بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الباحث شادي العلي
لم تترك الحضارة الغربيَّة على مدى مسيرها أي طفرة علميَّة إلّا ووظّفتها كأداة لبسط هيمنتها على الشعوب المُستضعفة، بعض هذه الأدوات كان هديره يصمّ الآذان مثل القنابل النووية، وبعضها قد يكون أقوى خطرًا وتأثيرًا ولكنّه يؤدّي دوره في صمتٍ مثل الشبكات الاجتماعية! التي يتمّ توظيفها ضمن آليَّات الحرب الناعمة ضدّ المجتمعات المُستهدفة، فطبقًا لـ(فون كلوزفيتز) فإن أدوات صراع الحضارات طالما كانت في تطورٍ دائمٍ بحسب ما يقتضيه زمان ومكان الحرب[1]، وفيما كانت أهداف حروب الماضي هي إخضاع العدو والسيطرة على الأرض والسيادة والموارد، أصبحت حروب الجيل الجديد تستهدف إخضاع الإنسان للقيم والأفكار وطُرق تفكير الحضارات المُنتصرة، وهنا برزت محوريَّة ثورة الاتّصالات وعلوم الخوارزميَّات والشبكات الاجتماعيَّة، يقول (هنري كيسنجر): "الثورة في عالم الاتصالات والمعلوماتية هي الأولى في التاريخ في إيصال هذا العدد الكبير من الأفراد والسيرورات إلى أداة التواصل نفسها وتُترجم وتتعَّقب تحرّكاتهم بلغة تكنولوجيَّة واحدة"[2].
نستطلع في العدد 13 من تقرير أفق الصادر عن "مركز المعارف للدراسات الثقافية" بعنوان "مخاطر الشبكات الاجتماعية على الشباب"، بشكل تفصيليّ كيف فتحت خوارزميَّات الشبكة الاجتماعيَّة الباب على مصراعيه لمن يمتلك زِمام التكنولوجيا لإعادة هندسة المجتمعات المُستهدفة طبقًا لأهداف ورؤية محدَّدة، وتُثبت الدراسة بالأدلّة العلميَّة أنَّ الشبكات الاجتماعيَّة في حقيقتها ليست أداة تكنولوجيَّة مُحايدة صُنعت لتنمية التواصل الإنسانيّ وتعميق العلاقات الاجتماعيّة، بل أصبحت أهم أسلحة الحرب الناعمة، حيث يستعرض الباحث بطريقة السرد العكسي تقييم النتائج والآثار الحالية للشبكات الاجتماعية على مجتمعاتنا، مرورًا بالتحليل النظري لآلية عمل هذه الخوارزميات على تفكيك المجتمعات، وانتهاءًا بنماذج على توظيفها من قِبل الحكومة الأميركية ضمن أجندتها في الهيمنة، وذلك من خلال:
ركّز الباحث في دراسته على عرض وتحليل آليات الهندسة الاجتماعية والنفسية التي تقوم بها الشبكات الاجتماعية بالخصوص على فئات الشباب في المجتمعات الإسلامية، نظرًا لحساسية هذه الفئة العمرية للمؤثرات الخارجية وديمومة هذا الأثر مدى حياتهم، وبسبب انفعال فئات الشباب أكثر من غيرها مع الخطاب النيوليبرالي الموجه للغرائز الأساسية، وتتضاعف خطورة الشبكات الاجتماعية على الشباب في المراحل العمرية المبكرة كونها تقطع الطريق على تشكُّل سمات النضج العقلي مثل مهارات معالجة العقل المفاهيم المجردة للقيم واكتساب الأخلاق العالية وتكوّن ما يسمى في علم النفس بـ"الأنا العليا"، ومن خلال دخول الشبكات الاجتماعية في الروتين اليومي للشباب قد يتسبب إبقاء هذه الفئة في مرحلة الطفولة الفكرية، أي مقتصرين على مهارات معالجة الصور الحسية وبناء المواقف والأفكار على أساس الدوافع الذاتية الغريزية، وهو ما نبّه عليه أهل البيت (عليهم السلام) عند التعاطي مع الأحداث، مثل ما روي عن الإمام علي (عليه السلام): ".. وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته، ..“[3]، وما روي عن جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام): "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة."[4].
من خلال قراءة أولية قد يبدو أن جوهر عملية الاتصال بين المجتمعات البشرية هو مشاركة الأفكار والمعلومات والمعاني بين الافراد، وصولًا إلى تحقيق مفهوم “الإعلام” أي الذيوع والانتشار والتأثير في الرأي العام، ولكن مع بداية عصر المعلومات The Information Age[5] والثورة المعلوماتية Information Explosion زاد حجم وكمية المعلومات المنتشرة في مجتمع المعلومات Information Society إلى الحد الذي صعب التحكم فيها مركزيا، فبرزت الحاجة إلى حلول تكنولوجية مثل الخوارزميات، وبعيدًا عن المظهر الحيادي الذي تبدو به منصات التواصل الاجتماعي إلا أنه بالممارسة يتضح أن الخوارزميات تضطلع بدور سياسي خطير من خلال إعمال نظرية الـ”Valve” أي (الصباب)، أو نظرية المصفى فتسمح بمرور أفكار وأخبار بعينها دون غيرها حسب ما تمليه الأجندة السياسية للجهة التي يتحالف معها صانعوا “معايير” هذه المنصات[6].
ولم تعد “المصداقية الإعلامية” وحدها هي المحدد الرئيسي لاتساع مساحة التأثير على الرأي العام، ولكن مع دخول متغير “الشبكات الاجتماعية” تغيرت قواعد “لعبة الرأي العام” جذريًّا، من خلال تدفُّق أنهار جارفة من الأخبار والمعلومات بلغت الدقة في آليات توزيعها إلى حد الفردية في التخاطب مع أشخاص محددين، وامتلاك القدرة على التأثير على آرائهم وتوجهاتهم بسرعة قياسية عبر تكرار المعلومة، والأخطر أن هذه التأثيرات غير قابلة للمحاسبة في حالة ممارستها للتضليل وغير قابلة أيضًا للإثبات إلا بعد جهد تحليلي مضني.
ولأن "التقدم العلمي" المدفوع بالرغبة في الربح والهيمنة غالبًا ما يتقدم ويسبق التطور الأخلاقي الملائم، غالبًا ما كان صوت الضمير والأخلاق غير قادريْن على ضبط استعمال الطفرات العلمية لتحقيق خير البشرية وسعادة وتكامل الإنسان، لذا انتهى الحال بالشبكات الاجتماعية كغيرها من الطفرات العلمية مثل: اكتشاف الديناميت والبارود والقوة النووية وغيرها .. كأداة يوظفها المستكبر لبسط هيمنته على المستضعف ... إلا إذا قرر المستضعفون تحويل التهديد إلى فرصة، ولهذا تفاصيل طرحها الباحث في خاتمة الدراسة.
والحمد لله ربِّ العالمين
[1] كلاوزفيتز، كارل فون، كتاب “عن الحرب”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997م، ترجمة سليم شاكل الإمامي، ص 10 - 15.
[2] كيسنجر، هنري، النظام العالمي، دار الكتاب العربي، بيروت، 2014م، ترجمة فاضل جكتر، ط 1، ص 333.
[3] الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 2000م، ج 3 ص 40.
[4] الكليني، محمد بن يعقوب، الفروع من الكافي، دار الكتب الاسلامية، طهران، ج 6 ص 47.
[5] الشامي، أحمد محمد، حسب الله، سيد، الموسوعة العربية لمصطلحات علوم المكتبات والمعلومات والحاسبات، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2001، ج 2 ص 60.
[6] حاطوم، طلال، الإعلام الحديث؛ جدلية علاقة السياسة والرأي العام، دار بلال، بيروت، 2020، ص 16 - 17.