مقالات داخليّة

القوّة الناعمة في معركة طوفان الأقصى وملحمة غزة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

للوهلة الأولى قد يتصوّر المرء أنَّ الحديث عن القوّة الناعمة في معركة طوفان الأقصى وما نجم عنها من مواجهة وحرب وملحمة في قطاع غزة وعموم فلسطين والمنطقة هو نوع من التركيب والتأويل للنظريَّات والمفاهيم، فلا يعقل أن يجري الحديث عن قوَّة ناعمة في مسرح عمليَّاتٍ شهدَ أقصى أنواع استخدام للقوَّة الصلبة والخشنة والوحشيَّة، التي صنعت مأساة إنسانيَّة لم يشهد لهذا التاريخ حديث مثيلًا، حيث جرى مقارنتها بمشاهد الحربين العالميتين الأولى والثانية.

إلَّا أنَّ التعمَّق في فهم القوّة الناعمة يأخذنا إلى أشدّ معاني تجلّي وتجسّد مظاهر القوّة الناعمة، بمعنى ظهور عناصر القوّة الناعمة لدى قوى المقاومة الفلسطينيَّة ولدى الشعب الفلسطينيّ، وظهور أدنى مراتب القوّة الناعمة لدى العدو الصهيونيّ وداعمه وراعيه الأكبر الأميركي الغربي.

إذا كان مفهوم حرب القوّة الناعمة يُعرَّف وفق جوزيف ناي وغيره من المفكرين والمصادر المرجعيَّة التي تعتمدها وتتبنّاها جامعة أوكفسورد وغيرها بأنها "حرب الرواية والفكرة من خلال استخدام الموارد الناعمة واتّخاذ الاجراءات غير الحركيَّة على المستويات القانونيَّة والثقافيَّة والإعلاميَّة والسياسيَّة والإلكترونيَّة وعلى نطاق حرب المعلومات والعقوبات والحصار وما شاكل"([1])، فإنّ معركة طوفان الأقصى كانت مسرحًا لاستخدام كلّ هذه الموارد جنبًا إلى جنب من استخدام أشدّ أنواع الأسلحة والموارد الخشنة والوحشيَّة من قبل العدو.

فها نحن اليوم نشهد على محاكمة العدو بارتكاب جريمة حرب وجريمة إبادة عرقية وإبادة جنسيَّة بحقّ الشعب الفلسطيني وهي نوع من عمليَّات القوّة الناعمة. كما نشهد اليوم على انتشار القضيَّة الفلسطينية في شتى مدن وعواصم العالم من خلال تظاهرات واحتجاجات بمختلف الأشكال استنكارًا للجريمة وتأييدًا للقضيَّة الفلسطينيَة وصلت إلى الجامعات العريقة في هارفارد واكسفورد وباريس، وقُدّرت بحوالي 9000 آلاف تظاهرة.

كما أنَّ الجمهور العالمي أخذ يقاطع الشركات الداعمة للعدو، وقد خسرت عشرات الشركات الأميركيّة والغربية الداعمة للعدو مئات ملايين المستهليكن جرّاء موقفها المساند للعدو في حربه على غزة وفلسطين، وهذا من مظاهر حرب القوّة الناعمة.

أضِف إلى ما سبَق أنّ وسائل التواصل الاجتماعي سجّلت انتصارًا للقضيَّة الفلسطينيَّة ولرواية المقاومة الفلسطينية مقابل فشل تامّ في الرواية الاسرائيليَّة. فقد فشلت سرديَّة اليهوديّ المظلوم والمضّطهد، وظهرت صورة اليهوديّ المتوحّش والمجرم. وهو ما قاله مثقّفون يهود في الغرب ومنهم نعوم تشومسكي (أميركا) ونعومي كلاين (كندا)، وعدد كبير من النجوم والفنانيين والسياسيين.

وبحكم تغطيتها ودعمها للعدو، خسرت أميركا ومعها الغرب مركزهم الأخلاقي في العالم وهو ما أشار إليه الرئيس الأميركي بايدن، وبمعنى أوضح خسروا قوّتهم الناعمة. فقد تلطّخ وجه أميركا ووجه الغرب بدماء الأبرياء في غزة وفلسطين.

وليس من السهل استرجاع القوّة الناعمة اذا سقطت، لأنّ خسارة المصداقيَّة والمشروعيَّة لموارد القوّة الناعمة – بخاصّة أمام أنظار العالم - بمعطيات وشهادات وأدلّة موثّقة فاضحة تضرب صميم القوّة الناعمة، وإلى ذالك أشار مُنظر القوّة الناعمة البروفيسور جوزيف ناي.

إنَّ العالم كله اليوم -بما فيه نخب غربية وكتل شبابية ناشطة- تنظر إلى أميركا على أنَّها كاذبة ومنافقة في رفع وتبنّي شعارات وقضايا حقوق الإنسان والديموقراطية، وقواعد وأخلاق الحرب، وما تزعمه من نظيرة الحرب العادلة. الحرب التي تُشن على غزة غير عادلة وهي غاشمة وظالمة ووحشيَّة بنظر الغالبيَّة الساحقة من الرأي العام الغربي والشرقي على السواء. وبنظر منظّمة الأمم المتحدة على لسان أمينها العام "غوتيرش"، وبنظر كافّة منظّمات حقوق الإنسان الدوليَّة التي لا تستطع تغطية هذه العدوانيَّة والوحشيَّة التي لا نظير لها.

وتمظهرت قوَّة المعنويات لدى المقاومة الفلسطينيَّة من خلال العمليَّات البطوليَّة والصمود الشعبيّ الهائل مقابل الهزيمة النفسيَّة لدى جيش وشعب الكيان المؤقت. وإلى ذلك أشار سماحة الإمام الخامنئي دام ظله في خطابه قائلًا "إنَّ القوّة الناعمة أكثر نفوذًا وتأثيرًا من القوّة الصلبة وهي أكثر ديمومة على المدى البعيد"([2]). ويتساءل سماحته عن الحاجة إلى الاستثمارات الضخمة بالقوّة الناعمة من قبل أميركا والغرب على مستوى الفن وسينما هوليوود ووسائل الإعلام والتواصل في ظلّ امتلاكهم للقوّة النوويَّة والموارد العسكرية الضخمة؟. ثمَّ يجيب بأنّ التفسير لذلك هو الحاجة إلى موارد القوّة الناعمة الأكثر نفوذًا والأطول أمدًا، وعبّر سماحته "لقد تحرّكت إيران منذ 40 عامًا ونيفٍ باستخدام القوّة الناعمة أكثر من الصلبة". وأضاف سماحته "انظروا كيف استطاع الفلسطيّنيون المظلومون، الذين لا يملكون سلاحًا للدفاع عن أنفسهم، أن يجذبوا أنظار العالم إليهم بمظلوميّتهم وبصبرهم وصمودهم".

إنَّ الجاذبيَّة نحو القضيَّة والرواية والسرديَّة هي جوهر القوّة الناعمة، وفي تطبيقنا لهذا المفهوم على معركة طوفان الأقصى نجد أنَّ المقاومة الفلسطينيَّة ربحت معركة القوّة الناعمة، فيما خسر الكيان الصهيونيّ هذه المعركة رغم إنفاقه مليارات الدولارات واستعانته بالقوّة الناعمة لأميركا والغرب في هذه المعركة.

خسر العدو أمام الرأي العام العالمي الذي نبذ صورة الكيان المزيّفة والمتوحشة، وخسر أمام الغالبيّة الساحقة من الدول التي أدانته في الجمعيَّة العامّة للأمم المتحدة -بغالبية 155 صوتًا- طالبت بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني وبإقرار حقّه في تقرير مصيره. وخسر العدو في محكمة العدل الدوليّة رغم عدم صدور حكم وقرار بالإدانة، لكنّه وضع في قفص الاتهام.

في نفس السياق، نطرح السؤال الآتي: ما الذي ربحته المقاومة الفلسطينيّة بكافة فصائلها وخاصّة كتائب القسام وسرايا القدس وكيف حصل لها ذلك وبأية موارد؟.

إنَ النظر إلى الموارد التي استخدمتها المقاومة الفلسطينيَّة تكشف عن قوّة ناعمة وقوّة عقائديَّة إيمانيَّة هائلة كامنة صنعها نفس عمليّة طوفان الأقصى، أذهلت العدو والصديق بدقّتها وقوّة وعبقريّة مُخطّطيها ومنفّذيها، وهو ما بدّل صورة وسرديَّة وأسطورة العدو في مجال الاستخبارات والأمن والتكنولوجيا، وضربها في الصميم. كما ربحت من خلال تجهيز واستخدام شبكة الصواريخ التي تمكّنت المقاومة من صُنعها في أصعب الظروف بإمكانات صناعيَّة محليّة وعقول وتقنيَّات محليّة رغم المساعدة النموذجيّة من محور المقاومة.

وفي نفس السياق، إنَّ بناء شبكة الأنفاق التي تمّ حفرها حصل بتكتمٍ شديد وجهد هائل بعيدًا عن أعين العدو وفي ظروف معقّدة وصعبة، أذهلت العدو وأذهلت الصديق، وهذا من موارد القوّة الناعمة، فالمراقب سواء أكان عدوًا أو صديقًا يقف على ما هو خلف حفر الخندق من قوّة التخطيط والبصيرة وقوّة الصبر والإيمان والثبات، وهذه قيم ومعاني وصور لا تُمحى من الذاكرة والذهن والنفس، أي ربحت معركة العقول والقلوب.

نعم، ربحت المقاومة الفلسطينيّة بإنتاج الفيديوهات المصوّرة المُتلفزة التي تحكي وتصوّر بطولات المقاومين في وضع العبوة على متن الدبابة، وفي التصدّي للعدو من المسافة صفر، وفي جعل العالم ينتظر خطاباتها وأشرطتها المصورة، بخاصّة خطاب الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة.

نفهم من ما سبَق أنَّ القوّة الناعمة تتولّد من رحم القوّة الصلبة في الكثير من الأحيان، وهي ليست معلّقة في الفضاء، فالقوّة بكافة أشكالها، صلبة وناعمة، مصادرها ومواردها مشتركة ومتداخلة. 

 في الخلاصة نجد أنَّ معركة طوفان الأقصى وملحمة غزّة شهدت أكبر سقوط للقوَّة الناعمة الصهيونيَّة والأميركيَّة والغربيَّة، مقابل صعود القوّة الناعمة للمقاومة الفلسطينيَّة وللقضيَّة الفلسطينيَّة، ولمحور المقاومة. وهذا ما يحتاج إلى جهود جبّارة وكبيرة لنشره وتعليمه للجيل الحالي وللأجيال القادمة، في إطار الحرب الطويلة والمستمرّة مع العدو؛ وهذا ما أوصى به القائد الخامنئي دام ظله.

الحمد لله ربِّ العالمين

 

 


[1] الحرب الناعمة المتحورة، مركز المعارف للدراسات الثقافية، 2022، ص 15 – 20.

[2] كلمة القائد في جمع من منشدي وذاكري مناقب أهل البيت عليهم السلام بتاريخ 3/1/2024.

أضيف بتاريخ: 18/07/2024