلغاء الآخر وطمس هُوِّيَّته وتحويله إلى تابع للثقافة الأخرى بكلّ ما تمتلك من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيَّات[2]. وهذا هو دَيْدَن الإدارة الأمريكيَّة في تعاملها مع الشعوب الأخرى، ومن هذا المُنطلق يشير الكاتب الأمريكي هربرت شيلرHerbert Schiller  إلى مفهوم الإمبرياليَّة الثقافيَّة أنَّها: "مجموع العمليَّات التي تُستخدم لإدخال مُجتمع ما إلى النظام العالميّ الحديث، ولاستحالة الطبقة المُهيمنة فيه والضغط عليها وإجبارها كي تُشكِّل المؤسّسات الاجتماعيَّة في اتّساقٍ مع قيم المركز المُهيمن في النظام..."[3].

إنَّ من جملة المفاهيم التي تُستخدم للتعبير عن الهيمنة هي "التنميط" و"القولبة". أمَّا التنميط فهو تقديم صورة عن الآخر تتّسم بالجُمود وعدم التغيير، وتشير إلى عدم الاكتراث به. ويحدث التنميط نتيجة تشويهِ الحقائق والتعميم المُفرط غير المستند إلى الواقع. وإذا كانت وسائل التنميط عديدة وكثيرة إلا أنّ وسائل التواصل والاتصال اليوم هي من أكبر العوامل المسؤولة عن إنتاج التنميط وتَغذِيته.

يلجأ الغرب عمومًا والأمريكيّ خصوصًا إلى تشكيل صور نمطيَّة عن الآخرين بخاصَّة أعداءه، ما يُسهّل إسقاط هويَّاتهم والتقليل من قيمة ومَكَانة قِيمهم، وبالتالي زرع بذور السقوط وعدم الثقة في أنفسهم عدا عن عدم قُدرتهم على إقناع وجَذْب الآخرين، ما يُهيّء ظروف السيطرة الثقافيّة، بعد أن يكون الغربي قدّم ما تمتاز به ثقافته من مقدار تفوّقها على الثقافات الأخرى.

لقد سبق لأمريكا أن استخدمت التمنيط ضد الهنود الحمر فبرّرت إبادتهم، وقدّمت صورة عن السود لتعمد إلى استبعادهم، وما زالت تستخدم الأسلوب عينه ضدّ الشعوب الأخرى للتقليل من إنسانيّتهم بهدف تسويغ استخدام العنف ضدهم. من هذا المنطلق يستخدم الأميركيّون والغربيّون مجموعة من الشعارات للدلالة على التنميط: نحن طيّبون وهم أشرار، عدوّنا يقود مؤامرة دوليّة ضدّنا ويُهدّد الحضارة الغربيّة، نحن ندافع عن العالم الحر ولا بدّ أن نتحمّل خطر الدفاع عن الحرية، وغيرها من الشعارات[4].

 

الأهداف الحقيقيّة

لقد أسهم البعض في جلاء الصورة عن الأهداف الكامنة من وراء السياسات التي تتّبعها القوى المسيطرة، والتي تُسخّر لتحقيقها كافّة الأدوات والوسائل وأشكال التطوّر التقنيّ والتكنولوجيّ. يرى المؤرّخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold J. Toynbee: "إنَّ مَهَمَّة أوروبا هي جمع العالم الإنسانيّ كلّه في مجتمع كبير واحد، والسيطرة على كلّ شيء فوق الأرض وفي البحار والأجواء التي ستصل إليها الإنسانيَّة عن طريق التقنيَّة الحديثة"[5].

كما يوضّح المفكّر الفرنسي روجيه غارودي Roger Garaudy حقيقة الطروحات الحاليّة وما تُخفيه من أهداف على مستوى الهيمنة والسيطرة على الآخر قائلًا: "إنَّ طريق الهيمنة الذي أخذ اليوم اسم العولمة، أضحى مُمَهِّدًا جدًّا، وهذا الطريق يضرب بجذوره إلى آلاف السنين منذ أسطورة الشعب المُختار التي برّرت إبادة الآخرين... وهذا ما سمّته أوروبا بالحضارة. كما لو كان ذلك حِكرًا عليها لتعطي لنفسها الشرعيّة لاستبعاد واستعمار الشعوب الأخرى، أمَّا قادة الولايات المتحدة الأمريكيّة فقد جعلوا مَهَمَّتهم قيادة العالم لإقامة نوع من العولمة، أي نظام وحيد خاضع لما أسماه مُنظّريها بقانون السوق"[6].

 

الهيمنة الأمريكيَّة في الممارسة

لا شكّ أنّ نهاية الحرب الباردة دَفعت بالولايات المتّحدة إلى البحث بشكل جادّ عن مكامن وآليَّات تفوّقها وسيطرتها على العالم، وقد برّر الأمريكيّ لنفسه هذه النزعة كون العالم يَبحَث عن "قائد" والولايات المتحدة الأميركيَّة هي التي تستحق القيادة بكل ما للكلمة من معنى، فهي تمتلك كافّة مقوّمات النهوض والتقدّم والتحضّر والاستقرار-بحسب زعمها-، لذلك تمَّ تسريع عمليّة توظيف الثقافة الأمريكيَّة لإنتاج قوَّة ناعمة ذات تأثير جَلي وواضح.

انطلاقًا ممّا سبق، اعتمد الأمريكيّ على عناوين أساسيّة لإثبات تفوّقه من جملتها:

  • رواج وانتشار اللغة الاتجليزية: لغة التخاطب اليوميّ ولغة التجارة والأعمال والتكنولوجيا.
  • نشر نمط الحياة: عمد النموذج الأمريكي إلى نشر أنماط حياته بدءًا من المأكل والملبس وصولًا إلى التقاليد التي أخذت بالانتشار نتيجة شعور الشعوب الأخرى بالحاجة اليها.
  • الترويج للمُنتجات الإعلاميَّة الأميركيَّة: لقد تصدّرت المنتجات الإعلاميَّة المرئيَّة والمسموعة الأمريكيَّة قائمة العلامات التجاريَّة، ما منحها تفوّقًا اقتصاديًّا، فقد حازت الولايات المتحدة على أكثر من 62% من العلامات التجارية في العالم[7].

هذا إن دلَّ على شيء، وكما أثبت المُنظّرون، فهو أنّ الولايات المتحدة تبني قوّتها الناعمة والتي يمكن بواسطتها فقط تشويه ثقافات الآخرين والحطّ من قِيَمهم ليبادروا بأنفسهم إلى ترك حاضنتهم الحقيقيَّة واللجوء إلى الآخر الأمريكيّ -الغربي.

إنّ انغماس الفرد في استهلاك مواد الثقافات الغربيَّة المُهيمنة من خلال مُختَلف قنوات الاتّصال كفيلٌ بصرفه عن قِيَمه وموروثاته الاجتماعيَّة، وتعويضها تدريجيًّا بتلك الثاقفات، بحيث يَنتُج عن ذلك سلوكٌ مُفعمٌ بالصراع والتناقض النفسيّ والسلوكيّ، ليتحوّل بعد ذلك إلى استلابٍ كاملٍ. وقد اعتمد الأمريكيّ في طريقته للهيمنة على أُسلوبين[8]:

  1. الهيمنة القسريّة: قائمة على فكرة القوّة والإكراه وتعظيم التفوّق العسكريّ وعدم التردّد في تجاوز الشرعيَّة الدوليّة إذا ما استدعت المصالح الاستراتيجيّة الأمريكية ذلك.
  2. الهيمنة الرضائيَّة: تستند إلى مصادر القوّة الناعمة وتَبَنّي خطابًا دعائيًّا يتفنّن في إقناع العالم أو إيهامه بخيريَّة مقاصد الهيمنة الأمريكيَّة، وضرورتها لحِفظ الاستقرار العالميّ وتحقيق المنفَعة العالميَّة. كما تحاول تلك الهيمنة -في الوقت ذاته- تحرّي الاعتدال والعقلانيَّة والنأي بنفسها عن الغطرسة والإسراف في استخدام القوّة والتخلّي عن الإمعان في خلخلة قواعد الشرعيَّة الدوليَّة وزعزعة الأُسس والأعراف التي يقوم عليها الاستقرار العالميّ -ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا-.

 

خاتمة القول:

لا يمكن قراءة أسباب ومظاهر التحضّر الغربيّ على أنّها مجرّد أُمور تَندَرِج في إطار التحضّر ونشر الوعي والثقافة والإعلاء من شأن البشريَّة وكلّ المدّعيات الأخرى الشبيهة، بل تبيّن وجود أهداف خَفِيَّة أخرى تَظهَر بين الحين والآخر، وفي طيّات الكتابات والتحليلات والخطط، ومن أبرزها استراتيجيَّات التغيير الناعم واستعباد الآخر والنظر إلى الشعوب الأخرى نظرةً دونيَّة، إلَّا في سياق السيطرة والهيمنة والتبعيَّة للأمريكيّ صاحب نظريَّات الاتّجاه العولميّ الذي يرى الإنسانيَّة من مِنظار الفائدة والمَنفعة التي يجنيها حتّى لو كانت الأمور على حساب القيم والأخلاق؛ وبالتالي ليس من المنطقي أن ينظُر أصحاب الأيديولوجيَّات بخاصَّة الدينيَّة منها إلى الأمريكيّ نظرة إيجابيَّة، فليس مقبولًا التعامل مع الأمريكيّ من مُنطلق كونَه الرافعة الوحيدة للتقدُّم والتطوّر والتحضّر، فبذور الشكّ والشبهات دائمًا ماتحوم حول كل ما يُنتجه إلى أن يثبُت العكس...

 

والحمد لله ربِّ العالمين   

 


[1]  الهيمنة الغربية.. المؤشرات القوية على الانهيار، د. مولاي المصطفى البرجاوي، نُشر على شبكة الألوكة.

[2]  وسائل الاعلام واستراتيجيات الاقناع والهيمنة الثقافية، سعاد عبيدي، وابو القاسم سعدالله، مجلة دراسات في علم اجتماع المنظمات، العدد 3، 2014.

[3]  المصدر نفسه

[4]  راجع: القوة الناعمة والهيمنة الفكرية والثقافية للسينما الأمريكية في العالم، أحمد شريف بسام وحمدي وردة، مجلة العلوم الانسانية، الجزائر، العدد 2، 2022.

[5]  وسائل الاعلام واستراتيجيات الاقناع والهيمنة الثقافية، سعاد عبيدي، وابو القاسم سعدالله، مجلة دراسات في علم اجتماع المنظمات، العدد 3، 2014

[6]  روجيه غارودي، الارهاب الغربي، ترجمة سلمان حرفوش، دار كنعان، دمشق 2008

[7]  مقتربات القوة الذكية كآلية من آليات التغيير الدولي، أحمد قاسم حسين، مجلة سياسات عربية، قطر، 2018، العدد 32

[8]  راجع كتاب: امبراطورية المحافظين الجدد، التضليل الاعلامي وحرب العراق، وليد شميط، دار الساقي، بيروت، 2004، ص 123

أضيف بتاريخ: 23/05/2024